وهناك أحاديث دالّة على أنَّ دمَ الحسين ارتفع إلى السماء ولم يرجع منه قطرة واحدة .
ـ منها : … ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه ، فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت ، رمى به إلى السماء ، فما رجع من ذلك الدم قطرة(20) .
ـ منها في خصوص الطفل الرضيع : قال المفيد : دعا ابنه عبدالله ، قالوا : فجعل يقبّله وهو يقول : (( ويل لهؤلاء القوم إذا كان جدّك محمد المصطفى خصمهم )) ، والصبي في حجره ، إذ رماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه في حجر الحسين ، فتلقّى الحسين دمه حتى امتلأت كفّه ، ثمّ رمى به إلى السماء(21) .
ـ قال الباقر (عليه السلام) : (( فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض ))(22) .
دور عاشـوراء في توجيه جيش الحجَّة
وللحسين (عليه السلام) دور رئيس في ذلك الجيش الإلهي ، الذي سوف يحقّق انتصارات كبيرة ، فهناك ظواهر حسينيَّة في الثورة المهدوية في مختلف النواحي ، أهمُّها الجانب الإعلامي والروحي ؛ فإنَّ شعار جيش الحجَّة هو : ( يا لثارات الحسين ) .
هذا ما تدلُّ عليه عشرات من الأحاديث الشريفة ، مضافاً إلى الدعم القرآني كما سيأتي ، نكتفي بالحديثين التاليين :
1ـ في الحديث المعروف عن الريان بن شبيب ، عن الإمام الرضا (عليه السلام) : (( … ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قُتل ، فهم عند قبره شعثٌ غبرٌ إلى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره ، وشعارهم يا لثارات الحسين ))(23) .
فالذي يدفعهم إلى تعزيز جيش الحجَّة ونصرته ، إنَّما هو طلب ثأر الحسين ؛ لأنَّه هو ثأر الله وابن ثأره ، والوتر الموتور ، كما ورد في كثير من الزيارات (السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره ، والوتر الموتور)(24) .
2ـ وفي حديث آخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في وصف أصحاب الحجَّة (عجل الله تعالى فرجه) ، إلى أن قال : (( … فيهم رجال لا ينامون الليل ، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل ، يبيتون قياماً على أطرافهم ، ويصبحون على خيولهم ، رهبان بالليل ، ليوثٌ بالنهار ، هم أطوع له من الأمَة لسيِّدها ، كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل ، وهم من خشية الله مشفقون ، يدعون بالشهادة ، ويتمنَّون أن يُقتلوا في سبيل الله ، شعارهم يا لثارات الحسين ، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر ، يمشون إلى المولى إرسالاً ، بهم ينصر الله إمامَ الحقّ ))(25) .
ولا يخفى ما في قوله (عليه السلام) لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل ، فهذه كانت صفة أصحاب الإمام الحسين في ليلة عاشوراء .
قال تعالى في وصف أصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله) : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ )(26) .
ففي الحديث المرتبط بالإمام الحسين (عليه السلام) : (( يسير الرعب أمامها شهراً ، ويخلف أبناء سعد السقاء بالكوفة ، طالبين بدماء آبائهم ، وهم أبناء الفسقة ، حتى يهجم عليهم خيلُ الحسين (عليه السلام) ، يستبقان كأنّهما فرسا رهان ، شعث غبر ، أصحاب بواكي وقوارح ))(27) .
ومن هنا صار الحسين قتيل العبرة ، فهذا البكاء له دور حيوي في تلك النهضة المباركة .
يوم خروج القائم (عليه السلام)
هذا الأمر أيضاً له دلالة على أنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الثورتين من ناحية الزمان ، ففي الحديث :
ـ عن أبي بصير قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : (( يخرج القائم (عليه السلام) يوم السبت يوم عاشوراء ، اليوم الذي قُتل فيه الحسين (عليه السلام) ))(28) .
ـ والحديث التالي يفسّره : عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : (( إنّ القائم (صلوات الله عليه) ينادى باسمه ليلة ثلاث وعشرين ، ويقوم يوم عاشورا ، يوم قُتل فيه الحسين بن علي (عليه السلام) ))(29) .
فلا منافاة بين النداء باسمه وخروجه في اختلاف زمانهما ، فربّما يكون النداء باسمه في يوم الجمعة .
يقتل ذراري قتلة الحسين
وقد أفرد العلاّمة المجلسي (ره) باباً مستقلاً تحت عنوان (العلّة التي من أجلها أخّر الله العذاب عن قتلته (صلوات الله عليه) ، والعلّة التي من أجلها يُقتل أولاد قتلته (عليه السلام) ، وإن الله ينتقم له في زمن القائم (عليه السلام) ، فإِنَّ هناك أحاديث كثيرة تؤكِّد على ذلك .
ونحن قد ذكرنا سابقاً بعض ما يدلّ على هذا الأمر ، حيث تطرّقنا إلى آية الإسراف في القتل ، وتتميماً للفائدة نشير إلى الأحاديث الأخرى :
ـ عن الهروي قال : قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) : يابن رسول الله ، ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال : (( إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها؟ )) ، فقال (عليه السلام) : (( هو كذلك )) . فقلت : وقول الله (عزّ وجلّ) ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ما معناه؟ قال : (( صدق الله في جميع أقواله ، ولكن ذراري قتلة الحسين يرضون بفعال آبائهم ، ويفتخرون بها ، ومَنْ رضي شيئاً كان كمَنْ أتاه ، ولو أنّ رجلاً قُتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب ، لكان الراضي عند الله (عزّ وجلّ) شريك القاتل ، وإنّما يقتلهم القائم (عليه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ))(30) .
الشجرة الملعونة في القرآن
ـ وقد وردت آيات في هذا المجال ، أوضحها قوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً )(31) .
ـ وفي الحديث قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّي رأيت اثني عشر رجلاً من أئمّة الضلال يصعدون منبري وينزلون ، يردون أمّتي على أدبارهم القهقرى ))(32) . يعني بذلك اثنين من بني أميَّة ، وسبعة من أولاد الحكم ، وخمسة من بني أبي العاص .
ـ قال العلاّمة المجلسي (رضوان الله عليه) : ولا خلاف بين أحد أنّه تبارك وتعالى أراد بها بنى أمية ، وممّا ورد من ذلك في السُنّة ، ورواه ثُقاة الأمّة ، قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيه ، وقد رآه مقبلاً على حمار ، ومعاوية يقوده ، ويزيد يسوقه : (( لعن الله الراكب ، والقائد ، والسائق ))(33) .
ـ قال القرطبي في تفسير الآية المباركة : قال سهل : إنّما هذه الرؤيا هي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يرى بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة ، فاغتم لذلك ، وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات (صلّى الله عليه وآله) ، وقال ابن عباس : هذه الشجرة بنو أميّة .
وذكر الرازي في تفسيره هذا القول فراجع .
فما يزيدهم إلاّ طغياناً
ـ قال الفيض الكاشاني (ره) : وفي قوله سبحانه ( فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً ) لطافة لا تخفى(34) .
وهذه مبالغة في الطغيان ، فما ارتكبه في الطفّ من الجرائم جعله حقيقةً الطغيان المبين .
ومن هنا ورد في الزيارة ( ولعن الله بني أميَّة قاطبة )(35) ، وفي زيارة أخرى ( ولعن الله بني أميَّة قاطبة إلى يوم القيامة )(36) .
قال في محيط اللغة : قاطبة : يطلق على كلِّ جيل من الناس .
المبرِّر لقتل الذراري
أقول : وأمّا المبرِّر لقتل ذرية قاتلي الحسين (عليه السلام) هو نفس المبرّر لقتل أيِّ قاتلٍ آخر ؛ لأنَّ فلسفة القتل تكمن في أمرٍ واحدٍ ، وهو : الروح الخبيثة الملوَّثة ، التي يتّصف بها القاتل بسبب جرأته على أمر القتل ، وهذا لا يختصّ بمَنْ باشر القتل فقط ، بل يشمل حتَّى المحرِّض له ، والراضي به ؛ ومن هنا صارت للنيّة الحسنة شأن كبير من خلاله يقيَّم العمل الصالح ، وكذلك بالنسبة للنيَّة السيِّئة فهي السبب الذي يوجب خبثَ العمل .
وعليه فالمفروض أن يُقتل كلّ مَنْ هو راضٍ بأمر القتل ، كما ذكر ذلك الإمام (عليه السلام) في الحديث السابق حيث قال : (( ولو أنّ رجلاً قُتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب ، لكان الراضي عند الله (عزّ وجلّ) شريك القاتل )) ، إلا أنَّ الوضع الحالي لا يسمح لتطبيق هذا الحكم ، حيث لا سلطة ظاهرية للمعصوم علينا ، وكذلك في عصر المعصومين (عليهم السلام) ، حيث لم يكونوا مبسوطي الأيدي يفعلون ما يشاؤون .
هذا ما أدَّى إلى الركون إلى الظاهر ، والاعتماد على الشهود والبيّنات ، وإجراء الحدود في نطاق خاصٍّ ، وهو في خصوص المباشرين لأمر القتل فحسب . وأمّا الحجَّة (عليه السلام) فأمره يختلف تماماً ، وهو كما قلنا يتعامل مع القضايا تعاملاً خِضرِياً في قبال موسى (عليه السلام) ، ولكن بشكل أوسع ، وإطار أشمل .
خروج لا استثناء
قلنا : إنَّ اللعن شامل لجميع مَنْ ينتسب إلى بني أميَّة صغيراً كان أم كبيراً من غير استثناء أصلاً ، وهذا شأن كلِّ أمرٍ حاسم له أهميَّة بحيث تغطِّي على كافة الأضرار الهامشيَّة ، وهذا لا ينافي خروج البعض من بني أميَّة عن هذه القاعدة ، كما ورد في سعد الخير :
عن أبي حمزة قال : دخل سعد بن عبد الملك ، وكان أبو جعفر (عليه السلام) يسمّيه سعد الخير ، وهو من ولد عبد العزيز بن مروان ، على أبي جعفر (عليه السلام) فبينا ينشج كما تنشج النساء ، قال : فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : (( ما يبكيك يا سعد؟ )) قال : وكيف لا أبكي ، وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن ؟ فقال له : (( لست منهم ، أنت أموي منّا أهل البيت ، أما سمعت قول الله (عزّ وجلّ) يحكى عن إبراهيم (عليه السلام) فمَنْ تبعني فإنّه منّي ؟))(37) .
وهذا الأسلوب من الخروج هو المستخدم في كثير من الأحاديث ، وقد تحدَّث الفقهاء عنه في علم الأصول تفصيلاً تحت عنوان (الحكومة والورود) ، ومن نماذج هذا النوع من الخروج قوله : (( لا شك لكثير الشك )) ، فهذا الحديث يخرج هذا النمط من الشك ، أعني مَنْ يشك كثيراً ، عن القاعدة العامَّة للشكّ الوارد في سائر الأحاديث ، كبطلان الصلاة عند الشك في صلاة الصبح ، وعليه فلا تبطل صلاة كثير الشك حتى لو كانت ثنائية ، وكذلك قوله : (( لا ربا بين الوالد وولده )) ، الذي يخرج هذا النوع من الربا ـ رغم كونه رباً فعلاً ـ عن القانون العام الوارد في القرآن الكريم ، وهو : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا )(38) ، فهذا خروج لا استثناء فتأمَّل تعرف .