عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الفتنة-3

168
ثانيهما:
سقوط القانون وانتهاك حرمته على الصّعيد العملي: «... وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللّه»، وتغلّب العامل الشخصي بالإحتيال على الشّرعية القانونيّة الّتي يحتفظ لها المفتونون بالإحترام النّظري، ويتظاهرون بتطبيقها، بينما هي على الصّعيد العملي تنتهك كلّما تمكن الأقوياء من انتهاكها.
هذان العاملان: سقوط المقياس الموضوعي في القيم على صعيد الأخلاق والعلاقات الإجتماعية والسّياسيّة، وسقوط الشّرعية القانونيّة على صعيد المؤسسات العامّة والعلاقات والوضعيّة السّياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة... هذان العاملان هما جوهر الفتنة الغالبة.
ويحدث حينئذٍ أن تتكوّن القناعات الموالية للفتنة الغالبة لدى فئات اجتماعيّة جديدة: «... ويتولّى عليها رجال رجالاً على غير دين اللّه» يتعزّز بها موقع الإنحراف في المجتمع، ويعمّق رسوخه في القلوب والعقول، ويتسع مداه فيشمل مساحات جديدة من الحياة.
ولكنّ الفتنة - كما ذكرنا آنفاً - لا تبلغ درجة الشّمول، بل يبقى للحقّ في المجتمع سلطان، ويبقى للشّرعيّة في المجتمع أعوان، هم «الّذِينَ سبقت لهُم مِنّا الحُسنى» وهم الّذين يقودون حركة الكفاح ضدّ الباطل والفتنة من أجل الحقّ الخالص الّذي لا يلتبس بالباطل.
*
ب - كيف تتحرّك الفتنة وتنمو ؟
ويصف الإمام في نصّ آخر كيف تبدأ الفتنة، ويصوّر آليّة حركتها وانتشارها في المجتمع، وذلك في سياق وصفه للفتنة الغالبة الّتي كانت نذرها تطلّ على المجتمع الإسلامي في عهده:

169
«... ثُمَّ إنَّكُم معشَرَ العربِ أغراضُ بلايا قدِ اقتربَت، فاتَّقُوا سكراتِ النِّعمَةِ واحذرُوا بوائقَ النقمةِ1، وتثبَّتُوا في قتامِ العِشوةِ2 واعوِجاجِ الفِتنةِ عندَ طُلُوع جنِينها، وظُهُورِ كمينها، وانتِصابِ قُطبِها ومدارِ رَحاها. تبدأُ في مدارجَ خِفيَّةٍ، وتؤُولُ إلى فظاعةٍ جليَّةٍ. شِبابُها كشِبابِ الغُلام3، وآثارُها كآثارِ السِّلامِ4 يتوارثُها الظَّلمَةُ بِالعُهُودِ، أوَّلُهُم قائد لآخِرِهِم، وآخِرُهُم مُقتدٍ بِأوَّلهِم. يتنافَسُون في دُنيا دنِيَّةٍ، ويتكالبُون على جِيفةٍ مُريحَةً5. وعن قلِيلٍ يتبرَّأُ التَّابعُ مِن المتبُوع، والقائدُ من المقُودِ، فيتزايلُونَ بِالبَغضاءِ6 ويتلاعنُونَ عِندَ اللِّقاءِ»7.
في هذا النّصّ صورّ الإمام آليّة حركة الفتنة، ونموّها وانتشارها في المجتمع، فأبرز الملامح التّالية:
1 - إنّ شيوع روح التّرف في المجتمع، واستغراق النّخبة في التّرف يؤدّيان بالمجتمع إلى أن يفقد روحه النّضاليّة الرّساليّة، ويحرص على حياته الهيّنة النّاعمة، وعلى توفير الوسائل الملائمة لبلوغ مستوى من الحياة أكثر نعومة وليناً.
كما أنّ النّخبة في هذه الحالة تصاب بالتّرهّل والعجز والجبن.
وشيوع هذه الرّوح، روح التّرف، في مجتمع لا يزال في مرحلة تكوين نفسه، ومحاط بالقوى المضادّة الخائفة، ويحتوي تركيبه الدّاخلي على نقاط ضعف ناشئة من كونه يضم جماعات لم تتمثّل بعد بدرجة مرضيّة وعميقة رسالته الّتي يعتنقها ويبشر بها... - شيوع هذه الرّوح في مجتمع كهذا - وهو ما كانه المجتمع الإسلامي في ذلك الحين - يجعله مهيّأً لنموّ روح الفتنة فيه وانتشارها.
لقد حذّر الإمام من هذا بقوله: (احذروا سكرات النّعمة...).


_________________

(1) البوائق: جمع بائقة، وهي الواهية، والمصيبة الكبيرة.
(2) القتام: الغبار، العشوة الظلام. يعني أنّ الموقف الآتي شديد الإلتباس لأنّه مظلم في نفسه ويثور مع ذلك حوله الغبار. ويعني بذلك الفتنة الآتية.
(3) شباب الغلام: فتوته وعنفوانه، والفتنة تبدأ هكذا ذات عنفوان.
(4) السّلام الحجارة الصّمّ، وأثرها في الأبدان الجرح والكسر.
(5) مريحة: منتنة.
(6) يتزايلون: يتفارقون وينفصل بعضهم عن بعض.
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 151.

170
2 - تقع في الحياة العامّة أحداث، أو يواجه المجتمع حالات معينة، تسبّب هذه أو تلك التباساً في طريقة التّعامل مع بعض المفاهيم الرّساليّة ومفاهيم المعتقد على ضوء الواقع الّذي حصل (مثلاً: التّغيّرات الّتي نشأت نتيجة لتوسّع حركة الفتح في إيران والمستعمرات البيزنطيّة... والإحتكاك بالحضارتين الإيرانيّة، والرّومانية - الشّرقيّة .. - أو الحيرة الّتي نشأت نتيجة لمقتل الخليفة عثمان بن عفان)... في هذه الحالات قد تتخذ النّخبة أو القيادة السّياسيّة للمجتمع قرارات مرتجلة، وتخضع لآليّة الفعل ورد الفعل، بعيداً عن التروّي (مثلاً: كالّذي حدث عند مطالبة الإمام عليّ بعد البيعة فوراً بأن يقبض على المتهمين بقتل عثمان ويعاقبهم، فقد قال له قوم من الصّحابة: لو عاقبت قوماً ممن أجلب1 على عثمان ؟ فقد أجابهم الإمام جواب رجل الدّولة المسؤول النّاظر إلى عواقب الأمور، البعيد عن الإنفعال:
«يَا إخوَتاهُ! إنِّي لستُ أجهلُ ما تعلمُونَ، ولكِن كيف لي بِقُوةٍ والقومُ المُجلبُون على حدِّ شوكتِهِم2 يملِكُوننا ولا نملِكُهُم! وها هُم هؤُلاء قد ثارت معهُم عبدانُكُم، والتفَّت إليهم أعرابُكُم3 وهُم خِلالَكم4 يسُومُونكُم ما شاؤوا5 وهل ترون موضِعاً لِقُدرةٍ على شيءٍ تُريدُونهُ! إنّ هذا الأمر أمرُ جاهليَّةٍ، وإنَّ لهؤُلاء القومِ مادَّةً6. إنَّ النَّاس من هذا الأمرِ إذا حُرِّك على أُمُورٍ: فِرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترونَ، وفِرقة لا ترى هذا ولا ذاك. فاصبِرُوا حتَّى يهدأ النَّاسُ، وتقع القُلُوبُ مواقِعها7 وتُؤخذَ الحُقُوقُ مسمحَةً8.
«فاهدأُوا عنّي، وانظُرُوا ماذا يأتيكُم بِهِ أمري، ولا تفعلُوا فعلَةً تُضعضِعُ قُوةً، وتُسقِطُ مُنِّةً9،
وتُورِثُ وهناً وذِلّةً. وسأُمسِكُ الأمر ما استمسك، وإذا لم أجِد بُدَّا فآخِرُ الدَّواءِ الكيُّ»10.


_________________

(1) أجلب عنه: أعان عليه.
(2) على حد شوكتهم: الشّوكة الشّدّة، أي لم يضعف هيجانهم.
(3) التفّت... انضمّت إليهم واختلطت بهم.
(4) وهم خلالكم... أي بينكم.
(5) يسومونكم.. يكلفونكم بما يريدون من الأفعال والمواقف.
(6) مادّة: مدداً وأنصاراً.
(7) تقع القلوب مواقعها: تهدأ وتستقر بعد اضطرابها بسبب هيجان الفتنة.
(8) مسمحة: أي سهلة ميسّرة وهذا حين تهدأ العواطف، ويثوب النّاس إلى المنطق والقانون.
(9) المنّة: القوّة والقدرة، ينهاهم عن الأعمال المرتجلة المتسرّعة الّتي تسبّب انشقاقاً وتمزّقاً في المجتمع يضعفه ويوهن قوته.
(10) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 168.

171
وهكذا نرى الإمام يطلب إلى هؤلاء المتعجّلين أن يلزموا جانب التّروّي، وأن يتركوا له اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وألا يخضعوا لمنطق الفعل وردّ الفعل لأنّ هذا يؤدّي إلى التباس في المفاهيم، وتخبّط في المواقف، وأخطاء في القرارات تجعل المناخ العام أكثر ملاءمة لروح الفتنة. وقد أشار الإمام إلى ذلك بقوله: «وتثبّتوا في قتام العشوة...».
3 - حين يتهيّأ المناخ الملائم نتيجة للعاملين الآنفي الذّكر تبدأ الفتنة بظواهر انحرافية بسيطة وهيّنة، يقابلها المجتمع بوجه عام، ونخبته السّياسيّة والفكريّة بوجه خاص، بالتّسامح واللامبالاة، وهذا ما يوفّر لهذه الظّواهر الإنحرافية مناخ الأمان وفرص الإتساع والنّمو. وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «تبدأ في مدارجَ خفيّة، وتؤول إلى فظاعة جليّة».
4 - وعلى خلاف وضع الفتنة حين تبدأ خفيّة حيّة، تلوذ وراء المبرّرات وتغطي نفسها بشعارات خادعة، فإنّها حين تنمو وتتسع «وتؤول إلى فظاعة جليّة» يكون لها عنفوان وتسلّط وبطش، وتبدأ بطبع آثارها العميقة في بنية المجتمع، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «شِبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السِّلام».
5 - بعد انتشار الفتنة، واتساع المساحات الّتي تستوعبها من فئات المجتمع، تكوّن قناعات تجعلها أشدّ رسوخاً في الذّهنيّة العامّة، وتغدو ثقافة شائعة ترتكز إليها السّلطة الّتي تقود حركة الفتنة، وتوجّه المجتمع وفقاً لقوانينها، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «يتوارثها الظلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأوّلهم...».
6 - ولكن الوضع السّياسي لقادة الفتنة - بعد انتشارها، وتأصّلها في بنية المجتمع - لا يبقى موحداً ومتلاحماً، وإنّما تبرز التّناقضات والسّمات الشّخصية لكلّ فئة، والمطامع والمخاوف الخاصّة بكلّ جماعة. وحينئذٍ تنقسم قيادة الفتنة إلى فئات متخاصمة متناحرة، وتجرّ المجتمع وراءها إلى التّخاصم والتّناحر والحروب الأهليّة، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «... وعن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللّقاء».
*

172
وهذا نص يصرّح فيه الإمام لأصحابه بما ينتظرهم من الفتنة وويلاتها من بعده، محملاً إيّاهم مسؤوليّة نشوء الفتنة وانتشارها وما يترتّب على ذلك من شرور، لأنّهم كانوا سلبيّين أمام مظاهر تسرّب روح الفتنة إلى مجتمعهم السّياسي وبنيتهم الثّقافيّة، وهذا ما وفّر للفتنة أجواء النّموّ والإنتشار، وكانوا متخاذلين، مهملين لواجبهم، لم يتحمّلوا مسؤوليّتهم في نصرة قضيتهم، وحماية نظامهم الشّرعي العادل:
«أيُّها النَّاسُ، لو لم تتخاذلُوا عن نصرِ الحقِّ، ولم تهِنُوا عن توهينِ الباطِلِ، لم يطمع فيكُم من ليس مِثلكُم، ولم يقوَ مَن قويَ عليكُم. لكِنَّكُم تهتُم متاه بني إسرائيلَ، ولعمري ليُضعَّفنَّ لكُمُ التِّيهُ مِن بعدي أضعافاً، بِما خلَّفتُمُ الحقَّ وراء ظُهُورِكُم، وقطعتُمُ الأدنى ووصلتُمُ الأبعدَ...»1.
ج - ما موقف المسلم من الفتنة حين تبدأ ؟
ما موقف المسلم من الفتنة حين يذّر قرنها ؟
في الفتنة - كما رأينا - يختلط الحّق بالباطل، ويلتبس الصّواب بالخطأ، فلا يتميّز أحدهما من الآخر.
وفي هذه الحالة يكون الموقف الأسلم والأوفق بالشرع هو الإبتعاد عن الفتنة والإمتناع عن المشاركة مع هذا الطرف أو ذاك، إذ لا يأمن المشارك من أن يقع في الباطل وهو يرى أنّه ينصر الحق، أو يحارب الحق وهو يرى أنّه يحارب الباطل.
وهذا هو الموقف الّذي نصح الإمام بالتزامه حين تقع الفتنة، ويلتبس فيها الحقّ بالباطل، فقد قال:
««كُن في الفِتنَة كابنِ اللَّبُونِ. لا ظهر فيُركبَ، ولا ضرع فيُحلبَ»2.


_________________

(1) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 166. ويومئ في الجملة الأخيرة إلى أنّهم اتصّلوا بمعاوية وتخلّوا عن الحاكم الشّرعي.
(2) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم 1. وابن اللّبون هو ابن النّاقة إذا كمل له سنتان. وهو في هذه الحالة لا ينفع للرّكوب لأنّه لا يقوى على حمل الأثقال، وليس له ضرع ليحلب، كنّى الإمام بذلك عن أنّ الإنسان الواعي في الفتنة يقف على الحياد فلا يكون ذا نفع لأيّ طرف من أطرافها.

173
ولكن هذا الموقف يكون صواباً حين لا يكون الإمام العادل موجوداً، ولا يتاح للمسلم أن يتبيّن الحقّ من الباطل في الأحداث والمواقف الّتي تجري أمامه، أمّا حين يكون الإمام العادل موجوداً، ويتّخذ من الفتنة موقفاً، فإنّ على المسلم أن ينسجم في مواقفه مع مواقف الإمام العادل، وليس له أن يبقى على السّلبيّة متذرّعاً بأنّه يخشى الوقوع في الباطل، وإنّما يكون موقفه هذا، في هذه الحالة، جبناً وخذلاناً للحقّ، بل إنّه يكون، من بعض الوجوه، خيانة ومساهمة في الفتنة، لأنّه بسلبيّته غير المبرّرة قد يضلّل آخرين يجدون في سلبيّته تبريراً لمواقفهم.
وقد واجه الإمام أثناء فترة حكمه العاصفة مثل هذه المواقف الجبانة السلبيّة الخائنة من قبل بعض القيادات في مجتمعه تجاه الفتنة الّتي أثارتها قوى الثّورة المضادّة، فقال مرّة يخاطب النّاس:
«أيُّها النَّاسُ، ألقُوا هذِهِ الأزِمَّة1 الَّتِي تحمِلُ ظُهُورُها الأثقالَ مِن أيدِيكُم، ولا تصدَّعُوا2 على سُلطانِكُم، فتذُمُّوا غِبَّ فِعالِكُم3 ولا تقتحِمُوا ما استقبلتُم مِن فور نارِ الفِتنةِ4، وأميطُوا عن سننِهَا5 وخلُّوا قصد السّبِيلِ لها6، فقد لعمري يهلِكُ في لهبها المُؤُمِنُ، ويسلمُ فيها غيرُ المُسلِمِ.
«إنَّما مَثَلِي بينكُم كمثلِ السِّراجِ في الظُّلمةِ، يستضِيءُ بهِ مَنْ ولجهَا...»7.
فالإمام هنا ينهى جمهوره عن المشاركة في الفتنة ولكنّه لا يقرّهم على الموقف السّلبي منها، وإنّما يأمرهم بالتّصدّي لها.
إنّ المشاركة فيها تعني التآمر معها، والسّلبيّة أمامها تعني عدم التّصدّي لها،


_________________

(1) الأزمّة، جمع زمام، كنّى عن قضايا الفتنة بالنياق الّتي يمسك أصحابها بأزّمتها، وهي تحمل على ظهورها الأثقال. يقول لهم: اتركوا قفا الفتنةِ ولا تخوضُوا فِيها لِتخلصُوا مِن آثارِها.
(2) لا تصدّعوا: لا تتفرقوا عن الحاكم الشّرعي.
(3) غِبَ فعالكم: عواقبها.
(4) فور النّار: تعاظمها وارتفاع لهبها.
(5) أماط: نحّى وأزال. والسّنن: الطّريق. يعني تنحّوا عن طريق الفتنة وابتعدوا.
(6) قصد السّبيل: الطّريق. أي اتركوا الفتنة تسير في طريقها ولا تشتركوا فيها .
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 187.

174
وكلاهما خطأ. الموقف السّليم هو مواجهتها مع الإمام الحاكم العادل، لأنّ الحقّ - بوجوده - بيّن ظاهر، فهو الهادي، وهو الدّليل الّذي لا يضلّل، وهو «السّراج في الظّلمة»، ظلمة الفتنة، وكلّ ظلمة.
وقد حدث أنّ بعض المسلمين في بدايات خلافة أمير المؤمنين عليّ التبس عليهم الأمر في الفتنة الّتي أثارها خروج طلحة والزّبير، وعصيان معاوية نتيجة لموقف أبي موسى الأشعري الّذي قال للنّاس في الكوفة حين دعوا إلى قمع عصيان طلحة والزّبير: إنّ الموقف موقف فتنة، وأنّ الموقف السّليم منها هو الإمتناع عن المشاركة فيها.
وقد أوضح الإمام إذ ذاك أنّ الموقف من الفتنة الّتي يلتبس فيها الحقّ بالباطل هو هذا، ولكنّ الأمر يختلف حين يتّضح جانب الحقّ بوجود الإمام العادل أو بأيّة وسيلة أخرى، فإنّ السّلبيّة في هذه الحالة تكون خيانة.
ومن هنا فقد سمّى الإمام خروج طلحة والزّبير فتنة، ودعا الناس إلى مواجهتها وقمعها، لأنّ وجه الحقّ فيها بيّن، فقد كتب إلى أهل الكوفة عند مسيره إلى البصرة:
«...واعلمُوا أنَّ دارَ الهِجرة1 قد قلعت بِأهلِها وقلعوا بِها2، وجاشت جيش المِرجلِ3، وقامتِ الفِتنةُ على القُطبِ4، فأسرِعُوا إلى أميرِكُم، وبادِرُوا جِهادَ عدُوِّكُم»5.
د - موقف الإمام عليّ من فتنة عصره
ما دور الإمام عليّ، وما موقفه من الفتنة الّتي عصفت بالمجتمع الإسلامي في عهده ؟.
نظرة إلى التاريخ السّياسي والفكري للإسلام تكشف بوضوح عن أنّ الإمام عليّاً كان المنقذ الأكبر للإسلام من التّشوّه والمسخ بالفتنة الّتي عصفت رياحها المجنونة


_________________

(1) دار الهجرة: هي المدينة المنوّرة.
(2) قلع المكان بأهله: نبذهم وطردهم. وقلع فلان بمكانه: نبذه وابتعد عنه.
(3) جاشت: اضطربت، والمرجل: القدر: يعني أنّ دار الهجرة قد اضطربت بأهلها بسبب الفتنة الّتي نشبت فيها وانطلقت منها.
(4) قامت الفتنة على القطب: وجدت من يوجّهها ويرعاها ويغذيها بالأفكار والقوى، فاشتدت وعظم خطرها.
(5) نهج البلاغة - باب الكتب - الكتاب رقم 1.

175
بالمسلمين منذ النّصف الثاني من خلافة عثمان.
ولولا توجيه عليّ الفكري، ومواقفه السّياسيّة، ومواجهته العسكريّة للفتنة في شتّى مظاهرها الفكريّة والسّياسيّة والعسكريّة لَتشوّه الإسلام، وانمسخ، وتقلّص. ولكنّ الإمام عليّاً، بموقفه الواضح الصّريح الرّافض لأيّة مساومة، كان المنقذ الّذي كشف الفتنة ودعاتها، ووضع المسلمين جميعاً أمام الخيار الكبير: مع الفتنة أو ضدّها ؟.
ولا يهمّ بعد ذلك أنّ الفتنة حازت إلى جانبها جمهوراً كبيراً من النّاس، المهم أنّها افتضحت، وبافتضاحها سلم الإسلام من التّشوّه ومن خطر التّزوير، وكان على الّذين انحرفوا أن يجدوا لأنفسهم مبرّرات.
وقد كان توقع نشوء الفتنة، والخوف منها ومن أفاعليها وعواقبها، هاجساً عامّاً عند المسلمين. يكشف عن ذلك السّؤال عنها، وعن الموقف الصّواب منها، وكثرة حديث الإمام عن أخطارها وملابساتها.
وقد كان الإمام عليّ بروحانيّته العالية السّامية، وإسلاميّته الصّلبة الصّافية، وروحه الرّساليّة الّتي تفوّق بها على جميع معاصريه، وحكمته وشجاعته، وسيرة حياته الناصعة الّتي ابتدأت بالإسلام... كان هو الرّجل الوحيد المرصود لمواجهة الفتنة، وإنقاذ الإسلام منها.
لقد أعلمه رسول اللّه (ص) بذلك، وأدرك هو دوره من خلال رصده لحركة المجتمع التّاريخيّة.
وهذا نصّ عظيم الأهمّيّة يكشف لنا عن الدّور المرصود للإمام عليّ في مواجهة الفتنة، يتضمن الرّؤية النّبويّة لمستقبل الحركة التّاريخيّة من جهة، والرّؤية النّبويّة لدور الإمام عليّ في هذه الحركة.
وقد أورد الشّريف الرّضي هذا النّصّ، كما أورده ابن أبي الحديد في شرحه (9 / 105 - 107) برواية الشّريف وبرواية أخرى أكثر بسطاً. ويبدو أنّ الرّواية الأخرى تقريريّة حدّث بها الإمام، ورواية الشّريف خطابيّة، جاءت جواباً منه على سؤال، فقد قام إليه رجل - وهو يخطب - فقال: يا أمير المؤمنين: أخبرنا عن الفتنة، وهل

176
سألت رسول اللّه (ص) عنها ؟ فقال عليه السّلام:
«إنَّهُ لَما أنزلَ اللّه سُبحانهُ قولَهُ (الم. أحَسِب النَّاسُ أن يُتركُوا أن يقُولوا آمنّا وهم لا يُفتنُون)1 علِمتُ أنَّ الفِتنة لا تنزِلُ بِنا ورسُولُ اللّه (ص) بين أظهُرِنا. فقُلتُ: يا رسُول اللّهِ ما هذهِ الفِتنةُ الَّتِي أخبرَك اللّه تعالى بِها ؟ فقال: (يا علِيُّ، إنّ أُمَّتي سيُفتنُون من بعدِي)، فقُلتُ: يا رسُولَ اللّه، أوَ لَيْسَ قد قلتَ لي يوم أُحُدٍ حيثُ استُشهِدَ من استُشهِدَ من المُسلمِين، وحيزَت2 غنِّي الشَّهادةُ، فشقَّ ذلك عليَّ، فقُلتَ لي: (أبشِر، فإنَّ الشَّهادةَ مِن ورائكَ) فقال لِي: (إنَّ ذلِك لكذلِك، فكيف صبرُك إذن ؟) فقُلتُ: يا رسُول اللّه: ليس هذا مِن مواطِنِ الصَّبرِ، ولكِن مِن مواطِنِ البُشرى والشُّكرِ. وقال: (يا عليُّ، إنَّ القومَ سيُفتنُون بِأموالِهِم، ويمُنُّون بدينِهِم على ربِّهِم، ويتمنَّون رحمتهُ، ويأمنُون سطوتهُ، ويستحِلُّون حرامهُ بِالشُّبُهاتِ الكاذبِةِ، والأهواءِ السَّاهيةِ، فيستحِلُّون الخمرَ بالنَّبيذِ، والسُّحتَ بالهديَّةِ، والرِّبا بالبيعِ) قُلتُ: يا رسُول اللّه: فبأيِّ المنازِلِ أُنزِلُهُم عندَ ذلِك ؟ أبمنزلَةِ رِدَّةٍ أم بمنزلَةِ فِتنةٍ ؟ فقالَ: (بِمنزِلَة فِتنةٍ)»3.
وإذن، فقد كان الإمام مرصوداً لمواجهة الفتنة وفضحها.
لقد كان منقذ الإسلام بعد رسول اللّه (ص) من التّزييف والتّحريف، فحقّق بمواجهته للفتنة صيغة الإسلام الصّافي، في المعتقد والفكر والتّشريع والعمل، وغدت الفتنة أزمة في داخل الإسلام، ولم تفلح في أن تكون هي الإسلام.
وقد عبّر الإمام في أكثر من مقام عن دوره العظيم الفريد في التاريخ، من حيث كونه القيادي الوحيد الّذي استطاع أن يواجه الفتنة ويفضحها، فقال ممّا قال:
«... فإنِّي فقأتُ عين الفِتنةِ4، ولم يكُن ليجترئ عليها أحد غيري، بعدَ أن ماج غيهبُها5 واشتدَّ كلبُها6.


_________________

(1) سورة العنكبوت (مكيّة - 29) الآية: ا و 2.
(2) جاز عنه الشّيء: أبعده عنه.
(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 156.
(4) فقأت عين الفتنة: تغلّبت عليها.
(5) الغيهب: الظّلمة. يعني أنِّي واجهتها في عنفوانها وقوتها.
(6) الكلب: داء معروف يصيب الكلاب. يعني أنّه واجهها وهي في هذه الحالة عن الأذى والشّرّ الشّديدَين. والخطبة في نهج البلاغة، رقم: 93.

177
لقد حدثت داخل الإسلام فتن كثيرة، ولكن أعظم هذه الفتن خطورة وأشدّها تخريباً فتنة بني أميّة الّتي عصفت رياحها السّوداء الشّرّيرة المجتمع الإسلامي منذ النّصف الثّاني من عهد عثمان، وتعاظمت خطورتها بعد مقتله. واستغرقت مواجهتها الفكريّة والسّياسيّة والعسكريّة معظم جهود أمير المؤمنين عليّ في السّنين الأخيرة من حياته.
وقد كان الإمام يغتنم كل فرصة سانحة ليحدّث مجتمعه عن هذه الفتنة، ويبيّن له أخطارها الآنية والمستقبليّة من أجل إيجاد المناعة النّفسية منها، والوعي العقلي لأخطارها، والعزم العملي على مواجهتها وقمعها، والتّصميم على رفضها حتّى بعد انتصارها.
قال عليه السّلام،
«إنَّ الفِتنَ إذا أقبلت شبَّهت1، وإذا أدبرت نبَّهت، يُنكرن مُقبِلاتٍ، ويُعرفن مُدبِراتٍ، يحُمنَ حوم الرِّياحِ، يُصِبن بلداً، ويُخطِئن بلداً. ألا وإن أخوف الفِتنِ عندي عليكُم فِتنةُ بني أُميَّة، فإنَّها فتنة عمياءُ مُظلِمة، عمَّت خُطَّتُها2 وخصَّت بليَّتُها، وأصاب البلاءُ من أبصرَ فيها، وأخطأ البلاءُ من عمِي عنها»3.
فَهي فتنة عمّت بليتها لأنّ روّادها الحكام أنفسهم، ومن ثمّ فشرورها السّياسيّة والفكريّة تشمل المجتمع كلّه.
وهي فتنة خصّت بليتها لأنّ أعنف ضرباتها ستوجّه إلى الصّفوة المؤمنة الواعية الّتي بقيت سليمة من داء الفتنة، ووضعت نفسها في مواقع كفاح الفتنة الغالبة.
والمسؤوليّة في هذه الفتنة ملقاة على المبصرين فيها، الّذين يعرفونها ويعرفون وجه الحقّ ويجبنون عن مواجهتها، أو يتواطؤون، ضد الحق، معها.
أمّا من عمي عنها، وجهل أبعادها وأخطارها فهو معذور بجهله.


_________________

(1) شبّهت: اشتبه فيها الحقّ بالباطل، وإذا أدبرت وخلص النّاس منها تميّز حقّها من باطلها.
(2) عمّت خطتها: يعني أنَّها فتنة غالبة تصيب ببلائها أهل الحقّ.
(3) نهج البلاغة: الخطبة رقم: 93.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عصر ظهور المذاهب الاسلامية
واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
أمير المؤمنين شهيد المحراب
كربلاء ؛ حديث الحق والباطل
الشيعة وإحياؤهم ليوم عاشوراء
في تقدم الشيعة في علم الصرف ، وفيه صحائف -2
تأملات وعبر من حياة أيوب (ع)
تاريخ الثورة -6
من مناظرات الامام الصادق(عليه السلام)
من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله ...

 
user comment