عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

مظاهر قدرة الله في الطبيعة

مظاهر قدرة الله في الطبيعة

إن عالم المادة والطبيعة كوحدة مصنوعة هي أحسن وأتمّ وأعمّ برهان لمعرفة الخالق ، وإن في هذه التحولات المادية ، ما يكشف عن الإرادة الحكمية لذلك الناموس الأزلي ، وما يثبت أن شعاع وجوده الخالد هو الذي يمدّ الموجودات بالحياة ، وأن جميع الكائنات إنما تتلقى وجودها وتقدمها وتطورها وتكاملها منه سبحانه .

بإمكاننا أن نسلك لمعرفة الخالق سبيلين أساسيين : أحدهما طريق الدلائل العقلية ، والآخر طريق البراهين الفلسفية ، بهذين السبيلين نستطيع من التوصل إلى تلك الحقيقة المطلقة ، وأن نكمل معرفتنا ونثبت عقيدتنا بها ، لكن طرق الاستدلال معقدة إلى حدّ ما ، وإنما تلذّ للعلماء فقط ، بينما المطالعة في أسرار كتاب الخلقة والموجودات المختلفة ، الكتاب الذي تشهد جميع صفحاته بضرورة مدخلية العقل العالي في خلقته ، مطالعة هذا الكتاب وإن كانت أيضاً برهانية للإيمان بالخالق الحكيم الذي ليس مجموع نظام الكائنات بكل عظمته وسعته إلاّ جزءاً ضئيلاً من مظاهر قدرته ، إلاّ أنها برهان ساذج وبسيط ليس فيه ثقل وتعقيد البراهين الفلسفية ، وهو من ناحية أخرى طريق مفتوح لعامة الناس ، فبإمكان جميع الناس من المفكرين والعلماء والعوام البسطاء أن يفيدوا منه .

بإمكان كل أحد أن يرى ـ حسب رؤيته واستعداده ـ في مظاهر الخلقة آثار التركيب والتوازن والتدبير ، وأن يجد في كل ذرة دليلاً قوياً ثاباً على وجود مبدأ للحياة .

فلو طالع العامل العادي في بدن حيوان لأدرك ـ من النظر إلى أعضاء وخصائص الهيكل العظمي المنظم له وجماله الظاهر ـ أن من المحال أن تتحقق هذه المحاسبات والتقادير والأنظمة الدقيقة بدون مدخلية قدرة كبيرة عالمة ، وأما العالم الفيزيولوجي فإنه يرى آثار العلم والقدرة اللانهائية لتلك الحقيقة المطلقة من طريق إمعان النظر في كيفية أعمال القلب والرئتين والكبد والمعدة ، ووصول الغذاء إلى خلايا جسم ذلك الحيوان .

ومع أن ما يدركه العالم الفيزيولوجي من النظام المعقد ، في بدن الحيوان ، لا يناسب القياس مع ما يتوصل إليه الشخص العادي من مطالعته السطحية الساذجة والبسيطة ، إذ أن الإنسان بعد تسخيره لقمم العلوم وافتتاحه لمغاليق أسرار الطبيعة قد تقدم في معرفة الأنظمة المحيرة خطوات كبرى ، إلاّ أن لكلا هذين نتيجة واحدة من مطالعتهما المختلفة في نوعيتها .

إن العلوم التجريبية لمطالعة الأسرار اللامنتهية لعالم الطبيعة بالإضافة إلى إمكان استفادة كل أحد منها لها ميزة أخرى هي : أن معرفة عجائب الخلقة والنظام الخاص السائد في الطبيعة ، تصل بالإنسان إلى معرفة خالق الطبيعة بالإضافة إلى شطر من صفاته الكمالية ، كالعلم والقدرة اللانهائية له سبحانه .

إن هذا النظام الدقيق الذي هو عبارة عن تقرير العلاقة المناسبة والمعقولة بين أمور مختلفة ، يحكي لنا عن حكمته الواسعة وهدفه في ذلك في الحياة ، في الحيوانات في النباتات ، في الأرضين ، في السماوات والكرات ، في الصخور والبحور والذرات ، علوم وقدرات وبدائع مصنوعات مودعات في صغراهنّ وكبراهنّ على السواء .

إن فرضية أن يكون العالم الماديّ في حالة تكوين نفسي أي أن يكون في حالة مستمرة من صناعة نفسه بنفسه ، إن هذه الفرضية مستحيلة علمياً ، وإن النظرية الماركسية التي تقول : إن العالم المادي في تحول وتطور وتقدم دائم ، إن هذه النظرة تخالف المعطيات العلمية والواقعيات الطبيعية ، إن جميع التحولات والحركات في الجمادات إنما يكون بسبب قوة خارجة أو تبادل داخلي بين أجسام مختلفة ، في عالم النباتات إنما يتحقق النموّ والتوسع والتكاثر بالأمطار وأشعة الشمس والتغذية من التربة ، وكذلك الوضع في عالم الحيوانات بالإضافة إلى حركات إرادية ضرورية ومفيدة .

إن انسجام الأشياء والموجودات مع الجو الخارجي لها في هذه الموارد المذكورة واضح بيّن ، وليس لأيّ موجود أن يعصي على القوانين والمعادلات الرياضية المفروضة عليه حسب الخواص المودعة فيه الآثار المترتبة عليه .

ولما يدركه الإنسان من الواقعيات عن طريق حواسه خصائص مختلفة :

فنحن نحسّ جيداً ـ من هذه الخصائص ـ أن موجودات العالم متغيرة متحولة غير ثابتة ، وأيّ موجود ماديّ إما أن يكون في طول عهد وجوده سائراً نحو التكامل أو إلى الانحطاط ، ولا شيء في عالم الوجود ثابت على حالة واحدة .

ومن خصائص الموجود المحسوس : المحدودية ، إن الموجود المحسوس من أصغر الذرات إلى أكبر المجرات بحاجة إلى الزمان والمكان ، إلاّ أن بعضها يشغل مكاناً أكبر أو زماناً أطول ، وبعضها زماناً أقصر ومكاناً أقل .

ومن خصائص الموجود المحسوس : النسبية في أصل الوجود والكمالات ، وإن ما تنسبه إليه من الصفات كالقدرة والعظمة والجمال والعلم فإنما هي من باب المقارنة والمقايسة بسائر الأشياء .

ومن خصائص الموجود المحسوس أيضاً : التعلق والاشتراط فأيّ موجود نفترضه نجده متعلقاً ومشروطاً بأمور أخرى ، ولهذا فهو محتاج إلى تلك الشروط التي تتعلق به ، ولا تجد شيئاً مادياً في هذا العالم يستند إلى نفسه ويستغني عـن غيره ، فالفقر والحاجة محيط بجميع الموجودات المادية .

إن العقل والفكر الإنساني الذي يعبر حجاب الظواهر وينفذ إلى أعماق بطون الوجود ـ على خلاف الحواس ـ لا يستطيع قبول حصر الوجود في أمور نسبية محدودة متغيرة محتاجة ، بل إن قوة الفكر الإنساني تحسّ جيداً ، ـ إن صحّ التعبير ـ بضرورة وجود حقيقة دائمة مطلقة غنية خلف ظواهر الوجود تكون مستنداً لجميع الوجودات المحدودة ، حقيقة حاضرة في جميع الأزمنة والأمكنة ، وإلاّ فإن العالم بأجمعه لا يستطيع أن يقف على قدميه بنفسه ، بل حتى على اشتمال صفة الوجود .

فالعالم بحاجة إلى حقيقة مستقلة ، غير مقيدة ، وغير معلقة ، وغير مشروطة بغيرها ، هي تمسك بزمام الوجود في جميع الأمور المحدودة والمشروطة والنسبية ، وإن كل شيء يحتاج إلى أن تملأ هذه الحقيقة المطلقة كيانه بالوجود والحياة ، وفي كل موجود ظاهرة من الحياة والعلم والقدرة والحكمة المطلقة لتلك الحقيقة ، وبهذه الظواهر وفي حدودها نستطيع الحصول على معلومات قيمة عن تلك الحقيقة ، ولكل إنسان ذكيّ مستطلع أن يجد الدليل من هذا الطريق على وجود الخالق .

المادة وقوانين الوجود

إن التلازم المتقابل بين المادة وقوانين الوجود ، لا يمكن أن يكون دليلاً على غنى المادة ، بل إن تنوع المنشآت من المادة ، وارتباطها الشديد بعضها ببعض يثبت أن المادة في وجودها ، لابدّ لها من تبعية سنن وقوانين تسلك بها سبيل النظم والانسجام ، فإن الوجود يستند إلى عنصرين أساسيين هما : المادة والنظام ، ولابدّ بينهما من الارتباط الوثيق ، وإن العلم المنسجم والمتوازن إنما هو وليد هذه العلاقة الوثيقة بين المادة والنظام .

إن الذين يرون أن المادة غنية ، ويظنون أنها هي التي وجدت لنفسها هذا النظام والغنى كيف يقبلون أن تكون ذرات الهيدروجين والأوكسجين والالكترون ، والبروتون ، وجدت نفسها بنفسها ثم أصبحت منبعاً لوجود الموجودات الأخرى ، ثم صدّرت لنفسها القوانين التي تحكمها وجميع العالم الماديّ ؟ .

إن المادية ترى أن الموجودات البسيطة الدانية تصبح منابع للوجودات العالية المعقدة ، دون أن تتوجه إلى أن المادة التي تعجز في أوج كمالها أي
في حالة التفـكير العلمي ، عن إيجاد نفسها أو العصيان على قانون من
القوانين الحاكمة عليه ، فهي قطعاً أعجز عن إيجاد نفسها أو النظام الوجودي حال كونها بسيطة دنيئة ، فكيف يمكن القول بأن المادة الدنيئة تخلق

الموجودات العالية ، وأن يكون لها القدرة على إعطاء الحياة لظواهر أكمل ؟ .

وقد تحقق في علم الأنظمة الجديد : أن الأنظمة المركبة من عناصر حية ذات هدف ، أو الأجهزة المنظمة على أساس برنامج معين ، يمكن أن يكون لها تحوّل متكامل ، إلاّ أنه لابدّ لها من إمداد خارجي ولا قدرة لها على تطوير نفسها بنفسها ، وأن مواد العالم ما لم تتصف هي بالإرادة والقدرة والشعور ، فلا قدرة لها على إيجاد وإدارة جهاز منظّم متحرّك متطوّر .

إن قانون حساب الاحتمالات و ( الانتروبي ) يقرر : أن الحركة الجماعية غير المنطقة ، لا يمكن أن تزيد إلاّ تفرقاً وتشتتاً وتقدّماً نحو الهلاك والدمار .

إن قانون الاحتمالات يردّ وجود العالم بالصدفة ، بصورة قاطعة ويرى ذلك من غير المعقول ، وغير الممكن ، إن قانون الاحتمالات الرياضي يؤكد على لزوم قيادة صحيحة للعالم وضرورة برنامج دقيق لإدارته .

إن قانون الاحتمالات يشكل في الواقع صفعة على أفواه القائلين بالصدفة الوجودية ، إذ لو فكرنا في وقوع الصدفة لنظام ساذج بعدد قليل ، لم تكن من غير الممكن ، وإن كانت بعيدة عن الواقع ، ولكنه لا يمكن القول بالوصول إلى صدفة هندسية منظمة تحكي عن انسجام وتوازن متين لهذا النظام العالمي المعقد ، وأن التغييرات الجزئية والساذجة لنظام الوجود لا يمكن أن تكون دليلاً على تغييرات العالم ، وتركيب الذرات فيه لتشكيل هذا التركيب المنسجم المتوازن .

لو كانت الطبيعة في تطوّر وتكامل وتركيب متجدد فلماذا لا تبديى من نفسها اليوم جديداً في التغيير والتطوّر ؟ ولماذا هي متوقفة اليوم عن التحولات الأوتوماتيكية العميقية ؟ .

إن الحوادث الساذجة البسيطة والجزئية منها تؤدي إلى إيجاد صور

محيرة منسجمة ومتناسبة مع أهداف الخلقة ، وهذا بنفسه يدلنا على أن هناك خلف هذه التطوّرات المحيرة قوّة عالمة قادرة هي التي أبدعت هذا النظام المعجب للكائنات ، وهي وراء هذا التطوّر العجيب لعالم الطبيعة ، وهي التيى ترسم هذا النظام للوجود .

إن هذا الانسجام والترابط الوثيق بين الملايين من ظواهر الطبيعة والعلاقة بينها وبين ظاهرة الحياة في الأحياء ، لا يمكن أن يفسر تفسيراً معقولاً إلاّ بصورة واحدة ، هي : أن نفترض لهذاالنظام العظيم خالقاً هو الذي قرر هذه العناصر المختلفة في هذه الكرة الترابية ، بقدرته غير المحدودة واللامنتهية ، ونظم برنامج كل عنصر من هذه العناصر ، وهذه الفرضية تطابق كل ما في ظواهر هذه الطبيعة من ارتباط وانسجام وتوازن .

أما إذا لم نقبل هذه الفرضية ، فهل يمكن لنا أن نحتمل ظهور هذا الانسجام بين أنواع الظواهر البديعة بصورة صدفة غير مستهدفة ؟ وكيف يمكن القول بتساوي هذا الافتراض مع افتراض خالق مستهدف مدبّر عالم مطلق ؟

لو لم يكن وجود لهذا العالم بما فيه من عجائب تحيّر العقول ويعجز العلم البشري عن درك أوضاعه المحيّرة ، وكانت الدنيا تتخلص في موجود ذي خلية واحدة ، حينئذ كان احتمال وجود هذا الموجود الحقير ونظمه صدفة على أساس حساب الاحتمالات طبقاً لمحاسبات ( شارل أوزن كوى ) يعطي رقماً رياضياً لا يقدر الفكر الإنساني على استيعابه .

يقول (  باشميل ) : « أنتم الماديّين تعـترفون بحركات ودوران الشمس ، والأرض وسائر المجموعة الشمسية ، وتعترفون أيضاً بالدقة الرياضية غير المتخللة في هذه الحركات ، وتذعنون ـ كما تزعمون ـ بعدم وجود يد مدبّره خلف هذه الحركات والمتحركات الكبيرة ، والعظيمة ، والدقيقة المحكمة والمنظمة ، فلابدّ لـكم من أن تقولوا بـأن المجموعة
الشمسية هي التي أوجدت نفسها بنفسها وجعلت لها هذا النظام المعقد الذي

تتحرّك هي على أساسه ، ثم هي التي جعلت لنفسها جهاز سيطرة دقيق بحجزها عن الاصطدام أو الانحراف عن مسيرتها وعن عروض مانع أو رادع لها في خلال حركتها بهذه السرعة المذهلة في الفضاء ! أنا شخصياً لا أقبل أن يدعي إنسان هذه الدعوى ، وهو يدّعي لنفسه الحرمة والكرامة » .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment