عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

المعروف والمنكر والأكثرية الصّامتة

5 - المعروف والمنكر والأكثرية الصّامتة

من فرائض الإسلام الكبرى فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الكتاب الكريم والسّنّة الشّريفة في عدة نصوص دالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على جميع المسلمين بنحو الواجب الكفائي1.
كما وردت نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسّنّة، منها ما يشتمل على بيان الشّروط التي يتنجز بها وجوب هذه الفريضة على المسلم. ومنها ما يضيء الجوانب السّياسية والإجتماعية لهذه الفريضة، كما يوضح المبدأ الفكري الإسلامي العام الّذي ينبثق منه هذا التّشريع، دلّ على وجوب هذه الفريضة من الكتاب الكريم قوله تعالى:
«ولتكُن مِنكُم أُمَّة يدعُون إلى الخيرِ ويأمُرُون بِالمعرُوفِ وينهون عن المُنكرِ، أُولئك هُمُ المُفلحُون»2.
فقد دلّت هذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من جهة دلالة لام الأمر في «ولتكن» على الوجوب.


________________

1 . من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أُصول الفقه تقسيمه إلى واجب عيني وواجب كفائي. ويعنون بالواجب العيني ما يتعلق بكلّ مُكلَّف ولا يسقط عن أحد من المكلّفين بفعل غيره. ويعنون بالواجب الكفائي ما يطلب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان، فهو يجب على جميع المكلّفين ولكن يكتفى بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم إذا تركه جميع المكلّفين فالجميع مذنبون. وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشّريعة منها تجهيز الميّت والصّلاة عليه، ومنها الحِرَف والصّناعات والمِهَن الّتي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة النّاس ومنها الإجتهاد في الشّريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
2 . سورة آل عِمران (مدنيّة - 3) الآية: 104.

114
كما أنّ ظاهرها أنّ الواجب هنا كفائي لا عيني، لأن مفاد الأمر تعلّق بأن تكون في المسلمين أُمّة تأمر وتنهى، لا بجميعهم على نحو العينيّة الإستغراقيّة وعليه فإذا قامت جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقيّة المكلّفين كما هو الشّأن في الواجب الكفائي.
ولم يحدّد في القرآن والسّنّة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمّة، فيراعى في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.
وقد جعل اللّه تعالى في كتابه الكريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلى ذلك، من صفات المؤمنين الصّالحين، فقال تعالى:
«والمُؤمِنُون والمُؤمِناتُ بعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمُرُون بِالمعرُوفِ، وينهون عن المُنكرِ، ويُقيمُون الصَّلاةَ وُيؤتُون الزَّكاة ويُطيعُون اللّه ورسُولهُ اُولئك سيرحمُهُمُ اللّه إن اللّه عزيز حكيم»1.
فقد دلّت الآية المباركة على تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبرّ والتقوى، وأنّهم جميعاً من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.
وسياق الآية الكريمة دالّ على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، من حيث أن بقيّة ما ورد في الآية كلّه من الواجبات المعلومة في الشريعة (الصّلاة، والزّكاة، وطاعة اللّه ورسوله)2، وإن لم تكن الدّلالة السّياقيّة من الدّلالات الّتي لها حجيّة في استظهار الأحكام الشّرعية.
وكما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات - كأفراد - في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخرى مدح المسلمين كافّة - كأمّة ومجتمع - من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها، وتلك هي قوله تعالى:


________________

1 . سورة التّوبة (مدنيّة - 9) الآية: 71.
2 . ربّما يكون المراد من طاعة اللّه ورسوله، بعد ذكر الأمر والنّهي والصّلاة والزّكاة - الطاعة في الشّأن السّياسي، فلا يكون من ذكر العامّ بعد الخاص.

115
«كُنتُم خير أُمَّةٍ أُخرِجت لِلناسِ تأمُرُون بِالمعرُوفِ وتنهون عن المُنكرِ، وتُؤمنُون بِاللّه»1.
وقد مدح اللّه في كتابه الكريم المسلمين من أهل الكتاب، أتباع الأنبياء السّابقين قبل بعثة النّبيّ محمّد (ص) بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، ممّا يكشف عن أنّها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغهِ، وأنّها قد كانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التّشريعيّة الّتي جاء بها أنبياء اللّه تعالى جيلاً بعد جيل. قال تعالى:
«ليسُوا سواءً مِن أهلِ الكتابِ أُمَّة قائمة يتلُون آياتِ اللهِ آناء الليلِ وهُم يسجُدُون. يُؤمنُون بِاللّه واليوم الآخرِ، ويأمُرُون بِالمعرُوف وينهون عن المُنكرِ، ويُسارعُون في الخيراتِ وأُولئك مِن الصّالحين»2.
*
وقد كان إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس المجتمع من شواغل الإمام الدّائمة. وقد تناولها في خطبه وكلامه - كما تعكس لنا ذلك النّماذج الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة - من زوايا كثيرة:
تناولها كقضيّة فكريّة لا بدّ أن توعى لتغني الشّخصية الواعية، وباعتبارها قضية تشريعية تدعو الأمّة والأفراد إلى العمل.
ومن هذين المنظورين عالجها بعدة أساليب.
*
لقد أعطاها منزلة عظيمة، تستحقها بلا شك، بين سائر الفرائض الشرعيّة، فجعلها إحدى شعب الجهاد الأربع:
«.. والجهادُ منها - من دعائمِ الإيمانِ - على أربعِ شُعبٍ: على الأمرِ بالمعرُوف والنَّهي عن المُنكرِ، والصِّدقِ في المواطن، وشنآن الفاسقينَ، فمن أمرَ بالمعرُوفِ شدَّ ظُهُور المؤمنين، ومن نهى عن المُنكرِ أرغم أنُوف الكافرين ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن


________________

1 . سورة آل عِمران (مدنيّة - 3) الآية: 110.
2 . سورة آل عِمران (مدنيّة - 3) الآية: 113 - 114.

116
شنِئ الفاسِقِين وغضِب للّه غضِب اللّهُ لهُ وأرضاهُ يوم القيامةِ»1.
وجعل الإمام هذه الفريضة، في كلام له آخر، تتقدم على أعمال البرّ كلّها، فقال:
«... وما أعمالُ البِرِّ كُلُّها، والجهادُ في سبيلِ اللّه عندَ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ إلا كنفثةٍ2 في بحرٍ لُجِّيٍّ...»3.
ومن السّهل علينا أن نفهم الوجه في تقدّم هذه الفريضة على غيرها إذا لاحظنا أنّ أعمال البرّ تأتي في الرّتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي - الشّرعي والأخلاقي - وأنّ الجهاد لا يكون ناجعاً إلا إذا قام به جيش عقائدي، وهذه كلّها تتفرع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحد الأدنى للإلتزام المسلكي بهما.
*
في بعض كلماته بيّن الإمام جانباً من الأسباب الموجبة لهذا التّشريع، فقال:
«فرضَ اللّهُ... والأمرَ بالمعرُوفِ مصلحةً للعوامِّ، والنَّهي عن المُنكرِ ردعاً للسُّفهاءِ»4.
فعامّة النّاس الّذين قد يقعون في إثم ترك الواجبات لأنّهم لا يعرفونها على وجهها أو يجهلونها، يمكّنهم الأمر بالمعروف من التعلّم والتفقّه، بالإضافة إلى أولئك الّذين يقعون في إثم ترك الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام حيث يردّهم الأمر بالمعروف إلى جادّة الصّواب والإستقامة، كما يرد إليها السّفهاء الّذين يتجاوزون في لهوهم وعبثهم حدود اللّه.
*
وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مراتب متدرجة من الأدنى إلى الأعلى، فهي


________________

1 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: 31.
2 . النفثة - كالنّفخة لفظاً ومعنى بزيادة ما يمازج النفس من الريق عند النّفخ.
3 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: 374.
4 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 252.

117
فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوعة، وللأوضاء المختلفة. فربّ إنسان تنفع في ردعه الكلمة، وربّ إنسان لا ينفع في شأنه إلا العنف.
ولكلّ حالة طريقة أمرها ونهيها الّتي يقدّرها الآمر والنّاهي العارف، ويتصرّف بقدرها فلا يتجاوزها إلى ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحطّ بها إلى ما دونها حيث لا يؤثّر ذلك في ردع السّفيه عن غيّه وحمله على الإستقامة والصّلاح.
وثمّة حالات من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا بدّ فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج إلى أن يقود عملية الأمر والنهي فيها الحاكم العادل. وفي هذه الحالات الخطيرة جدّاً لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أن يقوموا بها دون قيادة حاكم شرعي عادل.
وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتدرج صاعدة من الإنكار بالقلب إلى الإنكار باللّسان إلى الإنكار باليد، وللإنكار باللّسان درجات، وللإنكار باليد درجات...
وإذا كانت الحالات العادية للأمر والنّهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك...
فإنّ الحالات الكبرى الّتي لا بدّ فيها من تدخل الحاكم العادل والأمّة كلّها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بدّ فيها من الإنكار بالقلب واللّسان وأقصى حالات الإنكار باليد - أعني القتال.
وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام عليه السّلام، متمثلاً تارة في ناكثي البيعة الّذين خرجوا على الشرعيّة واعتدوا على مدينة البصرة، ولم تفلح دعوته لهم بالحسنى في عودتهم إلى الطاعة واضطروه إلى أن يخوض ضدّهم معركة الجمل في البصرة. أو المتمردين على الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الّذي رفض جميع الصيغ السّياسيّة الّتي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلى الشرعية. أو المارقين الخوارج على الشّرعيّة والّذين رفضوا كلّ عروض السّلام الّتي قُدِّمت لهم، وأصروا على الفتنة ومارسوا الإرهاب ضدّ الفلاحين والآمنين والأطفال والنّساء...
118
في هذه الحالات وأمثالها على المسلم المستقيم أن يبرأ من الإنحراف في قلبه، وأن يدينه علناً بلسانه، وأن ينخرط في أيّ حركة يقودها الحاكم العادل لتقويم الإنحراف بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك.
قال عليه السلام، فيما يبدو أنه تقسيم لمواقف النّاس الّذين كان يقودهم من المنكر المبدئي الخطير الّذي كان يهدّد المجتمع الإسلامي كلّه في استقراره، وتقدمه، ووحدة بنيه:
«فمِنهُمُ المُنكرُ للمُنكرِ بيدِهِ ولسانهِ وقلبهِ، فذلك المُستكمِلُ لِخصالِ الخيرِ. ومنهُمُ المُنكِرُ بِلسانهِ وقلبهِ والتَّاركُ بيدهِ فَذلِكَ مُتمسِّك بخصلتين من خصالِ الخيرِ ومُضيع خصلةً، ومنهُم المُنكِرُ بقلبهِ والتَّاركُ بيدهِ ولسانهِ فذلِكَ الَّذي ضيَّع أشرفَ الخصْلَتين من الثَّلاثِ وتمسَّك بِواحدةٍ. ومنهُم تارك لإنكارِ المُنكرِ بلسانهِ وقلبهِ ويدهِ فذلِك ميِّتُ الأحياءِ»1.
ونلاحظ أنّ الإمام سمّى التّارك، في هذه الحالة الخطيرة، لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر «ميّت الأحياء» ونفهم صدى هذا الوصف إذا لاحظنا أنّ إنساناً لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أيّ استجابة، حتى أقل الإستجابات شأناً وأهونها تأثيراً، وأقلها مؤونةً وهي الإنكار بالقلب الّذي يقتضيه مقاطعة المنكر واعتزال أهله - أنّ إنساناً كهذا بمنزلة الجثة الّتي لا تستجيب لأيّ مثير، لأنّها خالية من الحياة الّتي تشعر وتستجيب.
ويقول عبد الرحمان بن أبي ليلى الفقيه، وهو ممّن قاتل مع الإمام في صفّين، أنّ الإمام كان يقول لهم حين لقوا أهل الشّام:
«أيُّها المؤمنُون. إنَّهُ من رأى عُدواناً يُعملُ بهِ، ومُنكراً يُدعى إليه فأنكرهُ بِقلبهِ فقد سلمَ وبَرئَ، ومن أنكرهُ بِلسانهِ فقد أُجِرَ، وهو أفضلُ من صاحبهِ. ومن أنكرهُ بالسَّيف لِتكُون كلِمةُ اللّه هي العُليا وكلِمةُ الظّالمين هي السُّفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهُدى وقام على الطَّريقِ، ونوَّر في قلبِه اليقينُ»2.


________________

1 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 374.
2 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: 373.

119
ونلاحظ هنا أنّ الإمام وضع للإنكار بالسّيف - وهو أقصى مراتب الإنكار باليد - شرطاً، هو أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة اللّه لا العصبيّة العائلية أو العنصريّة، ولا المصلحة الخاصة، والعاطفة الشّخصية. وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إِلا أنّ الإمام عليه السّلام صرّح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتبة على القيام بها من حيث أنّها قد تؤدّي إلى الجرح والقتل.
*
ويقدّر الإمام أنّ كثيراً من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الكبير فلا يأمرون بالمعروف تاركه ولا ينهون عن المنكر فاعله بسبب ما يتوهمون من أداء ذلك إلى الإضرار بهم: أن يعرضوا حياتهم للخطر، أو يعرضوا علاقاتهم الإجتماعية للإهتزاز والقلق، أو يعرضوا مصادر عيشهم للإنقطاع... وما إلى ذلك من شؤون.
وقد لحظ الشارع هذه المخاوف، فجعل من شروط وجوب الأمر والنهي عن المنكر عدم ترتب ضرر معتدٍّ به على الآمر والناهي.
ولكنّ كثيراً من الناس لا يريدون أن يمسّهم أيّ أذى أو كدر. وهذا موقف ذاتي وأناني شديد الغلوّ لا يمكن القبول به من إنسان يفترض فيه أنه ملتزم بقضايا مجتمعهِ كما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فهو إنسان يستبدّ به القلق لأيّ انحراف يراه، ويدفعه قلقه وأخلاقه إلى أن يتصدّى للإنحراف بالشّكل المناسب، وهو الّذي قال فيه الامام في النّص السّابق «المستكمل لخصال الخير».
لقد نبّه الإمام - في موضعين من نهج البلاغة على أنّ التّخاذل عن الأمر والنهي خشية التعرض للأذى ناشئ عن أوهام ينبغي أن يتجاوزها المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه، فلا يجعلها هاجسهُ الّذي يشلّه فيحول بينه وبين الحركة المباركة المثمرة، فقال الإمام فيما خاطب به أهل البصرة في إحدى خطبه، وقد كانوا بحاجة إلى هذا التّوجيه، لما شهدته مدينتهم، وتورّط فيه كثير منهم من فتنة الجمل:
«وإنّ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ لخُلُقان مِن خُلُق اللّه سُبحانهُ، وإنَّهُما لا يُقرِّبان مِن
120
أجلٍ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ»1.
ونوجّه النظر إلى قوله عليه السّلام أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه عزّ وجلّ، فاللّه هو الآمر بكلّ معروف، والناهي عن كلّ منكر، وإذن، فإنّ المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه الواعي للأخطار المحدقة به، يمتثل - حين يأمر وينهى - للّه تعالى ويتبع سبيله الأقوم.
وقال الإمام في موقف آخر:
«وإنَّ الأمرَ بالمعرُوف والنَّهي عنِ المُنكرِ، لا يُقرِّبان من أجلٍ ولا ينقُصان من رزقِ»2.
*
قلنا إنّ إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس المجتمع الدّائمة، وإحدى الطّاقات الفكرية الحيّة المحرّكة للمجتمع كان من شواغل الإمام الدّائمة.
وكان يحمله على ذلك عاملان:
أحدهما أنّه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب أمّته، ويعلّمها ما جهلت، ويعمّق وعيها مما علمت، ويجعل الشّريعة حيّة في ضمير الأمة وفي حياتها.
وثانيهما هو قضيته الشّخصيّة في معاناته لمشاكل مجتمعه الدّاخلية والخارجية في قضايا السّياسة والفكر.
فقد كان الإمام يواجه في مجتمعه حالة شاذة لا يمكن علاجها والتغلب عليها إِلا بأن يجعل كلّ فرد بالغ في المجتمع - والنّخبة من المجتمع بوجه خاص - من قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، في كلّ موقف تدعو الحاجة إليهما وخاصة في المواقف الخطيرة، قضية التزام شخصي واع وصارم.
لقد شكا الإمام كثيراً من النّخبة في مجتمعه، وأدان هذه النّخبة بأنّها نخبة فاسدة


________________

1 . نهج البلاغة - رقم الخطبة 156.
2 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص 374.

121
في الغالب لأنّها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها وإنّما تخلّت عن هذه القضية سعياً وراء آمال شخصية وغير أخلاقية...
أكثر من هذا: لقد اتّهم الإمام هذه النخبة مراراً بأنّها خائنة. ومن مظاهر عدم التزامها بقضية شعبها أو خيانته هو تخليها الّذي لا مبرّر له عن ممارسة واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذ يئس الإمام من التّأثير الفعّال في هذه النّخبة فقد توجّه بشكواه رأساً إلى عامة الشّعب محاولاً أن يحركه في اتجاه الإلتزام العملي بقضيته العادلة، موجهاً وعيه نحو الأخطار المستقبلية، محذراً له من تطلّعات نخبته.
نجد هذا التّوجه نحو عامة الشعب مباشرة ظاهراً في الخطبة القاصعة الّتي تضمّنت ألواناً من التّحذير، النّابض بالغضب، من السقوط في حبائل النّخبة.
وكانت قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر - فيما يبدو - والتراخي أو اللامبالاة الّتي تظهرها النّخبة نحو هذه القضية - إحدى أشدّ القضايا إلحاحاً على ذهن الإمام وأكثرها خطورة في وعيه.
وكان أسلوب التّنظير بالتاريخ إحدى الوسائل الّتي استعملها الإمام في تحذيره لشعبه وفي تعليمه الفكري لهذه الفريضة.
لقد كانت شكواه وتحذيراته المترعة بالمرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ومن نخبة هذا المجتمع بوجه خاص.
ولا بدّ أنّ هؤلاء وأولئك قد سمعوا من الإمام مراراً كثيرة مثل الشّكوى التّالية الّتي قالها في أثناء كلام له عن صفة من يتصدّى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل:
«إلى اللّه أشكُو مِن معشر يعيشُون جُهالاً ويمُوتُون ضُلالاً. ليس فيهم سِلعة أبورُ1 مِن الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوتهِ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً مِن الكِتاب إذا حُرِّف عن مواضعهِ، ولا عندهُم أنكر من المعرُوف ولا أعرفُ من المُنكرِ»2.


________________

1 . أبور - على وزن أفعل - من البور، الفاسد، بار الشيء أي فسد، وبارت السّلعة أي كسدت ولم تنفق، وهذا هو المراد هنا: أنّ العمل الحق بالقرآن كاسد لا يقبله الناس ولا يتعاملون معه.
2 . نهج البلاغة، الخطبة رقم: 17.

122
كان النّهج الّذي سار عليه الإمام في حكمه نهج الإسلام الّذي يستجيب لحاجات عامّة النّاس في الكرامة، والرّخاء، والحرّيّة.
وكان هذا النّهج يتعارض، بطبيعة الحال، مع مصلحة طبقة الأعيان وزعماء القبائل الّذِين اعتادوا على الإستماع بجملة من الإمتيازات في العهد السّابق على خلافة أمير المؤمنين علي (ع).
وقد كان لهذه الطّبقة ذات الإمتيازات أعظم الأثر في الحيلولة بشتّى الأساليب دون تسلّم الإمام للسّلطة في الفرص الّتي مرّت بعد وفاة رسول اللّه (ص)، وبعد وفاة أبي بكر، وبعد وفاة عمر، ولكنَّه بعد وفاة عثمان تسلّم السلطة على كراهية منه لها، وعلى كراهية من النّخبة له، فقد قبلت به مرغمة لأن الضغط الذي مارسته الأكثرية الساحقة من المسلمين في شتّى حواضر الإسلام شلّ قدرة النّخبة المالية وطبقة الأعيان على التأثير في سير الأحداث، فتكيّفت مع الوضع الجديد الّذي وضع الإمام علياً - بعد انتظار طويل - على رأس السّلطة الفعليّة في دولة الخلافة.
وقد كشفت الأحداث الّتي ولدت فيما بعد عن أنّ هذا التكيّف كان مرحليّاً، رجاء أن تحتال في المستقبل، بطريقة ما - لتأمين مصالحها وامتيازاتها.
وحين يئست طبقة الأعيان هذه من إمكان التّأثير على الإمام وتبدّدت أحلامهم في تغيير نهجه في الإدارة وسياسة المال وتصنيف الجماعات تغييراً ينسجم مع مصالحهم فيحفظ لها مراكزها القديمة، ويبوّئها مراكز جديدة ويمدّها بالمزيد مِن القوة والسّلطات على القبائل والموالي من سكّان المدن والأرياف... حين يئست هذه الطّبقة من كلّ هذا وانقطع أملها.. طمع كثير من أفراد هذه الطّبقة بتطلّعاته إلى الشّام ومعاوية بن أبي سفيان، فقد رأوا في نهجه وأسلوبه في التّعامل مع أمثالهم ما يتّفق مع فهمهم ومصالحهم... وتخاذل بعض أفرادها عن القيام بواجباتهم العسكرية في مواجهة النشاط العسكري المتزايد الّذي قام به الخارجون عن الشّرعية في الشّام، هذا النّشاط الّذي اتّخذ في النّهاية طابع الغارات السّريعة وحروب العصابات.
وكان تخاذلاً لا يمكن تبريره بجبنهم فشجاعتهم ليست موضع شك على الإطلاق.
ولا يمكن تبريره بقلّتهم، فقد كانت الأمّة قادرة على أن تزود حكومتها الشرعية
123
بجيوش جرّارة وجنود أقوياء مدربين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح الّتي خاضوها مدة سنوات طويلة من خيرة المقاتلين في العالم.
ولا يمكن تبريره بنقص في التّسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد كانت معامل السّلاح نشطة لتأمين إحتياطي ضخم من السّلاح لمجتمع كان لا يزال محارباً.
ولا يمكن تبريره بسوء الحالة الإقتصاديّة، فقد كان المال العام وفيراً بعد أن أصلحت الإدارة الماليّة في خلافة الإمام.
لم يكن إذن ثمة سبب للتّخاذل سوى الموقف السّياسي غير المعلن الّذي صممت النّخبة من الأعيان وزعماء القبائل على التّمسك به والتّصرّف في القضايا العامّة وفقاً له، إلى النّهاية، وذلك بهدف تفريغ حكومة الإمام علي من قوة السّلطة، وجعلها عاجزة عن الحركة بسبب عدم توفّر الوسائل الضّرورية لها، وهذا ما يؤدّي في النّهاية إلى انتصار التّمرّد على الشّرعية.
كان هذا الموقف السّياسي غير المعلن هو سبب التّخاذل.
وقد كان هذا الموقف غير معلن، بل كان قادة هذه النّخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأنّ هذه النخبة كانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وكشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمّة أن يكتشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.
وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصاً كثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوماً قاسياً مرّاً على تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسكرية في الدّفاع عن الشرعية، ولا شكّ أنّ الإمام في آخر عهده كان مضطرّاً للإكثار من هذا اللّوم والتقريع، كقوله في إحدى خطبه:
«ألا وإنّي قد دعوتُكم إلى قتالِ هؤلاءِ القوم ليلاً ونهاراً، وسِرّاً وإعلاناً، وقلتُ لكُم: اغزُوهُم قبل أن يغزوكُم، فو اللّه ما غُزي قوم قطُّ في عُقرِ دارهِم1 إلا ذلُّوا، فتواكلتُم وتخاذلتُم2،


________________

1 . عُقر دارهم: أصل دراهم، والعُقر: الأصل، ومنه: العقار للنخل، كأنّه أصل المال.
2 . تواكلتم: من وكلت الأمر إليك ووكلته إليّ، أي لم يتوله أحد منا، ولكن أحال به كلّ واحد على الآخر.
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الأدلّة على إسلام أبي طالب؟
خطبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) الأولى يوم ...
ميثم التمار
نظرية عدالة الصحابة (7)
في رحاب نهج البلاغة (لماذا نهى أمير المؤمنين عن ...
مناظرة الشيخ المفيد ( ره ) مع بعض مشايخ العباسيين ...
عائشة ما بعد حياة النبي صلى الله عليه وآله (موقف ...
الشيعة في ألبانيا
إيمان أبي طالب (رضي الله عنه) حقيقة.. تدحض الشبهات
مقامات أهل البيت عليهم السلام في سوريه

 
user comment