عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الآلام منبهات لليقظة والحركة

الآلام منبهات لليقظة والحركة

إن اؤلئك السكارى بغررو القدرة والظفر ، الذين نسوا الأخلاق الإنسانية بسبب غلبة المغريات على عقولهم وأرواحهم ، قد تقدر الحوادث المرة في أطراف الأرض على أن تكون أرضية لتغيير أفكارهم ويقظتهم ، وأن تهتك الحواجز عن عقولهم ، وأن تهديهم إلى صراط مستقيم نحو كمال إنسانيتهم والبلوغ بهم من حالهم إلى مستقبل مثمر وسعيد ، وكثير من تحوّل من حاله السافل إلى مستقبل حافل على أثر هذه الحوادث والآلام .

إننا بالنظر إلى الآثار الضارّة والموحشة للغرور والغفلة ، والدروس التربوية الكثيرة التي يتلقاها البشر من هذه الحوادث ، نستطيع القول بأن هذه الحوادث والآفات ـ مع كونها شروراً نسبياً ـ تحتوي على نعم كثيرة وألطاف خفية توقظ الإنسان وتصنع له إرادته الواعية والجادّة .

إذن فالشدائد من مقدّمات التكامل في الوجود ، وهي التي تمهد الأرضية لتقييم القيم والمثل والإثابة عليها ، وبها تستبين مراتب الإخلاص والكمال أو الانحطاط في الإنسان ، ويقول القرآن الكريم بهذا الشأن : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد )(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة البلد : الآية .

( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وبشّر الصابرين * الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )(1) .

ويقول الفيلسوف المعروف : ( أمرسون ) :

« إن التغييرات الطبيعية التي قد تهدد بل تحطم سعادة الناس ، إنما هي إنذار من الطبيعة التي طبعت على النموّ والتكامل ، إذ حينما تظهر الحاجة إلى العبادة للخالق في روح الإنسان تترك الأرواح نظامها الرتيب المبنيّ على أساس المال والثروة والأصدقاء ، كما يترك صغير الحيتان مكانه الأوّل ليجد دوره اللائق .

إن أجر المصيبة يظهر على أفهام البشر بعد مرور الفواصل الزمنية الطويلة .

إن الأدواء ونقص الأعضاء وفقد الثراء وموت الأصدقاء واستيلاء اليأس والقنوط المفرط والبلاء ، مما لا يجبر كسره في حينه . . إلاّ أن مرور الزمان سيأتي على إظهار ما خفي علينا الآن من القوى والطاقات الكامنة ، في هذه الحوادث بل الحقائق الراهنة ! .

إن فقد الأحبة الذي ليس في البداية سوى الحرمان والمصاب ، سيجد صفة الهداية والإرشاد بعد قليل من الزمن ، فإن كل واحدة من هذه الحوادث تتكفل بإيجاد تحوّل في حياتنا لا محالة ، تنهي دوراً من الصبا والشباب المشرف على الأفول ، وتقطع سيرة مستمرة من الحياة والعمل الدائب الدائم ، إلاّ أنها تستحدث بمكانها سيرة جديدة تكون أكثر استعداداً للنموّ والكمال .

إن من يريد أن يعيش كالوردة الطرية سعيدة بعيدة عن الشمس المحرقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة البقرة : الآيات 155 ـ 157 .

وغير آبهة برقة جلدتها وفرعها القائمة عليه ، حينما يهملها الفلاح وتتهاوى حيطان البستان ، تتبدّل إلى شجرة تين قوية في غابة ، تقوم بإفادة الناس بظلالها وثمارها »(1) .

لا ريب في أن الله قادر على خالق عالم لا ألم فيه ولا شقاء ، ولكنه لو كان إذ ذاك يسلب الإنسان حرية إرادته واختياره ، ويتركه بلا إرادة ودون اختيار وقدرة ، يتشكل في الطبيعه كسائر الموجودات ويتلون بألوانها ، فهل كان ـ إذ ذاك ـ يستحق اسم : « الإنسانية » أيضاً ؟ .

هل كان إذ ذاك يجد كماله ولا ينحدر إلى هاوية الانحطاط والسقوط مع افتقاده لاستعداده وحريته ؟ وهل كان العالم يشتمل إذ ذاك على ما فيه من الحسن والجمال الذي لا يتميز إلاّ بالقياس بأضداده ؟ .

إن الله الحكيم سبحانه أراد بحكمته المهيمنة على الوجود كله أن يدل على قدرته وحكمته في تجديد الحوادث وإتقانها بتفضّله على الإنسان بنعمة الاختيار والحرية التي لا تقدّر بثمن .

أودع في الإنسان القدرة على الخير والشر كليهما ، ومن دون أن يجبره على فعل أيهما ينتظر نمه الخير دائماً ، فإنه لا يرضى بالشر والقبيح ، وإنما يرضى بالحسن والجميل الذي قرر أجراً كثيراً لا يحصى على فعله وترك ضدّه ، وقد نهاه عن سوء السيره والإساءة بالاختيار ، وأوعده بالجزاء والعذاب الأليم ، فللإنسان أن يعمل بإرادته واختياره تحت هداية الله سبحانه فيكون شاكراً ، أو يترك فيكون كفوراً .

وقد فتح الله للإنسان طريق العودة إلى الطهارة والنور حتى إذا ما زلت به قدمه عاد إلى لطف الله ورحمته ، وهذا هو من لطف الله وعدله ورحمته .

إن من يبادر إلى عمل صالح إذا ما أثابه الله على عمله ومنجزاته ثواباً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الفلسفة الاجتماعية : ص 397 ـ 398 ( بالفارسية ) .

عاجلاً ، لم تكن له فضيلة على الفاسد ذي العمل غير الصالح ، وكذلك إذا ما عاقب الله ذوي الأعمال السيئة بالعذاب العاجل ، لم تبق أية مزية للفضيلة على الرذيلة ، وللطهارة على الخبث وسوء السريرة .

إن أساس العالم مبنيّ على وجود الأضداد ، وإن تحوّل المادة في صفاتها هو الذي يجري من خلاله فيض الوجود من الباري سبحانه على هذا العالم ، ولو لم تكن المادة تتشكل بأشكال مختلفة ، ولم تكن مستعدة لتقبل الصور الجديدة على أثر التضادّ بين الموجودات لما أمكن أن يتحقق التكامل والتطوّر لهذه الموجودات .

إن العالم الثابت غير المتغير كرأسمال راكد لا يفيد ربحاً ، وإنما تداول المال هو الذي يستتبع الربح والفائدة ، وقد يكون تداول رأسمال خاص يستتبع خسارة خاصة ، إلاّ أن جميع مواد العالم وكل هذا الرأسما لا ريب يربح في تداوله .

إن التضادّ الموجود في صور المادة يقود نظام الوجود إلى كماله المطلوب .

نحن إذا لاحظنا جيداً وجدنا أن « الشر » ليس وصفاً حيقيقياً بل إنما هو وصف نسبيّ ، فالأسلحة النارية بيد العدوّ شرّ لي وهى بيدي لمقابلته خير لي ، ولولا العداء بيني وبين عدوّي فلا هي شرّ ولا هي خير .

أضف إلى ذلك أن نظام العالم لا يلبي كل ما نريد ، ونحن نريد أن نحصل عى كل ما نريد مما لا يحصى من دون أيّ مزاحم أو مانع ، بينما العوامل الطبيعية لا تستجيب لما نحب مما لا أهمية له ولا قيمة ، ولا تستسلم لميولنا ، ولذلك فحينما نواجه في حياتنا الآلام نجزع ونفزع ونعبّر عما أصابنا بالشر ، وهذا التعبير إنما هو من عدم استيعابنا لشؤون الوجود في ذاتنا وعالمنا .

إن مـن يعلم بعدم وجود النفط في المصباح إذا أراد أن يوقده فلم

يتّقد  ، لا يسب الأرض والسماء ولا ينادي بالويل والثبور .

إن عالم الوجود يسير نحو هدفه المرسوم له بسعي متواصل ، وحثيث خطوة خطوة ، ولا تحدث التحوّلات فيه حسب خواطر البشر ، بل بالعلل والأسباب .

على هذا لابدّ لنا من أن نخضع ونقبل بأن بعض مجريات هذا العالم لا توافق ميولنا ، إذن فلا يمكن أن نصف ما لا يلائمنا من هذا العالم بالظلم والجور والشر بالنظرة الفلسفية .

يقول أحد العلماء : « إن الطبيعة صادقة وعملاقة ، تعمل عملها بدقة وبلا أيّ زلل ، ولا يصدر الخطأ والغلط إلاّ من ناحيتنا . إن الطبيعة تحارب الضعف والعجز ، ولا يظهر شيء من أسرارها ورموزها إلاّ للطاهرين من المقتدرين المتقين » .

إن أميرالمؤمنين علياً ( عليه السلام ) يذمّ الدنيا ولكنه يراها : خير دار لمن أبصر بها واعتبر منها ، وكان يواجه في حياته أنواع الشدائد والآلام ولكنه يذكر الناس بعدالة الله المطلقة .

وهنا نقطة أخرى هي : أن الخير والشرّ ، في نظام الوجود ليسا مستقلين بعضهما عن بعض ، بل الخير هو الموجود والشر هو المعدوم ، فحينما يأتي الكلام عن الفقر والجهل والمرض ليس الفقر إلاّ فقدان الثروة وليس الجهل سوى عدم العلم ، وليس المرض غير انعدام السلامة أو اختلالها .

وحبنما نحسب الآفات والسباع والمصائب شروراً ليست هي إلاّ أعداماً ، أو ليست شراً إلاّ لأنها أعدام في أمور أخرى ، وإلاّ فلا يمكن أن نعدّ الشيء الموجود بما هو موجود شراً ، فلو لم تستتبع الأمور هذه المرض والموت ولم تسبب في فقدان أجزاء من الوجود ، أو لم تمنع عن نموّ بعض الاستعدادت الإنسانية وغيرها ، لم تكن شراً أصلاً ، فإنما الشرّ بالذات هو

ما  ينشأ من هذه الأمور من الخسائر والتلفات .

فما هو موجود في العالم ، إنما هو خير ، والشرّ إنما هو من نوع العدم ، وليس العدم نوعاً من الوجود ، فليس الشرّ نوعاً من الوجود .

وليس مثل الوجود والعدم إلاّ كمثل الشمس والظلّ ، فإذا واجه الجسم الشمس أوجد ظلاً ، ولكن ما هو هذا الظلّ ؟ ليس له شيء من الوجود ، وليس هو سوى عدم شمول النور المباشر لوجود المانع ، وإلاّ فليس مستقلاً في وجوده .

إن الأشياء بما أنها قد تعلق بها الخلق ، ووجدت لنفسها حظاً من الوجود ، ليست شراً من هذه الجهة ، بل الوجود في الفلسفة الإلهية يساوي الخير والإحسان ، فكل شيء خير في وجوده وبالنسبة إلى نفسه ، ولو كان شراً فإنما هو بالنظر إلى وجوده النسبي والإضافي بالنسبة إلى الأشياء الأخرى ، وليس الوجود النسبيّ وجوداً حقيقياً وإنما هو وجود اعتباري لم يتعلق به الوجود بالذات .

فبعوض الملاريا ليس شراً في نفسه لنفسه ، وإنما يوصف بالسوء بالنظر إلى إساءته إلى الإنسان وتسبيبه له المرض والموت ، والذي يتعلق به الخلق إنما هو وجود الشي لنفسه الذي هو وجوده الواقعي ، وأما الوجودات الاعتبارية فبسبب عدم واقعيتها في الوجود لا يصحّ أن نسأل : لماذا خلق الله هذه الوجودات الاعتبارية الإضافية ، فإن الأمور الانتزاعية والإضافية تلازم ملزوماتها ولا تنفك منها قط ، بل هي من اللوازم القسرية للأمور الحقيقية الواقعية ، أما نفس هذه الوجودات الإضافية فبما أنها لاحظ لها من الوجود لا يمكن السؤال عن وجودها .

إنما الموجود بالوجود الواقعي يجد وجوده من الخالق الموجد ، والأشياء والأوصاف الحقيقية لها وجود في خارج أذهاننا ، أما الأوصاف النسبية فإنما هي مخلوقة لأذهاننا ولا حقيقة لها في خارج أذهاننا ، فلا يصحّ أن نسأل عن خالقها .

لقد اقتضت الحكمة الإلهية وجود هذا العالم بنظامه هذا الموجود بجميع لوازمه وأوصافه التي تشكل بمجموعها هذا الكلّ المتشكل . أما العالم بلا نظام ، أو بلا نظام العلية ، أو مع استقلال الخير عن الشرور الإضافية النسبية ، فليس إلاّ وهماً محالاً ، إذ ليس الكلام على جزء من النظام دون جزء آخر ، بل كل الوجود كالبدن الواحد ، وحينذاك يصبح عالماً آخر غير هذا العالم ويخرج عن مورد الكلام .

إن الله غنيّ بالإطلاق ، وذلك يلازم فيض الخلق والإيجاد ، كما يلازم البذل الجواد ، من دون أن يريد بذلك جزاءً أو شكوراً ، أو كالفنان الماهر الذي يلازم الفنّ والإبداع الدائم ، فالخلق والإيجاد من لوازم أوصاف ذات الخالق البارئ سبحانه .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment