عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

مصارع القرون عوامل انحطاط الأمم

4 - مصارع القرون عوامل انحطاط الأمم

«مصارع القرون» تعبير استعمله الإمام في إحدى خطبه فقال «واعتَبِرُوا بِما قد رأيتُم مِن مصارِع القُرُونِ قبلَكُم»1. ويريد به الأمم الماضية أو الأجيال الماضية، فالقرن في اللغة جماعة الناس في عصر واحد2. فالإمام في هذا التعبير يوجّه الأفكار نحو التأمل في مصائر الأمم والشعوب، وكيف ولماذا تضعف وتتفسخ ويصيبها الإنحطاط والتخلف ؟.
ويتساءل الإمام في خطبة أخرى - ربّما تكون آخر خطبة، أو في أواخر كلامه في حشد عام3 - عن مصير الدّول والشّعوب القديمة، فيقول مخاطباً أصحابه:
«... وإنَّ لكُم فِي القُرُونِ السّالِفةِ لعِبرةً، أين العمالِقةُ وأبناء العمالِقةِ ؟ أين الفراعِنةُ وأبناءُ الفراعِنةِ ؟ أين أصحابُ مدائنِ الرَّسِّ الّذين قتلُوا النَّبِيِّين، وأطفأُوا سُننَ المُرسلِين4، وأحيوا


________________

1 . نهج البلاغة: رقم الخطبة 161.
2 . وردت هذه الكلمة كثيراً في الكتاب الكريم في سور مكيّة ومدنية، والمراد بها، على الظاهر، هذا المعنى. وورد له في كلام بعض أهل اللغة تفسير زماني، فقيل: القرن مدة أغلب أعمار الناس، وهو سبعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: ثلاثون سنة. وقيل: القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم، قلّ زمانه أو كثُر - وهذا التفسير الأخير يلحلظ معنى حضارياً للكلمة.
3 . قال الشّريف في نهج البلاغة: «رُوي عن نوف البكالي، قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي (ع) بالكوفة، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مِدرعة من صوف، وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وكأن جبينه ثفِنةُ بعير، فقال عليه السلام... قال: وعقد للحسين عليه السّلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرّجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه فتراجعتِ العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذّئاب من كلّ مكان».
4 . ورد ذكر هؤلاء في الكتاب الكريم مرتين: في سورة الفرقان (مكّيّة - 25) الآية 38 «وعاداً وثمُود وأصحابَ الرَّسِّ وقُروناً =

102
سُننَ الجبَّارِينَ ؟ أين الّذِينَ ساروا بِالجُيوشِ، وهزمُوا بِالالُوفِ، وعسكرُوا العساكِر، ومدَّنُوا المدائن ؟»1.
*
لقد كان الوضع الذاخلي لمجتمع الإمام أثناء حكمه العاصف يقتضيه أن يستعين بالتاريخ ليواجه ما كان يتردّى فيه هذا المجتمع - في العراق بوجه خاص - من انقسامات قبلية، ومواقف عنصرية، وتسلط لرؤساء المجموعات القبلية على قبائلهم، وافتتان كثير من النابهين في المجتمع والقياديين في المجموعات القبلية بالسخاء الّذي كانوا يتسامعون به عن معاوية بالنّسبة إلى أنصاره السياسيين... وكان يرى ببصيرته النافذة أنّ هذه الطريق تؤدي بالمجتمع إلى الكارثة: ستنهكه النّزاعات الدّاخلية، وتخلخل بنيانه وتذهب بتماسكه، وتدفع بقياداته إلى خيانة مجتمعها والإرتماء في أحضان الحكم الأموي الإستبدادي في سوريا، وتفقد العراق دوره القيادي في دولة الخلافة، فتجعله تابعاً صغيراً للشام.
وكان الإمام علي يواجه هذا الخطر بشتى الأساليب، وعلى مختلف المستويات.
ومن الأساليب الّتي استعملها على المستوى الشعبي أسلوب التنظير بالتاريخ لحال مجتمعه، عاملاً على أن يكوّن لدى الناس العاديّين وعياً تاريخيّاً، ورؤيةً للحاضر واقعيةً تدرك ما فيه من خطورة وإحساساً بمخاطر الممارسات الّتي تسود المجتمع... كلّ ذلك لأجل أن يبعث في نفوسهم وعقولهم الحذر والتبصّر حين تعرض عليهم خيارات سبّبت للأمم الماضية نكبات أضعفتها أو حطمتها.
ومن الأمور الهامة الّتي يجب التّنبيه عليها أنّ الإمام في تصويره لانحطاط الأمم ومصارع القرون لا يردّ ذلك إلى أسباب غيبية، وإنّما يعرض أسباباً موضوعية لهذا الإنحطاط كما سنرى.


________________

= بين ذلِك كثِيراً» وفي سورة ق (مكية - 50) الآية 12 «كذَّبت قبلهُم قومُ نُوحٍ وأصحابُ الرَّسِّ وثمُودُ». والرّس في اللّغة: البئر المطوية بالحجارة، والرّس اسم بئر كانت لبقية من ثمود - أو لقوم بعد ثمود - أرسل اللّه إليهم رسولاً فكذّبوه فأهلكهم اللّه. وقيل أنّ الرّسّ اسم نهر كان هؤلاء على شاطئه.
1 . نهج البلاغة: رقم الخطبة 182.

103
وأفضل الأمثلة الّتي يحتويها نهج البلاغة في موضوعنا هو الخطبة المسماة «القاصعة»1 وهو يعرض فيها الآفات الّتي تعرّض مجتمع العراق للخطر، ويذكر النظائر التاريخيّة لذلك عارضاً أسباب الإنحطاط.
*
عالج الإمام في هذه الخطبة آفة شديدة الخطورة كانت تتعاظم وتستفحل في مجتمع العراق في ذلك الحين. تلك هي آفة الصّراع الدّاخلي الّذي كان يمزق وحدة المجتمع العراقي ويشلّ فاعليته وينعكس بآثاره السّيئة وتفاعلاته المشؤومة على سائر دولة الخلافة.
وقد كان هذا الصّراع يبدو للمراقب بوجوه متنوعة:
1 - الصّراع القبلي:
فقد نشطت الرّوح القبلية والقيم القبلية، وعادت إلى الظهور فارضة منطقها في رسم خريطة العلاقات الإجتماعية والسّياسيّة داخل المجتمع، وكان ظهور الرّوح القبلية نتيجة لجملة من الأخطاء الّتي ارتكبت في عهد إدارة الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وكانت أخطاء في السّياسة، وفي الإدارة، وفي التنظيم الإقتصادي، وفي التّوجيه الثقافي العام.
ويبدو أنّ هذه الرّوح القبلية قد سبّبت تخريباً واسع النطاق داخل المجتمع العراقي، ونرجح أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يستغلّها للإمعان في تصديع وحدة مجتمع العراق.
ويبدا أنّ هذه الرّوح القبلية الّتي كان يذكّيها أصحاب المصالح الخاصة


________________

1 . قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الكلمة:
«يجوز أن تسمى هذه الخطبة «القاصعة» من قولهم: قصعت الناقة بجرّتها، وهو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها لتملأ فاها، فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مردّدة من أوّلها إلى آخرها شبهها بالناقة الّتي تقصع الجرّة. ويجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي أذهبه، وسكنه».
شرح نهج البلاغة - ج 13 / ص 128.

104
قد أفلحت إلى حدّ بعيد في تمزيق وحدة المجتمع، وإشاعة روح الشكّ والضغينة بين فئاته السّياسيّة، وداخل كلّ فئة أيضاً. يصوّر لنا ذلك نصّ في إحدى خطب الإمام يحذّر ويؤنّب فيه مجتمعه، قال:
«قدِ اصطلحتُم على الغِلِّ فيما بينكُم1 ونبت المرعى على دِفِنكُم2. وتصافيتُم على حُبِّ الآمالِ. وتعاديتُم فِي كسبِ الأموالِ. لقد استهام بِكُمُ الخبث3، وتاه بِكُمُ الغُرورُ4، واللهُ المُستعانُ على نفسِي وأنفُسِكُم»5.
وقد روى ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة ما يصور التخريب والتمزيق اللّذين كانت تحدثهما هذه الرّوح القبلية، قال:
«وقيل أنّ أصل هذه العصبية وهذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين، وكانوا قبائل في الكوفة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى، فينادي باسم قبيلته: يا للنّخع! مثلاً، أو يالكندة نداء عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشّر، فيتألّب عليه فتيان القبيلة الّتي مرّ عليها، فينادون: يالتميم! ويالربيعة! ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها، فتسلّ السّيوف وتثور الفتن، ولا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض»6.
وما لا يرى ابن أبي الحديد له أصلاً نرى له أصلاً في دسائس معاوية أو عملائه الّذين نقدّر أنَّهم يشجّعون أمثال هذه الممارسات القبليّة، ويمدّونها بمزيد من أسباب


________________

1 . الغل: الحقد، اتفقتم على تمكين الحقد في نفوسكم.
2 . الدّفن: جمع دفنة، ما يتجمد ويتلبد من الضابط وردت الماشية، ينبت عليه العشب ونبتت المرعى عليه: استر بظواهر النفاق الإجتماعي فيبدو ظاهره سليماً أخضر وواقعه بشع منفر. شهروا أحقادهم الّتي يسترونها بالنفاق فيما بينهم بهذه القذارة الّتي يسترها العشب فتبدو جملة تخدع بظاهرها وهي في الواقع قذرة نجسة.
3 . استهام بكم: تعلق بكم الشيطان فأغواكم.
4 . الغرور: ما يسبّب الإنخداع.
5 . نهج البلاغة - رقم الخطبة - 133.
6 . ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 13 ص 167 - 168.

105
الإثارة والهياج ليزيدوا مجتمع العراق إنهاكاً وتمزّقاً. وكذلك نرى لها أصلاً في سياسات رؤساء القبائل الّذين كان نهج عليّ السّياسيّ يهدّد سلطانهم ونفوذهم، فكانوا يشجّعون العامّة والبسطاء على أمثال هذه الممارسات ليثبّتوا سلطانهم على قبائلهم.
2 - الصّراع العنصري:
لقد كان مجتمع العراق، كغيره من بلاد الإسلام في ذلك الحين، يضمّ مجموعات كبرى من المسلمين غير العرب الّذين أدّى التّوسّع في الفتوح خارج شبه الجزيرة العربية إلى احتلال بلادهم في إيران ومستعمرات الإمبراطوريّة البيزنطيّة (مصر وسوريا، وغيرهما)، ومن ثم أدّى إلى دخول كثير منهم في الإسلام.
وقد كان هؤلاء - من الناحية النظرية - يتمتعون بحقوق مساوية لحقوق المسلمين العرب كما يتحملون واجبات مساوية. لقد ضمن لهم الإسلام مركزاً حقوقياً مساوياً تماماً للمسلمين العرب، ولكنهم كانوا من الناحية الواقعية يعانون من التمييز العنصري بسبب انطلاق الرّوح القبلية والعصبية العربية.
وقد ألغى الإمام علي فور تسلّمه السلطة جميع مظاهر التّمييز العنصري والعصبية العنصرية الّتي كان يعاني منها، بشكل أو بآخر، المسلمون غير العرب.
وقد أثار ذلك ردود فعل سلبيّة عند زعماء القبائل، فاحتجوا على التسوية في العطاء بينهم وبين الموالي (المسلمين غير العرب)، واندفعوا ينصحون الإمام عليّاً قائلين:
«يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من النّاس»1.
وكان هؤلاء ينظرون في نصيحتهم هذه وينطلقون في نظريتهم السّياسيّة هذه من التجربة الّتي كان يقوم بها معاوية بن أبي سفيان.


________________

1 . ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة.

106
ولكنّ الإمام علياً كان ينطلق في ممارسته السّياسيّة من قاعدة أخرى، فأجابهم قائلاً:
«أتأمُرُونِّي أن أطلُب النَّصر بِالجورِ فِيمن وليتُ عليهِ ؟!! واللهِ لا أطُورُ1 بهِ ما سمر سمِير2، وما أمَّ نجم فِي السَّماء نجماً»3.
*
وتشتمل الخطبة القاصعة على عدّة شواهد تدلّ على أنّ ما كان يثير في نفس الإمام قلقاً عميقاً ليس الصّراع القبلي المستفحل وحده، بل الصّراع العنصري أيضاً.
هذا الصراع بوجهيه - القبليّ والعنصريّ - كان، بالإضافة إلى أنّه آفة في ذاته، يؤدّي إلى توليد آفات أخرى:
1 - يعمّق ويرسّخ الواقع الإجتماعي القبلي والتكوين الإجتماعي القبلي للمجتمع في الثقافة العامّة، والبنية النّفسية للفرد، وبذلك يحول دون تطوّر التركيب الإجتماعي من طور القبلية الّتي تقسم المجتمع إلى وحدات تقوم على علاقة الدّم إلى طور التّوحد على أساس العقيدة والشّريعة والمؤسسات والمصالح المشتركة، وهو يؤدّي بالتّالي إلى أن يكون معوّقاً حضارياً أيضاً يجمّد المجتمع في حالة التخلف على صعيد المؤسسات والإنجازات التنظيمية.
2 - يزيد ويعزّز سلطة رؤساء القبائل على قواعدهم القبلية، فيؤثر ذلك على فاعلية أجهزة السّلطة المركزية ويضعفها.
3 - يؤثر على تلاحم المجتمع - وهو في حالة حرب مع القوى الخارجة على الشّرعية في الشام، ومع الخوارج.


________________

1 . أطور به: من طار يطور، بمعنى: حام حول الشّيء، وقاربه، يعني: لا أقارب الجور فيمن ولّيت عليه.
2 . ما سمر سمير: يعني مدى الدّهر.
3 . نهج البلاغة - رقم النص 126. ما أمّ نجم فِي السماء.. يعني مدى الدّهر. في هذا الموضوع راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) الطبعة الثانية، فصل (المجتمعات والطبقات الإجتماعيّة) وكتابنا (ثورة الحسين)، الطبعة الخامسة - ص 101 - 172.

107
4 - يعزّز إمكانات تسلل معاوية بن أبي سفيان إلى داخل التكوينات السياسية في مجتمع العراق، وهي القبائل.
*
وننتقل الآن إلى عرض الشّواهد من الخطبة القاصعة1.
بيّن الإمام أوّلاً أنّ الكبرياء من صفات اللّه تعالى. ومن ثمّ فليس للناس أن يتكبّر بعضهم على بعض.
ثم عرض، ثانياً، لكبرياء أبليس، وتعصّبه ضدّ آدم مفتخراً بأصله، وذكّر بأن كبرياء إبليس كانت كارثة عليه إذ قضت على منزلته العالية.
ثم قرن الإمام بين كبرياء إبليس وكبرياء البشر على بعضهم، واعتبر المتكبرين أتباعاً لإبليس في هذا الخُلق الذميم:
«صدَّقهُ بهِ أبناء الحمِيَّةِ2، وإخوانُ العصبيّةِ، وفرُسانُ الكِبرِ والجاهِليَّةِ، حتَّى إذا انقادت لهُ الجامِحَةُ مِنكُم3، واستحكمتِ الطَّماعِيّةُ مِنهُ فيكُم - فنجمتِ4 الحالُ مِن السِّرِّ الخفِيِّ إلى الأمر الجلِيِّ - استفحل سُلطانُهُ عليكُم5. فأصبحتُم أعظم في دينِكُم حرجاً، وأوروى فِي دُنياكُم قدحاً7 مِن الّذين أصبحتُم لهُم مُناصِبينَ وعليهِم مُتألِّبينَ».
وهكذا بيّن لهم الإمام أن الشرّ والفساد النّاشئين عن العصبيّة، والصّراع النّاتج منها لا يقتصر تأثيرها على الجانب الديني والإيماني فقط، وإنّما يتعدى ذلك إلى التّأثير


________________

1 . نهج البلاغة - رقم الخطبة: 192.
2 . الحميّة: الأنفة والغضب.
3 . الجامحة: من جموح الفرس - أراد أنّ الفئة الّتي لم تطع إبليس وجمحت عنه عادت فأطاعته واتّبعت سبيله في الكبرياء. أو أنّ الفئة الّتي جمحت عن الشرع انقادت إلى إبليس.
4 . نجم: ظهر. أي أنّ العصبية بعدما كانت خفية في النّفوس ظهرت في ممارسات علنية.
5 . استفحل: قوي واشتدّ وصار فحلاً.
6 . الحرج: لغة في الحرج - بفتح الرّاء - وهو الإثم . يريد: إنّكم بطاعتكم لإبليس أصبحتم أعظم إثماً في دينكم. ورواية النّسخة المتداولة من النهج (فأصبح)، ولا يستقيم المعنى عليها، ورواية ابن أبي الحديد في شرحه (فأصبحتم) وقد اعتمدناها لأنّها أوفق بالمعنى.
7 . أورى: اشد قدحاً وتوليداً للنار. كناية عن تخريب دنياهم بالفتن والقلاقل.

108
على الوضع الحياتي الدّنيوي، لهذه العصبيّة (أورى في دُنياكم قدحاً) من هؤلاء الّذين تخافون منهم على امتيازاتكم المادّيّة فتتعصبون ضدّهم.
ثم أثار الإمام في أذهانهم ذكرى تاريخية يعرفونها من القرآن، هي قصة ابني آدم:
«ولا تكُونُوا كالمُتكبِّرِ على ابنِ أمِّهِ من غيرِ ما فضلٍ جعلهُ اللهُ فيه سِوى ما ألحقتِ العظمةُ بِنفسِهِ مِن عداوةِ الحسدِ، وقدحتِ الحميّةُ في قلبه من نارِ الغضب، ونفخ الشيطانُ في أنفِهِ من ريحِ الكِبرِ الّذي أعقبهُ اللهُ بهِ النَّدامةَ، وألزمهُ آثام القاتِلين إلى يومِ القيامةِ».
ثم يعود الإمام إلى تأنيب سامعيه على ما هم عليه من روح قبلية، وتعصب عنصري ذميم، مبيناً لهم أنّ هذه الآفة الخطيرة الوبيلة قد ابتليت بها الأمم الماضية وذاقت مرارتها:
«ألا وقد أمعنتُم في البغي1، وأفسدتُم في الأرضِ، مُصارحةً للّه بالمُناصبةِ2، ومُبارزةً للِمؤمنينَ بِالمُحاربةِ (يقصد بالمؤمنين أولئك الّذين توجّه ضدهم العصبيّة) فاللّه اللّه في كِبرِ الحمِيَّةِ، وفخر الجاهليَّةِ، فإنَّه ملاقِحُ الشَّنآنِ3 ومنافخُ الشيطانِ، الّتي خدعَ بِها الأُمم الماضِية والقُرُون الخالِية4. أمراً تشابهتِ القُلُوبُ فيه، وتتابعتِ القُرونُ عليهِ، وكِبراً تضايقتِ الصُّدُورُ بهِ».
ثم يوجّه الأنظار بصورة مباشرة إلى القيادات الّتي تغذّي هذه الآفة، وتؤجّج نارها وهم زعماء القبائل:
«ألا فالحذر الحذر مِن طاعةِ ساداتِكُم، الّذين تكبَّرُوا عن حسبِهِم وترفَّعُوا فوق نسبِهِم... فإنَّهُم قواعِدُ أساسِ العصبِيَّةِ، ودعائمُ أركانِ الفِتنةِ، وسُيُوف اعتِزاءِ5 الجاهِلية. فاتقُوا اللّه


________________

1 . أمعنتم في البغي: بالغتم فيه، من أمعن في الأرض، أي ذهب فيها بعيداً.
2 . مصارحة للّه..: أي مكاشفة يعني الإعلان بالمعاصي، وعدم التستر في شأن العصبيّة والتكبر الجاهلي.
3 . ملاقح جمع ملقح، وهو المصدر من لقحت: والشّنآن: البغض يريد أنّ الكبر والفخر الجاهلي مكان البغضاء والحقد ومثارهما.
4 . منافخ الشيطان: جمع منفخ، مصدر من نفخ: يعني أن الكبر والفخر هما المكان الّذي ينفخ فيه الشّيطان من نفس الإنسان فيدفعها إلى الشّر والجريمة.
5 . اعتزاء الجاهلية: الإعتزاء هو الإنتساب، أي أنّهم يفتخرون بأنسابهم وآبائهم، كقولهم: يا لفلان، أو: يا لآل فلان.

109
ولا تكُونُوا لِنِعمِهِ عليكُم أضداداً، ولا لفضلِهِ عِندكُم حُسَّاداً، ولا تُطيعُوا الأدعياء الَّذِينَ شربتُم بصفوكُم كدرهُم1، وخلطتُم بصحَّتكُم مرضهُم، وأدخلتُم في حقِّكُم باطِلهُم، وهُم أساسُ الفُسُوقِ وأحلاسُ العُقُوقِ...»2.
ثم يعود الإمام إلى التنظير بالتاريخ، مذكّراً بالنهايات الفاجعة للأُمم والشعوب الّتي فتكت بها آفة التّعصب والتّناحر، مقابلاً ذلك بالنهج النبوي الإنساني البعيد عن الكبر:
«فاعتبِرُوا بِما أصابَ الأُمم المُستكبِرين مِن قبِلكُم مِن بأسِ اللّهِ وصولاتِهِ، ووقائعِهِ ومثُلاتِهِ واتّعِظُوا بِمثاوي خُدُودهِمِ ومصارع جُنُبوبِهِم... فلو رخَّص اللّه في الكِبر لأحدٍ مِن عِبادِهِ لرخّص فيه لِخاصَّةِ أنبيائهِ... ولقد دخل مُوسى بنُ عِمران ومعهُ أخُوهُ هارُون - عليهِما السّلام - على فِرعون وعليهِما مدارعُ الصُّوفِ5، وبِأيديهِما العِصِيُّ، فشرطا لهُ - إن أسلم - بقاءَ مُلكِهِ، ودوام عِزّهِ، فقالَ: (ألا تعجبُون مِن هذينِ يشرِطانِ لي دوامَ العِزِّ وبقاء المُلكِ، وهُما بِما ترونَ مِن حالِ الفقرِ والذُّلِ)».
ويستمرّ الإمام في التّنظير التّاريخيّ، داعياً مستمعيه إلى فحص المواقف التاريخيّة الّتي مرّت على الأمم السّابقة، وتجنّب الإختيارات والتّجارب الّتي أدّت إلى الإنحطاط والإنهيار، واختيار المسلكيّة الّتي ثبت بالتّجربة صلاحها:
«... واحذرُوا ما نزلَ بِالاُممِ قبلكُم مِن المثُلاتِ بِسُوءِ الأفعالِ وذميمِ الأعمال. فتذكّرُوا في الخير والشَّرِّ أحوالهُم، واحذرُوا أن تُكُونُوا أمثالهُم. فإذا تفكَّرتُم في تفاوُتِ حاليِهم، فالزمُوا كُلَّ أمرٍ لزِمتِ العِزَّةُ بهِ شأنهُم، وزاحتِ الأعداءُ لهُ عنهُم6. ومُدَّتِ العافيةُ بهِ عليهِم،


________________

1 . المراد من هذه الجملة وما بعدها أنّ هؤلاء الزعماء يفسدون بنزعاتهم الشرّيرة حياتكم وإيمانكم وطهارة نفوسكم.
2 . الأحلاس: جمع حلس. وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له، فقيل لكلّ ملازم أمر: هو حلس ذلك الأمر. فهؤلاء المغدون من رؤساء القبائل ملازمون للعقوق والتنكر لنعم اللّه ولأحكام الشرع وقواعد الأخلاق.
3 . المثلات والوقائع: يقصد بهما عقوبات اللّه الّتي استحقوها نتيجة لإنحرافاتهم.
4 . المثوى: المنزل. مواضع حدودهم بعد الموت على التراب، ومصارع جنوبهم: مواقعها بعد الموت على التّراب.
5 . مدارع الصّوف: جمع مدرعة - بكسر الميم - وهي كالكساء.
6 . زاحت: بعدت. وله: لأجله، يعني: الزموا كل أمر خافتهم الأعداء بسببه.

110
وانقادتِ النعمةُ لهُ معهُم، ووصلَتِ الكرامةُ عليهِ حبلهُم، مِن الإجتنابِ لِلفُرقةِ، واللُّزُوم للأُلفةِ، والتَّحاضِّ عليها1، والتَّواصي بِها.
«واجتنبُوا كُلَّ أمرٍ كسر فِقرتهُم2، وأوهنَ مِنّتهُم3 مِن تضاغُن القُلوبِ4، وتشاحُن الصُّدورِ، وتدابُرِ النُّفُوسِ وتخاذُلِ الأيدي...»5.
ويستمر الإمام في تنظيره التاريخي بتقديم أمثلة محددة من حياة الإسرائيليين والعرب، بعدما كان في تنظيره السّابق يذكر الأمم بشكل عام، دون أن يخصّ بالذّكر أمة بعينها:
«... وتدبَّرُوا أحوال الماضِين مِن المُؤمِنينَ قبلكُم: كيف كانُوا في حالِ التّمحِيص6 والبلاءِ. ألم يكُونُوا أثقلَ الخلائقِ أعباءً، وأجهد العِبادِ بلاءً7 وأضيق أهلِ الدُّنيا حالاً. اتخذتهُم الفراعِنةُ عبيداً فسامُوهُم سُوء العذابِ، وجرَّعُوهُمُ المُرار8، فلم تبرحِ الحالُ بِهم في ذُلِّ الهلكةِ وقهرِ الغلبةِ... حتَّى إذا رأى اللّه سُبحانهُ جدّ الصَّبر منهُم على الأذى في محبَّتهِ9، والإحتمالَ للمكرُوه من خوفِهِ، جعلَ لهُم في مضايقِ البلاءِ فرجاً، فأبدَلهُمُ العِزَّ مكان الذُّلِّ، والأمنَ مكان الخوف، فصاروا مُلوكاً حُكّاماً، وأئمَّةً أعلاماً... فانظُرُوا كيفَ كانُوا حيثُ كانتِ الأَمْلاءُ مجتمِعةً10، والأهواء مُؤتلِفةً، والقُلُوبُ مُعتدِلةً، والأيدى مُترادفِةً11، والسُّيوفُ مُتناحِرةً، والبصائرُ نافِذةً12، والعزائمُ واحِدةً، ألم يكُونُوا أرباباً في أقطارِ الأرضين،


________________

1 . التحاض، صيغة تفاعل من الحض بمعنى الحث والترغيب، يعني أن يحث بعضكم بعضاً على الإتحاد والتعاون.
2 . الفقرة: واحدة فقر الظهر. ويقال لمن اصابته مصيبة شديدة: قد كسرت فِقرته. يعني اجتنبوا كلّ ما أضعف الأمم السّابقة وسبب لها الإنحطاط.
3 . المنة: القوة، ومعنى الجملة كسابقتها.
4 . تضاغن القلوب وتشاحن الصّدور بمعنى واحد: تبادل البغضاء بين فئات المجتمع.
5 . تخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضاً ولا يتعاونون في حالات الخطر.
6 . التّمحيص: التّطهير والتّصفية.
7 . أجهد العباد: أكثرهم تعباً.
8 . المرار: شجر مر في الأصل، كناية عمّا أصابهم من العذاب والهوان على أيدي الفراعنة.
9 . رأى اللّه منهم جد الصّبر، أي أشد الصّبر.
10 . الأملاء: الجماعات، الواحد: ملأ، يريد اتحاد الفئات الإجتماعية وتعاونها.
11 . مترادفة: متعاونة.
12 . البصائر نافذة: الإرادة عازمة جازمة غير متردّدة للعلم بحقيقة الموقف أو الشّيء.

111
ومُلُوكاً على رِقابِ العالَمِينَ.
«فانظُرُوا إلى ما صارُوا إليه في آخرِ أمُورِهم، حين وقعتِ الفُرقَةُ وتشتَّتتِ الألفةُ، واختلفتِ الكلِمةُ والأفئدَةُ، وتشعَّبُوا مُختلِفين، وتفرَّقُوا مُتحارِبين، قد خلع اللّه عنهُم لِباس كرامتِهِ. وسلبهُم غضارَة نِعمتِهِ1، وبقي قصصُ أخبارِهِم فِيكُم عِبراً لِلمعُتبرين مِنكُم.
«فاعتبِروا بحالِ ولدِ إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهِمُ السلامُ، فما أشدَّ اعتِدالَ الأحوالِ2 وأقربَ اشتِباه الأمثالِ.
«تأمَّلُوا أمرهُم فِي حالِ تشتُّتهِم وتفرُّقهم ليالِي كانت الأكاسرةُ والقياصِرةُ أرباباً لهُم. يختارُونهم عن ريفِ الآفاق3، وبحرِ العِراقِ4 وخُضرةِ الدُّنيا، إلى منابتِ الشِّيح ومهافِي الرِّيح5، ونَكد المَعاشِ6 فتركُوهُم عالةً مساكِينَ، إخوانَ دبرٍ ووبرِ7، أذلَّ الاممِ داراً، وأجدبهُم قراراً، لا يأووُن إلى جناحِ دعوةٍ يعتصِمُون بها، ولا إلى ظِلِّ ألفةٍ يعتمدُون على عِزِّها، فالأحوالُ مُضطرِبة، والأيدي مُختلفة، والكثرةُ متفرقة، في بلاءِ أزلٍ8 وأطباقِ جهلٍ9، من بناتٍ موؤودةٍ، وأصنام معبُودةٍ، وأرحامٍ مقطُوعة، وغاراتٍ مشنُونةٍ.
«فانظُروا إلى مواقِعِ نعمِ اللهِ عليهِم حينَ بعثَ إليهِم رسُولاً، فعقدَ بمِلِّتهِ طاعتهُم، وجمع على دعوتهِ أُلفتهُم كيف نشرتِ النِّعمةُ عليهم جناحَ كرامتِها، وأسالت لهُم جداول نعيمها. والتفَّتِ المِلَّةُ بهم في عوائد بركتِها، فأصبحُوا في نعمتها غرقين10 وفي خُضرةِ عيشِها فكهين11 قد تربَّعتِ الأمُورُ بهم12 في ظلِّ سُلطانٍ قاهرٍ وآوتهُمُ الحالُ إلى كنفِ عزٍّ غالبٍ13


________________

1 . الغضارة: النّعمة اللّينة الطّيّبة.
2 . ما أشدّ اعتدال الأحوال: ما أشبه الأشياء بعضها ببعض.
3. الرّيف: الأرض ذات الخصب والزرع، والجمع أرياف.
4 . بحر العراق: دجلة والفرات. قال ابن أبي الحديد: 13 / 173 «أمّا الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأمّا القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشّام وما فيه من المرعى والمنتجع».
5 . يقصد البادية الخالية مِن الزّرع والمياه والعمران.
6 . نكد المعاش: قلّته، وصعوبة الحصول عليه، وخشونته.
7 . عالة: فقراء (دبر ووبر) دبر البعير عقرة القتب. والوبر للبعير بمنزلة الصّوف للضأن. يريد أنّهم كانوا عالة فقراء يمثل البعير ثروتهم، ومرضه شغلهم الشاغل.
8 . الأزل: الضّيق والشّدّة، يريد بلاء شديداً شغلهم عن كلّ شيء.
9 . أطباق، جمع طبق. أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.
10 - غرقين: من الغرق، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
11 . فكهين: بمعنى ناعمين.
12 . تربّعت الأمور بهم، أي أقامت، من: ربع بالمكان أي أقام فيه، يعني استقرار أحوالهم السّياسيّة والمعيشيّة.
13 . آوتهم الحال: ضمتهم وأنزلتهم، والكنف: الجانب.

112
وتعطَّفتِ الأمُورُ عليهم في ذُرى ملكٍ ثابتٍ1 فهُم حُكّام على العالمين، ومُلُوك في أطرافِ الأرضين. يملِكُون الأمُور على من كان يملِكُها عليهم، ويُمضُون الأحكام فيمن كان يُمضِيها فيهم، لا تُغمزُ لهم قناة، ولا تُقرعُ لهم صفاة2...
«وإنَّ عندكُمُ الأمثالُ من بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيَّامهِ ووقائعهِ3، فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بِأخذهِ وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسِهِ فإنَّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم إلا لتركِهم الأمرَ بالمعرُوف والنّهي عن المُنكرِ، فلعن اللّه السُّفهاء لرُكُوب المعاصي، والحُلماءَ لتركِ التناهي»4.


________________

1 . تعطّفت.. كناية عن السّعادة والإقبال، يقال: تعطّف الدّهر على فلان، أي أقبل حظّه وسعادته، والذّرى الأعالي، جمع ذروة، كناية عن عزّهم وقوّتهم وامتناعهم.
2 . لا تغمز.. لا تقرع.. مثل يضرب لمن لا يجترأ عليه لعزته وقوته.
3 . الأمثال هي ما ورد في القرآن بما قصّه اللّه تعالى من أحوال الأمم القديمة وكيف نزلت بها الكوارث نتيجة لممارساتها المنحرفة.
4 . التّناهي مصدر تناهى القوم عن كذا، أي نهى بعضهم بعضاً. يقول: لعن اللّه الماضين من قبلكم لأنّ سفهاءهم ارتكبوا المعصية. وحلماءهم لم ينهوهم عنها وهذا من قوله تعالى في شأن بني إسرائيل (كانُوا لا يتناهَونَ عن مُنكرٍ فعلُوهُ لبِئسَ ما كانُوا يفعلونَ) سورء المائدة / 79.
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الموالي و اعدادهم من قبل الائمة ـ عليهم السلام .
المقال الذي سبب أزمة فى مصر
مناظرة الشيخ المفيد مع أبي القاسم الداركي في حكم ...
الليلة الوحيدة في التأريخ
الحكومة البويهية والتشيع .
تاريخٌ يلازم الناشئة العراقية
ما المقصود بليلة الهرير؟
عید الاضحی المبارك
المحاولات اليهودية لعرقلة انتشار الإسلام
في رحاب نهج البلاغة (الإمام علي عليه السلام ...

 
user comment