بقلم : عبد الهادي الطهمازي
يستعمل مصطلح المقدّمة في الخطابة في معان ثلاثة :
الأوّل : ما تفتتح به الخطبة (المحاضرة) في الخطابة الحسينيّة ، والمتضمنة للبسملة والصلاة على النبي (ص) , والصلاة والتسليم على الحسين وأصحابه (عليهم السّلام) ، وبعض ما يثير الحزن في نفس السامع كقول بعض الخطباء الحسينين : (روحي وجسمي وأرواح العالمين لك الفداء ، يا مسلوب العمامة والرداء ...) ، أو ما يقوّي عقيدة السامع وتمسكه بولائه لأهل البيت (عليهم السّلام) مثل قولهم : (ما خاب مَن تمسّك بكم ، وأمِن من لجأ إليكم ...) ، أو كليهما معاً .
وربما يشير بعض الخطباء النابهين إلى محتوى موضوع محاضرته ولو بإشارة أو كلمة أو تسليم خاص على مَن يريد الحديث عنه في الخطبة .
والحاصل : إنّ هذا المقطع يُعبّر عنه بالمقدّمة , وهو صحيح ، ولكن من الأفضل تسمية هذا الجزء من الخطبة بالاستهلال كما صنع الشيخ محمد باقر المقدسي في كتابه (دور المنبر الحسيني في التوعية) .
الثاني : النص الذي تفتتح به المحاضرة ويكون منطلقاً لموضوعها ، كالآيات القرآنية ، والأحاديث الشريفة ، أو غيرها من النصوص التي يجعلها الخطباء نقطة الإنطلاق في موضوعاتهم ، ويشترط فيه (أنْ يكون عنواناً للموضوع ودالاً عليه ، ومعبّراً عنه)(1) , مساوياً له ، لا أعم منه ولا أخص فضلاً عن أن يكون مبايناً للموضوع .
نعم يمكن أن يكون الموضوع مصداقاً من مصاديق النص أو فرداً من أفراده كما صنعت مولاتنا زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السّلام) في خطبتها بالشام ؛ حيث افتتحت الموضوع بقوله تعالى : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ )(2) , أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تُساق الاُسراء ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ... ))(3) .
فيجب أن يلتفت الخطيب لهذا الجزء من المحاضرة (الخطبة) , ويراعي انطباق الشروط عليه .
والأفضل أن يعبر عنه في الخطابة الحسينيّة بالنص ؛ تفريقاً بينه وبين ما سيأتي .
الثالث : تلك القطعة الإنشائية التي تكوِّن الجزء الابتدائي للخطبة (المحاضرة) , ويأتي بها الخطيب بعد الفراغ من قراءة النص مباشرة ، مستهدفاً فيها تهيئة أذهان السامعين إلى الموضوع ؛ توطئة للولوج إلى البحث ، فهي مقدّمة للموضوع , وتستحق هذا الاسم بجدارة ، وهذا المقال يسلّط الضوء على هذا الجزء من الخطبة ، وذلك ضمن نقاط :
1 ـ أهميّة المقدّمة
تعد المقدّمة (بالمعنى الثالث) من الأجزاء الأساسية والمهمة في الخطابة ، وعلى الخطيب الاهتمام بها بشكل جيد ، وصرف بعض الجهد والوقت لتخرج بأبهى صورة وأجمل ثوب ؛ فهي المنفذ الذي يدخل منه الخطيب إلى الموضوع من جهة ؛ لأنها الأساس الذي يبتني عليه الموضوع ، وتتهيّأ بها أذهان السامعين , ويفهموا بواسطتها محتوى الموضوع ، ويستوعبوه بشكل أفضل(4) .
ويدخل بها الخطيب من جهة اُخرى إلى دائرة اهتمام السامعين ؛ إذ المفروض بالمقدّمة أن يحقق الخطيب (الإثارة النفسية لدى السامع ، والإثارة النفسية المعنية هنا هي أن يثير الخطيب فيها وضعاً نفسياً خاصاً يحقق به مبدأ جلب الانتباه ، وانقياد السامع إلى جوهر الموضوع ، وبالتالي وصول الرسالة بشكل أفضل)(5) .
2 ـ سمات المقدّمة الجيدة
ولكي تكون المقدّمة جيدة وناجحة لا بدّ من توفرها على بعض السمات ، منها :
أ ـ أن تكون موجزة ومركَّزة ، فلا ينبغي أن يتوسّع فيها الخطيب كي لا يملَّ الجمهور ، أو يتصوَّروا أنه نسى أصل الموضوع ، أو أنّ الموضوع ليس بذي أهمية .
وعليه أنْ لا يدخل من خلالها في استطرادات طويلة ؛ لأنّ الاستطراد(6) في الخطابة محلّه العرض (صلب الموضوع) لا المقدّمة ، نعم إذا كان الاستطراد بمنزلة القيد الذي يسهم في إجلاء فكرة البحث وتوضيح خطوطه العامّة فلا بأس به .
ب ـ أن تكون ذات ارتباط وثيق مع العرض ، ممهدة موضحة لما يأتي بعدها .
ج ـ أن تكون واضحة يفهم منها السامع غرض الخطيب ، وفي أيِّ اتجاه يسير .
د ـ ويفترض أن تكون جذابة ذات ألفاظ لطيفة ، أو مضامين أدبية عالية ؛ لتجتذب انتباه السامعين وتستحوذ على مشاعرهم .
3 ـ ضرورة المقدّمة وعدم ضرورتها
بالرغم ممّا ذكرنا من أهمية المقدّمة إلاّ أنها تغدو غير ضرورية في بعض الحالات ولا يحتاجها الخطيب , وليباشر الموضوع مباشرة دون التمهيد له بمقدّمة . لكن ضرورة الإتيان بمقدّمة للموضوع تتحقق في الموارد التالية :
أ ـ إذا كان الخطيب مجهولاً لدى الجمهور ، فيجب أن يبدأ موضوعه بمقدّمة جيدة تبرز مكانته العلمية ، ولباقته الأدبية ، وتكسبه ثقة الجمهور .
ب ـ إذا كان الموضوع غير مرغوب فيه يخالف اتجاهات السامعين ، أو لم تجرِ العادة بتناول مثل هكذا مواضيع على المنبر ، أو لأيِّ سبب آخر ، فعليه أن يقدِّم بمقدّمة يبيّن فيها أهمية الموضوع ، أو ضرورة تناوله والبحث فيه ، أو يحبّبه إليهم ...
ج ـ إذا كان في المكان ضجيج ، فيجب تهيئة الأجواء ولفت انتباه السامعين ، والغالب أن تكون المقدّمة هنا مرتجلة .
د ـ إذا كان الموضوع غامضاً يحتاج إلى توضيح ، أو متشعباً يحتاج إلى تحديد ، فتأتي المقدّمة لتحديد جهة البحث .
4 ـ مادة المقدّمة
عندما يصبح من الضروري الإتيان بمقدّمة للموضوع لبعض الأسباب التي بُيِّنت أعلاه ، فعلى الخطيب أن يخطط لها ، ويتأمّل موضوعه ليرى أيّ الجهات فيه تحتاج إلى تقديم ، وبأيِّ ثوب يقدّمه . ولتوضيح الفكرة إليك بعض التفاصيل :
أ ـ قد يحتاج الموضوع إلى تحديد زمانه أو مكانه أو بعض الخصوصيات الاُخرى من متعلّقاته , وحينئذ ينبغي أن تتضمن إنشاءً توضيحياً ؛ فإن كان الموضوع يحتاج إلى تقسيم مثلاً عمد إلى تقسيمه قسمين أو ثلاثة أو أكثر , بحسب الأقسام المتصورة للموضوع .
فمثلاً : قوله تعالى : ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(7) .
فيبدأ بتقسيم الوصية في الإسلام , وأنها تنقسم إلى قسمين : الوصية بالمعنى الفقهي والتي يتناولها الفقهاء في الرسائل العمليّة في باب الوصية ، والوصية بالمعنى الأخلاقي والتي يكون الهدف منها تربويّاً تعليميّاً ، ويشير إلى أنّ الآية من القسم الثاني لا الأوّل ، ثمّ يدخل في تفاصيل موضوع النوعين من الوصية إنْ كان في الوقت متسع ، وإلاّ اقتصر على إيراد المعنى الثاني في العرض .
ب ـ ويمكن أن تكون المقدّمة عبارة عن سؤال ، أو مجموعة أسئلة يوردها الخطيب بعد تلاوة النص مباشرة . ويمكن أن تؤدّي مثل هذه المقدّمة وظيفتين : الأولى توضّح نقاط الغموض ، وتكشف محل البحث في الخطبة , والثانية تلفت انتباه السامع وتجعله مترقباً للجواب ، متلهفاً لمعرفته ؛ لأنها تثير غريزة حب الإطلاع فيه . فمثلاً قوله تعالى : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )(8) .
فيشرع بمقدمته بإلقاء مجموعة من الأسئلة من قبيل : هل الإسلام دين سلم أم دين حرب ؟ وإذا كان ديناً يدعو إلى السلام ويحبذه ، فما هو الدليل على ذلك ؟ وإنْ كان ديناً يحبذ منطق الحرب والعنف ، فهل من دليل ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يتحملها الموضوع .
ج ـ ويمكن أن تكون المقدّمة بياناً لأهمية الموضوع والغرض الذي سيق الحديث من أجله ، فربما لا تلفت بعض المواضيع اهتمام السامع ؛ لجهله بأهمية الموضوع ، أو لا يعرف الجمهور مدى ارتباط هذه القضية وحساسيتها في حياته ، وذلك كثير , فما أكثر ما نغض الطرف عن اُمور وأشياء نعتقد أنها لا تعنينا ثمّ يتبيَّن بعد ذلك أنّ تأثيرها في حياتنا كبير .
د ـ وقد يعمد الخطيب إلى فهرسة البحث أثناء المقدّمة ، فيستعرض فيها ما يريد التطرُّق إليه من موضوعات ، ولكن مثل هذه المقدمات قد يكون تأثيرها سلبياً في بعض الأحيان ، كما لو كان الموضوع قد كثر تداوله والحديث عنه على المنابر ، وحينئذ تغدو تلك المقدّمة سبباً لإعراض السامع عن مواصلة الاستماع .
5 ـ حجمها
ويجب أخيراً أن لا تكون المقدّمة طويلة ، وأن لا تتجاوز الخمس دقائق في أقصى حدٍّ إذا كان طول المحاضرة خمساً وأربعين دقيقة مثلاً ؛ لأنّ المقدّمة ليست إلاّ تمهيداً للموضوع ، وهذا ما يجعلها عنصراً من عناصر التشويق له ، وتطويلها يتعارض مع مبدأ التشويق والجذب .
أسأل الله أن أكون قد وفّقت في تسليط بعض الضوء على هذا الجزء الهام من الخطبة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
|