عربي
Wednesday 17th of April 2024
0
نفر 0

النّهضة الحسينيّة من منظور مغربي

حوار مع المفكّر المغربي إدريس هاني

أجرى الحوار : حميد حلمي

لقد عاش المجتمع الإسلامي على إيقاع ثقافة الاستئصال . ( إدريس هاني )

نبذه تعريفيّة :

إدريس هاني باحث ومفكّر مغربي ، وهو أحد أعضاء اتّحاد الكتّاب العرب ، وكذلك عضو في منتدى الحكمة للمفكّرين والباحثين بالمغرب . وقد شارك في ندوات ومؤتمرات محليّة وإقليميّة ودوليّة . وله مساهمات مستمرّة في صحف و دوريّات وطنيّة وعربيّة عدّة .
من مؤلّفاته ؛ 1 ـ العرب والغرب أيّة علاقة .. أيّ رهان . 2 ـ محنة التراث الآخر . 3 ـ ما بعد الرشديّة .. ملاّ صدرا رائد الحكمة المتعالية . 4 ـ المفارقة والمعانقة .. رؤى نقديّة في مسارات العولمة وحوار الحضارات . 5 ـ حوار الحضارات .. مأزق الحداثة وبؤس آليّات التثاقف . 6 ـ الإسلام والحداثة ، إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب ـ تحت الطبع ـ .

متن الحوار

المحاوِر : كيف نستطيع دراسة الثورة الحسينيّة في إطار معالجة قضايا الفكر الإسلامي وقضايا الاُمّة في راهنها ؟
إدريس هاني : إذا ما تعمّقنا أكثر في المحتوى الحضاري والإنساني للثورة الحسينيّة ، سوف نجدها بلا شكّ أكبر من كَونها مجرّد ثورة ، ليس كلّ ثورة تمتلك استحقاق الخلود في لوح التاريخ الممدود .
وحيث ما يميّزها عن عموم الثورات هو خلود مضمونها الرسالي الكبير ، وما كان قد كشف عنه هذا الجرح الحسيني المفتوح من دروس وعِبَر ، فإنّنا نفضّل أن نحترز بها عن هذا العموم بعِوَض لفظيّ أكثر تقييداً ، هو ( النّهضة ) بكلّ ما تعني الكلمة من معنى .
وما يجعلني أرى أنّ كلمة ( ثورة ) لا بشرط القيد الإحترازي المذكور لا تفي بالغرض في المقام ؛ هو أنّ لا قيمة للثورة إلاّ فيما تحدثه في الوجدان الجماعي من آثار توقظ العقل وتحرك الروح . كما أنّ الثورة هي أمر عام يمكن أن تقوم به جماعة إنسانيّة في ظروف مختلفة ولغايات لا يتعدّى محتواها إلى الدائرة الإنسانيّة .
وكم من نظير في التاريخ لثورات قامت ولم تتعدّ حدودها ولا استطاعت أن تتحوّل إلى درس تستلهم منه الأجيال مقوّمات نهضتها . وثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كانت تعبيراً عن نهضة معاقة ، وردّة فعل عن عصور أخذت طريقها نحو الانحطاط ، ثمّ هي ثورة أحرار لا ثورة عبيد . فالحسين (عليه السّلام) لم يسمح لقاتليه بالإذلال . فكان أسرع في ردّ طغيانهم قبل أن يمسّه عار المذلّة . إنّها ثورة أثمرت وعياً حيّاً في نفوس الأجيال المتعاقبة ، تشدّها إلى معنى الكرامة وجمال التحرّر . فهي بما ينضمّ إليها من إنجازات تمثّل نهضة اُمّة ، وإن كان الحسين (عليه السّلام) صانعَ ملحمتها ، بوصفه الممثّل الشرعي لضمير الاُمّة ، وهي أيضاً نهضة إذا ما تأمّلناها في ضَوء المشروع الإصلاحي الكبير الذي قاده جدّه و أبوه وأخوه ، كما تؤشّر عليه كلمته وهو يتحرّك باتّجاه الكوفة : (( إنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر )) .
إنّها ثورة هيمنت على الوجدان المسلم ، فصنعت كلّ التحوّلات التي شهدتها القرون اللاحقة . وأنت تجد أنّ ما أعقبها من ثورات ـ كثورة التوّابين لسليمان بن صرد الخزاعي أو المختار الثقفي ، أو حتّى ثورة العلويين المتحالفين في بداية نضالهم مع الثورة العبّاسيّة ضدّ المشروع الاُموي المقبور ، والذين رفعوا شعار الرضى من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ـ كلّها كانت تستحضر الشعار الحسيني . وسواء أنجحت في ترجمة شعاراتها أم لا ، فإنّها ثورات ملهمة من هذا الروح الحسيني الذي أعاد صياغة العقل المسلم باتّجاه إمكانيّة التغيير للأفضل .
في هذا الإطار يمكننا القول بأنّ النّهضة الحسينيّة كانت في صلب المسألة الإسلاميّة ، فلسنا نحن مَن يحتاج أن يقرّب النّهضة الحسينيّة إلى صلب قضايانا الراهنة ، ومسائل الفكر الإسلامي ، بل لا قيمة لهذا الفكر إذا لم يستحضر تجارب الاُمّة في النّهضة والإصلاح ، والنّهضة الحسينيّة هي طليعة هذه التجارب . وهل قضايا الفكر الإسلامي وقضايا الاُمّة الراهنة ، إلاّ الحريّة والكرامة والإحساس بالمسؤوليّة والضمير الأخلاقي الذي شكّل مقاصد النّهضة الحسينيّة ؟! فهي نهضة حيّة لا تموت من خلال القِيَم التي كانت تنطق من داخل الميدان وترسم للاُمّة نهجاً في التحرّر وعدم القبول بالذلّ فكلّ كلمة نطق بها أبو الشهداء عبّرت عن منتهى ما يطلبه الأحرار.
إنّ النّهضة الحسينيّة ، كانت اُولى النّهضات التي شَهِدها التاريخ جعلت لها مطلباً للتحرّر والكرامة . لَم تكن ثورة من أجل الخبز على شرف ثورات الخبز ، ولا ثورة ضدّ التمييز العنصري على شرف الثورات التي قامت ضدّ التمييز ... فلقد كان بنو هاشم كرام القوم لا يملك أحد إذلالهم إلاّ وذلّ وذاق من كأس الهوان . لكنّها كانت ثورة من أجل الكرامة ومن أجل الحريّة . والذين صمّموا على إذلاله يدركون أن مغامرتهم تلك جاءت بعد أن حسم الحسين (عليه السّلام) في موقفه من يزيد ، وتموقعه في صفوف المظلومين . فكان إذلال يزيد للحسين (عليه السّلام) إذلالاً لرمز يمثّل ضمير هذه الفئة المستضعَفة والمستباحة كرامتها .
فسير الأحداث يؤكّد على أنّ الحسين (عليه السّلام) أبى إلاّ أن يكون درعاً واقيةً لهؤلاء ، ومعبِّراً شجاعاً عمّا لا يقوى التعبير عنه آخرون . فلقد قدّم الحسين (عليه السّلام) أكبر دليل على خدعة الإسلام الاُموي . ولَو لا قَتل الحسين (عليه السّلام) بتلك الطريقة الهمجيّة ، لما سمعنا يزيد يكشف عن نوايا التيّار الاُموي من خلال تمثّله للأبيات الشهيرة ، التي جاء فيها :

لَعِبتْ هاشِمُ بِالمُلكِ فَلا    خَبَرٌ جاءَ ولا وَحيٌ نَزَل

فلقد أظهر الحسين (عليه السّلام) أنّه ليس طالب ملك ، بل طالب كرامة . وليس طالب غلب ، بل طالب تحرّر . وليس طالب دنيا ، بل طالب آخرة . وليس طالب ثأر ، بل طالب عدالة ...
في تصوّري أنّ قضايا الاُمّة الراهنة هي من سنخ قضايا النّهضة الحسينيّة ؛ ذلك لأنّها قضايا إنسانيّة تكررّت على امتداد هذا الزمن المهدور على إيقاع فظاعات الإنسان في ربوعنا . وما دامت القيم النّبيلة التي استشهد من أجلها الحسين (عليه السّلام) لم تتحقّق ، فحتماً سيظلّ كلّ زمانٍ عاشوراء ، وكلّ مكانٍ كربلاء . على أنّه يجب فهم العبارة في عمق محتواها وفلسفة تجادل القيم مع الواقع ، حَيث كلّ بحَسَبه ، فالتاريخ يعيد نفسه ، لكن بصورة أكثر تعقيداً وتركّباً . وإذا كانت الثورة الحسينيّة النّهضويّة هي أول ثورة في تاريخ النّوع جعلت عنوانها التحرّر والكرامة ، فإنّها أول ثورة من داخل التجربة الإسلاميّة ضدّ استغلال الدِّين للإستبداد السّياسي وإذلال الخلق . وقبل حركات التنوير والإصلاح الدِّيني الذي شهدته اُوربا الحديثة ، يُطلَب الإصلاح في الوعي الديني . ولعلّه أول من جعل الكرامة والإحساس بالحريّة عنواناً لا بشرط لنهضة الاُمّة .

المحاوِر : كلّما أمعنّا النّظر في بيان مشروعيّة الثورة الحسينيّة ، نجد أنفسنا في مواجهة نماذج أكثر تعصّباً ومعاداةً لمدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) ، أين الخلل في نظركم ؟ هل هو كامن في اُسلوب خطابنا ؟ أم أنّه في طريقة تلقّي الآخر لهذا الخطاب ؟
إدريس هاني :
ثمّة خلل بلا شكّ وهو خلل على تفاوته يظلّ مشتركاً بين الإثنين . خلل في الخطاب ، وخلل في ذهنيّة المتلقّي للخطاب .
وأعتقد أنّ مقتضى النّهضة الحسينيّة ومحتوى حركتها الرساليّة ، هو الإنصاف والعدالة والاعتراف ؛ لذا يتعيّن الحديث عن خلل يصيب الجهتَين معاً . حيث أنّ ثمّة أمر آخر يشكّل مقصداً مؤطّراً وموجّهاً لكلّ قراءتنا ، وهو المقصد نفسه الذي فجّر الثورة الحسينيّة ( أعني وحدة الاُمّة ، وإحساس أبنائها بأنّ أمراً كبيراً شغل وجدان رموزها ) ، وهو الوحدة التي تتعالى على الخلاف ولا تصل إلى حدود القطيعة . ونعتقد أنّ آثار القطيعة التاريخيّة لا زالت رابضة على العقول والقلوب ؛ ومن هنا فإنّ الحديث عن المسؤوليّة المشتركة ـ على التفاوت في النيّات والمقاصد ـ هو أمر ضروري . ونحن نعتقد أنّنا مطالبون أكثر من غيرنا بالتنازل في العوارض ؛ لِما يخفّف من وطأة هذا الشرخ الذي جعل الاُمّة في أرذل عمرها تبدو كالرجل المريض . ونعتقد أنّ منطق الاُبوّة للاُمّة الذي وسم معالم النّهضة الحسينيّة بميسمه الخاص ، يفرض على شيعته مواقف مسؤولة وصبراً أكبر وتشبّثا بمصلحة الاُمّة لا يحرّكه الاستفزاز ، وطلباً لرأب الصدع لا يخفّف من باعثيّته إزعاج ، وذلك في نظري نابع من حالة الجهل وغياب معطيات كثيرة على مَن يتلقّى الخطاب في زحمة التهريج والحصار التاريخي الذي جعل كلّ ما يقال عن شيعة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) هو ما تنسجه حولهم أيادي خصومهم . تارة بجهل بسيط ، وتارة بجهل مركّب .
أعتقد أنّ معالجة الخلل ينبغي أن يتمّ خارج هذا التراكم التاريخي المهول من المسبقات والخلفيّات التي حكمت العقول والأذهان ، واستمرّت ترفد العقل المسلم اليوم بكل فظاعاتها . وأعتقد أنّ العصر بما يشهده من نضج حضاري ومن إمكانيّات هائلة للبحث عن جذور الأزمة ومعوقات العقل الإسلامي ، يمكننا من تدبير أمثل لخلافنا لقد عاش المجتمع الإسلامي عبر تاريخه على إيقاع ثقافة الاستئصال . وقد لحق أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) من الظلم ما لم يلحق مدرسة من المدارس . ولا أدري كيف أنّ كلّ المدارس التي كان على رأسها فقهاء وعلماء من عموم الاُمّة نالت من الاحترام والتقدير ما لم تناله مدرسة كان رموزها هم أكبر رموز الاُمّة بلا منازع ! إنّها لمفارقة حقّاً ، وحتماً إنّنا في المجتمع المغلق المحكوم بفوبيا الاستئصال سيتشكّل لدَيه إحساس خاص بمعتقداته .
وحيث أنّ المجتمع المغلق ـ بخلاف المجتمع المفتوح ـ يطوّر لنفسه تجربة طقسيّة ، تستمدّ تعبيراتها من الراموز الشعبي والظواهر والأذواق السّوسيو / ثقافيّة ؛ وهذا ما يجعل هويّة المجتمع المغلق تزداد ابتعاداً عن الآخر ، وتتضخّم مظاهر غربة المجتمع المغلق عن الآخر . إنّ ما نجده من مظاهر طقوسيّة عاشورائيّة هو نتيجة هذه العزلة التاريخيّة والحصار الذي فرضته السّياسة الاستئصاليّة . إنّ الموقف الاستغرابي من الظاهرة الشيعيّة في طقوسيّاتها العاشورائيّة مسألة طبيعيّة بالنّسبة للآخر المسلم الذي يكتفي بالفرجة ولا يشارك إخوانه الاحتفال بالذكرى . وهو إلى حدّ ما معذور تاريخيّاً ؛ لأنّه لم يتمثّل عمق المحنة وعمق الجرح الحسيني المفتوح . وتلك هي المشكلة .

المحاوِر : بين تفريس الشيعة ـ ولَو كانوا عرباً ـ وتعجيم عاشوراء إذا استحضرها الإيرانيّون ، نلاحظ أنّ الثورة الحسينيّة ظلّت عرضة لتجاذبات طائفيّة وقوميّة يسوقها أعداء الاُمّة . كيف السّبيل لتجاوز هذه الإشكاليّة باتّجاه توحيد المسلمين على الخطاب الحسيني العاشورائي من جهة ، وعَولَمة هذا الخطاب من جهة اُخرى ؟
إدريس هاني :
إنّ مقاصد الثورة الحسينيّة أوسع من المدى الذي تردّت إليه بفعل الاختزال الطائفي لها . وهو وضع يستدعي وقفة تأمّل قصوى . والحالة الطائفيّة الاختزاليّة ليست صناعة شيعيّة محضة ، بل هي نتاج أزمة قطيعة داخل الاُمّة تعدّت إلى مستوى الاختلاف في اعتبار الرموز وكيفيّة استحضارها في الوجدان المسلم . فالحسين (عليه السّلام) وقضيّته يحضران في الوجدانيّة الشيعيّة على خلاف ما يحضران في الوجدانيّة السنيّة . وطبيعيّ أنّ المجتمع السنّي لم تتوفّر له الشروط الكافية ، ولا عاش الظروف الموضوعيّة لتطوير ثقافة حسينيّة ، لأسباب تاريخيّة مشهودة . وهذا لا يعني أنّهم قتلة الحسين (عليه السّلام) ، ففي اعتقادي لا وجود لقتلة الحسين (عليه السّلام) بيننا . إنّ الحسين (عليه السّلام) أكبر من أن يكون رمزاً لطائفة أو لقوميّة ما .
وأمّا خطاب التفريس والتعجيم لكلّ مظاهر التشيّع فهو يقوم على مغالطة كبرى ، تحجب حقيقة أنّ المظاهر الحسينيّة انتقلت إلى فارس من البلاد العربيّة ، وإن تلبّست بمظاهر التجربة الذوقيّة الصفويّة وقبلها البويهيّة ، فتلك ثمرة التثاقف الطبيعي . والذين درسوا تاريخ الدولة الصفويّة يدركون بأنّ التشيّع الإيراني ساهم فيه أعلام من الأحساء وجبل عامل . هذا من الناحية التوثيقيّة . وأمّا في تصوّري ، فإنّ الدعوة المذكورة تحمل في ثناياها سخف القول وضحالة التصوّر . فالدارسون للثقافات يدركون كم هي خاضعة لقانون التبادل والانسياح والتثاقف . فإيران تؤثّر بقدر ما تتأثّر . واستقباح الثقافات لمجرّد كَونها غير عربيّة غير مفهوم من النّاحية العلميّة ، ولا مقبول من النّاحية الأخلاقيّة . هذه النّزعة البالية التي تحاول تصوير فارس كما لو أنّها شرّ حضاري ، نزعة جاهليّة مردودة بقول صاحب الدعوة : (( لو كان الإسلام في الثريا لناله رجال من فارس )) . هذا فضلاً عن أنّها مردودة تاريخيّاً ، لجهة كَون الحضارة الإسلاميّة مدينة في كلّ فنونها وصنائعها للعقل الفارسي المسلم . وحينما تنازع الصحابة يوم الخندق حَول من يفز بفضل نسب سلمان الفارسي ، حيث قال المهاجرون : سلمان منّا . وقال الأنصار : سلمان منّا . حسم صاحب الدعوة (صلّى الله عليه وآله) النّزاع قائلاً : (( سلمان منّا أهل البيت )) . فكان سلمان الفارسي هو سلمان المحمّدي . وكلّ فارسي أسلم واتّقى يكون من سنخ سلمان ، أي بقدَر سلمانيّته يكون أقرب إلى أهل بيت النبوّة . وكما أنقذ سلمان الفارسي المسلمين يوم الأحزاب ـ حين بلغت القلوب الحناجر ـ بفكرة الخندق ، فإنّ فارس تستحقّ اليوم احتراماً لقاء ممانعتها ولقاء نصرتها ، فلا ينطق بلغة التفريس والتمييز العنصري البغيض في المعتقد الإسلامي إلاّ مغالط . لا يجوز الحكم على اُمّة من خلال مواقف نشاز وانفعاليّة تنطلق من هنا أو هناك . فنحن العرب لدينا مَن ينزع مثل هذا النزوع إلى حدّ الفحش . لكنّه يظلّ نزوعاً غريباً على فكر الاُمّة ووجدانها . وكان بالأحرى لو شئنا توسيع هذه النّزعة لحكمنا بتفريس كلّ الحضارة الإسلاميّة ، متى ما علمنا بأنّ المدرسة السنيّة فقهاً واُصولاً وحديثاً هي من نتاج قوم من الفرس . فالبخاري ومسلم وابن حنبل والترمذي وابن باجة والدارقطني والطبري والغزالي و... و... هؤلاء كلّهم أعاجم وجلّهم من فارس ، فأين يذهبون ؟ ولقد كانت إيران قبل تشيّعها على اعتقاد الاُمويّين في سبّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) على المنابر . وكانت مناطق منها آخر مَن قَبِل بالتراجع عن هذه البدعة في زمن عمر بن عبد العزيز .
وأمّا الحديث عن كيفيّة عَولَمة الخطاب الحسيني ، فأنا أعتقد أنّ المسألة تتعلّق بالمخاطِب قبل المتلقّي . فالخطاب الحسيني رهين بنضج وثقافة الحامل للخطاب . فيمكن أن يرقى الخطاب برقيّ حامله ، ويمكن أن يتقزّم الخطاب فيأخذ شكل حامله حيثما أضفى على الخطاب رؤيته المحصورة أو دثره بخصوصيّته الضيّقة . فالخطاب الحسيني قد يصبح عالميّاً كونيّاً إذا توفّر الحامل الكَوني والإنساني ، أي أن يرقى الخطاب ليلامس وعي العالم ونضج العالم . ومن هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار ، الذّوق العالمي والثقافة العالميّة في تقديم رسالة الحسين ، واستنطاق ملحمة الحسين ، وتأويل ثورة الحسين (عليه السّلام) .

المحاوِر : مع استمرار التوجّه التكفيري ، ورغم الكمّ الهائل من دعوات الحوار ومؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلاميّة ـ وهما مفتاح القرن الواحد والعشرين ـ ما هي فائدة طروحاتنا الحسينيّة إذا لم تكن عصريّة ومقنعة مستقبلاً ؟
إدريس هاني : ليست المشكلة في التوجّه التكفيري ، ما دام لم يخل تاريخنا من نظائر لا يزال يحتفظ بها التاريخ الإسلامي . ولا يجب أن نعطي أهميّة معرفيّة وتاريخيّة لهذا الخطاب ، ما دام أنّه بلغ الأمر بهذه الاُمّة يوماً أنّها كانت تلعن في المنابر وأعقاب الصلوات أمير المؤمنين والصدّيق الأكبر لمدّة قرن من الزمن . ولقد كان الإمام علي (عليه السّلام) أول ضحايا النهج التكفيري . وحيث نذكر كيف عقّب الخوارج على جواب الإمام بالقول : كافر ما أفقهه ! وإذا كان ملهم نهج البلاغة وقف مشدوهاً أمام جهل التكفيريين ، حيث قال عن أمثالهم : (( ما حاججت جاهلاً إلاّ غلبني )) . فأيّ حجّة نستطيع امتلاكها في وجه المكابر التكفيري ؟! ولكنّني أعتقد أنّ عصر التكفير يتراجع تدريجيّاً وأحياناً بالجملة أمام نضج البشريّة واتّساع رقعة الخطاب العقلاني . فالتكفيريّون لا تزدهر صناعتهم ولا يزدهر فنّهم إلاّ في عصور الإنحطاط وشيوع الظلاميّة وتمكّنها من الأذهان . واليوم فإنّ التوجّه التكفيري يعيش صدمته الكبرى ولم يعد يملك من حجّة سوى التحريض على قتل النّفس المحترمة .
على هذه المحاولات التقريبيّة والحواريّة أن تتواصل . ولا ينبغي أن ييأس الوحدويّيون والتقريبيّون أمام خطاب التيئيس الذي ينهجه أعداء وحدة الاُمّة . وعلى الطروحات الحسينيّة أن تكون حاضناً حقيقيّاً لخطاب الوحدة والتقارب بين المسلمين . فالحسين (عليه السّلام) هو للاُمّة جميعاً ، وعلينا أن نحاسب إخواننا المخالفين على ذلك باعتبار أنّ الحسين (عليه السّلام) لهم أيضاً ، وليس لنا فحسب .

المحاوِر : كيف لنا أن نطوّر الخطاب الحسيني لجميع أبناء الاُمّة الإسلاميّة مع احتفاظ أتباع كلّ مذهب بخصوصيّاتهم ؟
إدريس هاني : لا أجد في الاختلاف الفروعي ولا حتّى الاُصولي ما يمنع من الاشتغال اليقيني بواجب الوحدة . فالمسألة في اعتقادي ليست نافلة ، بل هي واجب تكليفي عيني . يجب أن يوجّه كلّ سلوك ومواقف المسلم المعاصر . إنّ إحتفاظ أتباع المذاهب بقناعاتهم لا يرفع واجب الحرص على الوحدة . فالقناعات تابعة لأدلّتها . ولا نطلب من المخالف أن يحيد عن أدلّته التي انبنى عليها قطعه بالمرادات . ولا نطلب من أحد أن تكون قناعته عن تقليد أو دون دليل معتبر . ومثل هذه الرياضة المناظراتيّة يمكن أن تستمرّ بين المسلمين في أجواء محكومة بفقه للخلاف يستحضر أخلاقيّات الحوار وعقلانيّة المناظرة . لكن الخلاف ما دام في نظري لا يمسّ الاُسس التي بها يكون المسلم مسلماً ، ولا يجرف الحدّ الأدنى الذي جعل الأئمّة أنفسهم يعايشون المخالف لنهجهم ويعتبرونه مسلماً ، فلا حاجة للاسترخاء في طلب الوحدة والتقارب بين المسلمين . ومن هنا يتعيّن تقديم الخطاب الحسيني باعتباره طلباً لإصلاح الأمة جميعاً كما يظهر من كلمة الإمام الحسين (عليه السّلام) . علينا أن نعيد قراءة المشهد بعيون فوق طائفيّة . وأن نقرأ الحسين (عليه السّلام) كمصلح كبير للاُمّة ( كلّ الاُمّة ) وليس متحيّزاً في حركته الرساليّة لطائفة ما . بل قد يصبح توسيع الخطاب الحسيني وجعله عنواناً لوحدة الاُمّة أمراً ضروريّاً بهذا اللحاظ . وذلك كلّه يتطلّب وقفة ، وقفة تأمّل قصوى كما قلنا سابقاً .
إنّ الخطاب الحسيني خطاب إسلامي وإنساني مفتوح . والإمام الحسين (عليه السّلام) طلب من محاصريه أن يسمحوا له بأن يتّجه إلى ثغر من ثغور المسلمين ليدافع عن الاُمّة حتّى يلقى الله . كما أنّ ابنه زين العابدين (عليه السّلام) رغم مواجع الاستضعاف الاُمويّ وجرح ما شاهده من إبادة لأهل بيته ، يقدّم نموذجا للهمّ الوحدوي من خلال دعاء أهل الثغور الذي يلامس فيه قضيّة الاُمّة الكبرى ، والقلق على بَيضة الإسلام بما يفوق الاعتبارات الشخصيّة والحسابات السياسيّة الضيّقة .

المحاوِر : عادةً ما تجدنا نغفل البُعد التبليغي العصري لأبعاد عاشوراء . وبلحاظ وجود شبكات معقّدة من الفضائيّات ، ومن أجل عرض فوائد الثورة الحسينيّة ومكاسبها باُسلوب مقبول من الجميع ، ماهي مقترحاتكم ؟
إدريس هاني : كما تحدّثت عن توسيع دائرة المتلقّي للخطاب الحسيني ليشمل الاُمّة جمعاء ، ويعانق تطلّعات أبنائها ، فإنّني أدعو إلى مزيد من توسيع دائرة المتلقّي لتشمل البُعد الإنساني الكَوني لهذا الخطاب . ولعلّ النّاظر في مفردات الخطاب الحسيني سيكتشف أنّ أكثر المسائل التي أثارها ـ هي بلا شرط ـ تتّجه نحو الإنسانيّة ، وتخاطب الضمير الإنساني من حيث هو إنسان .
ولقد افترض الحسين (عليه السّلام) أنّ خصومه ـ لاسيّما المستمتعين بقتله ـ أنّهم كانوا لا يؤمنون بالمعاد ولا يخافون الله ؛ لذا تقدّم خطوة ليخاطب ما يلزمهم برسم الضمير الإنساني : (( فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عرباً كما تزعمون )) . فهو يتحدّث عن الإنسان وعن الفتى وعن النّفس المحترمة وعن الحقّ والكرامة ... ، فكلّ ما نطق به هو مدرج في الملفّ المطلبي لكلّ حركات التحرّر والتحرير ، ويستطيع أن يفهمه الإنسان بوصفه إنساناً في كلّ عصر وفي كلّ جيل .
ولا يخفى عليكم ، كيف التقط ( غاندي ) وهو رمز من رموز حركة التحرّر الوطني هذا الخطاب يوم قال ، وهو غير مسلم : تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر .
لكنّني لا زلت أرى الحسين (عليه السّلام) وقضيّته غير مقروءة ، ولا مستوفاة بالقراءة على المدى الكَوني . ولا يزال الخطاب الحسيني بوصفه جوهر الخطاب الإسلامي مشخّصاً خير تشخيص في الميدان لينقلنا إلى وجه آخر من فهم الإسلام . فالحسين (عليه السّلام) هو أكبر ضحيّة للإرهاب والإقصاء والاستئصال .
وفي الخطاب الحسيني نستطيع الوقوف على فكر احترام الآخر واحترام الحياة ، حيث ليس موت الحسين (عليه السّلام) إلاّ فضحاً لذلك النّهج القائم على قتل النّفس المحترمة . وفي هذا الإطار نعتقد أنّ أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) تتاح لهم اليوم فرصة لم تتاح لهم منذ قرون . وليس ذلك إلاّ بتوفيق من الله تعالى ، ومصداق قوله : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) . لكنّني أعتقد أنّ ذلك يضاعف المسؤوليّة . وهو أنّ واجباً علينا استشعار المسؤوليّة والتزوّد بصبر أكبر واحترام الآخر .
عليك أن تقدّم تصوّرك ورأيك بعدل وإحسان ، بعيداً عمّا يخدش كرامة ومقدّسات الآخرين . ما أقوله وهو أنّ الفضائيّات اليوم عليها أن تطوّر من اُسلوبها ، حتّى لا تتحوّل إلى حسينيّات مفتوحة . عليها أن تستحضر ذوق الآخر وعقل الآخر ، وتطوّر خطابها الحسيني بمستوى أنضج وأعمق وأكبر .

المحاوِر : كيف يمكن تقديم الملحمة الحسينيّة بعيداً عن الإفراط والتفريط أو التركيز على عرض مظلوميّة أهل البيت (عليهم السّلام) كما تعوّدنا ذلك في خطاباتنا السابقة غالباً . وما هو تصوّركم للمواصفات المطلوبة في الخطباء والمبلّغين العاملين في حقل المنبر الحسيني في الوقت الحاضر ؟
إدريس هاني : أحياناً تكون المسألة أبعد من مجرّد وجود إفراط أو تفريط في الاُسلوب الذي يقدّمه أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) بخصوص الخطاب الحسيني . المسألة في تصوّري تتعلّق باختلاف في الأذواق ، واختلاف في الأنماط . وهذا ليس من حقّ أيّ قارئ للظاهرة من الخارج أن يستشكل عليها من ناحية الإفراط والتفريط ، على أساس أحكام القيمة . وحده علم اجتماع الثقافة يمكنه أن يقف على المعقول الثاوي في صلب اللاّمعقول في كلّ ممارسة طقسيّة ذات بعد سوسيو / ثقافي .
وأنا شخصيّاً أستمتع بالفرجة في كلّ اُسلوب له مرجعيّته في الثقافة الرمزيّة لشعب من الشعوب . أحيانا أستحسن بعض الأنماط الاحتفاليّة وأحيانا أستقبحها ، لكنّني أتفهّمها . وأمّا ما يسمّونه ( الحماقة ) فهي أحكام معياريّة تدلّ على جهل حقيقي بنسبيّة الطقوس والثقافة الاحتفاليّة من وجهة نظر اجتماعيّة وانتروبولوجيّة . لكن ما أريد التنبيه إليه بهذا الخصوص هو أنّ ضرورات توسيع مدى المتلقي المفترض للخطاب الحسيني وضرورات عالميّته تفرض نوعاً من التخفيف من وطأة التضخّم في النّمط الخاص ؛ لأنّنا نرى أنّ الطقس الحسيني في خصوصيّته الاحتفاليّة المحليّة أحياناً يسبق المعطيات الموضوعيّة الملهمة والفلسفة التي تختفي وراء حرارة الطقس . وبالتالي أحياناً ـ ولا أقول دائماً ـ هناك تأثير سلبي يجعل الوعي بالفلسفة الحسينيّة متأخّراً عن التأثّر اللاّواعي بطقوسيّتها . بل أخشى أن تتحوّل الرسالة الحسينيّة في فلسفتها الإنسانيّة الكليّة إلى ظاهرة سوسيو / ثقافيّة محضة تغطّي على بعدها الأيديولوجي والتاريخي الموضوعي ومحتواها النهضوي والرسالي الذي يلامس الوعي والعقل بقدر ما يلامس الوجدان واللاوعي .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الامام الرضا في سطور
الإمام الحسين في ظلال السنة(الطائفة الأولى)
دور الإستعارة الدلالي في نهج البلاغة
إخبار الله تعالى بقيام القائم عليه السّلام
من معاجز أمير المؤمنين عليه السّلام
ولادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام
الأسرة وأهمية دورها التربوي في إعداد الأجيال
خطبة شعبان وفضائل شهر رمضان
إبراز الحب‏
قول أهل الذكر بخصوص أهل البيت

 
user comment