انقطاع طريق الدعاء

الذنوب والمعاصي حجاب يضرب على الانسان ويحول بينه وبين ربّه اذا لم يتدارك الأمر بالتوبة والندم والاستغفار واذا لم يفعل ذلك لا سمح الله، فان الانسان سيعيش حالة من الحرمان من الفيض الالهي.
ان انسداد طريق الدعاء وحرمان العبد من الاجابة مؤشر على طرده من ساحة الله عزوجل.
يقول عاشق الهي: لو حرمت من الدعاء لكان اشق علي من حرمان الاجابة.
وفي هذا المقطع من الدعاء يتضرع الداعي الى ربّ العزة الاّ تحول الذنوب والمعاصي دون وصول الدعاء الى الله عزوجل؛ وجاء في الأثر ان أميرالمؤمنين مرّ مع بعض اصحابه على شاب قد ادار وجهه الى الحائط وكان يقسم على الله عزوجل بعزّته فقال أميرالمؤمنين: انه أقسم على الله بما يضمن الاجابة.
أجل ان الله الرحيم القدير قادر على ازالة الحجب التي يصنعها العبد بذنوبه ومعاصيه ويفتح عليه الطريق.
إنّ الله الذي قال للنار كوني برداً وسلاماً علىابراهيم، ومنع السكين من ذبح اسماعيل، قادر على ابطال آثار الذنوب والمعاصي في قطع الطريق على دعاء الانسان وقضاء حاجاته.
ولا تفضحني بخفيّ ما اطّلعت عليه من سرّي
ولا تفضحني بخفيّ ما اطّلعت عليه من سرّي
الهي ولا تفضحني، لا تهتك سترك الذي سترتني به وأنت تعرف اسراري.

الستـر


على الانسان أن يدرك ان الله عالم الغيب والشهادة، مطلع على كل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال شيء في السماوات والأرض، يعلم ما جرى في الغابر والحاضر ويعلم ما في المستقبل وما سيجري من حوادث في ضمير الغيب كل شيء حاضر عنده..
يعلم خطرات الانسان واسراره ونواياه وما يمرّ في خاطره من أفكار.
نستطيع أن نخفي أخطاءنا عن الناس عن الوالدين.. عن أولادنا، ولو اطلعوا على حقيقتنا كما هي، لطردنا المجتمع ونبذنا اصدقاؤنا وأهلونا.. الله وحده الذي يعلم ما نخفي، نعصيه فيستر علينا، ونرتكب الذنوب فلا يفضحنا ان العبد في هذا المقطع من الدعاء يتضرع الى الله ويتوسل اليه أن يستر عليه ولا يفضحه ويهتك أسراره.. والله عزوجل هو ستار العيوب.
وعلى الداعي وهو يتوسل الى الله ويتضرع اليه أن يتيقن ويتأكد بان الله عزوجل لا يفضح عباده التائبين.. حتى يوم القيامة يأتي النداء اني احاسب عبدي فلان حتى لا يطلع من في المحشر على ذنوبه وحتى لا يفتضح أمره فيخجل.
يقول الامام الرابع سيد الساجدين وزين العابدين علي بن الحسين « في دعائه المعروف ««دعاء أبي حمزة الثمالي»».
««ستار العيوب، غفار الذنوب، علام الغيوب، تستر الذنب بكرمك وتؤخر العقوبة بحلمك»».
ان بعض الناس من عباد الرحمن الذين اتصفوا بالاخلاق الحسنة والفضائل يسترون على غيرهم عيوبهم وقد نشعر بالدهشة لاؤلائك البشر الذين بلغوا شأواً عجيباً في سترهم على عيوب الآخرين، فكيف بالله عزوجل وهو الستّار؟!
جاء في قصص الانبياء أن يعقوب « طلب من ابنه يوسف « أن يقص ما جرى عليه يوم تآمر اخوته عليه فقال يوسف الصديق: ««عفا الله عما سلف»» «467».

حكـايـة


روي أن أبا عبدالرحمن حاتم بن يوسف المعروف بالأصمّ كان من أعيان خراسان وكان عالماً ورعاً تقياً وقيل انه عرف بالاصمّ لأنه كان يتظاهر بالصمم بعد حادثة وقعت وهي أن امرأة جاءت اليه تسأله عن بعض المسائل فخرجت من معدتها الريح فشعرت بالخجل الشديد ولكن الرجل أعرض فأشار الى أذنه متظاهراً بالصمم وانه لم يسمع سؤالها ولم يفهم ما ارادت وطلب منها أن تتكلم بصوت مرتفع ليسمع ففرحت المرأة وحمدت الله عزوجل ان ستر عليها ولم يفضحها أمام الرجل؛ وقد ظل العالم منذ ذلك الحين يتظاهر بالصمم الى رحلت المراة عن الدنيا.
ولما توفي الاصمّ رآه رجل صالح في عالم الرؤيا وسأله عن حاله: ما فعل الله بك؟
قال: عفا الله عن جميع ذنوبي لأني تظاهرت بعدم سماع ما يسمع.
ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي من سوء فعلي واسائتي،
ودوام تفريطي وجهالتي وكثرة شهواتي وغفلتي
ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته
وامهلني يا الهي ولا تعاقبني بسبب ذنوبي وما فعلته في خلوتي.. اعترف يا رب بجهلي وتهافتي على الشهوات واعترف بانني كنت غافلاً يا رب!
يستفاد من المعارف الالهية انه لو عجلت العقوبة، ما ترك على الارض دابّة ولكنها رحمة الله وسعت كل شيء؛ وان الله عزوجل يمهل عباده ويفتح أبواب التوبة لعودة من ينيب ويكفّر عن ذنوبه ويقضي ما أوجب الله عليه من فرائض.
وربّما تؤخر العقوبة من أجل مؤمن يخرج من صلب العبد الآبق، وربّما يرفع العذاب والانتقام الالهي؛ لبكاء الاطفال ودعوات خالصة من عاشق ودموع تجري من عيون ساهرة في منتصف الليل أو لتوبة نصوح؛ واذا بالعذاب الذي كان قاب قوسين أو أدنى يرتفع وتنزل رحمة الله.
ان الاستغراق في المعاصي بلا وازع ولا حياء؛ قد يعجل في العقوبة ولكن الدعاء والتضرع الى الله والعزم على اصلاح ما فسد يوقف نزول العذاب وهذا ما حصل لقوم يونس فقد كاد العذاب أن يحيل حاضرتهم الى أثر بعد عين لولا أن تداركتهم رحمة من الله بدعاء وتوبة وندم.
ويجب أن نلتفت الى هذه الحقيقة وهي أن العقاب الالهي قد يحصل في الدنيا ويكون بصورة قحط وجفاف يضرب أطنابه، وربما جاء على شكل بلايا سماوية، أو يعمّ الغلاء في الاسعار أو اختفاء الثقة في المجتمع أو على شكل مسخ باطني، فيستحيل الناس الى ذئاب وخنازير ترتدي أهاب انسان كاذب فتقسوا القلوب وتصبح كالحجارة أو أشدّ قسوة.
يقول سيدنا محمد في حديث له مع وصيّه علي « وهو يكشف له عمّا سيحصل من بعده:
««يا علي! ان القوم سيفتنون [بعدي] بأموالهم ويمنّون بدينهم على ربّهم ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسّحت بالهديّة والربا بالبيع»» «468».
حقاً فلولا مسخ الباطن بسبب الاستغراق في المعاصي واستحالة الانسان الى كائن آخر لا يشبه الانسان الاّ في شكله الظاهري فقط، لولا ذلك ما استحلّت حرمات الله عزوجل بالشبهات.. الخمر حرام ولكنهم يشربون نبيذاً؛ الربا حرام ولكنهم سيقومون بعمليات وحيل شرعية فيأكلون الربا ولكن ظاهر القضية يبدو بيعاً!!
لقد عاقب الله قوماً من بني اسرائيل بسبب ذنوبهم فقال الله عزوجل:
«كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ««469».
ان مقطع الدعاء يشير الى ما يلي:
1 ـ التفريط. 2 ـ الجهل. 3 ـ الشهيرة. 4 ـ الغفلة.
التفريط: المراد من التفريط هنا التقصير في الطاعة والعبادة وفي خدمة الناس الذين عباد الله.
ان المعارف الدينية تحذّر الناس من السقوط في ورطة التفريط لأن التفريق خسارة كبرى وسبب في الحرمان من الفيض الالهي، يقول أمير المؤمنين «:
««التفريط مصيبة القادر»» «470».
««ثمرة التفريط الندامة، وثمرة الحزم السلامة»» «471».
««الجنة غاية السابقين، والنار غاية المفرّطين»» «472».
ويقول الامام الصادق «:
««من فرّط تورّط»» «473».

الجهل:

الجهل بالحقائق وأمور الدنيا والآخرة والواجبات والحقوق للذات والآخرين؛ من الأمراض الخطيرة التي اذا لم يتداركها الانسان بدواء العلم والمعرفة فانها ستؤدي به الى الهاوية ولقد اشرنا الى خطورة الجهل فيما مضى في شرح ««وتجرّأت بجهلي»» الواردة في الدعاء الكريم.
الشهوة: الشهوة هي الرغبة الشديدة في شيء فيصبح أشباعها هدفاً أكيداً لابدّ منه.
وعندما تكون هذه الرغبة والشهوة في أمر حرام، فانها ستؤدي بالانسان الى الوقوع في المعصية والخطيئة وبالتالي اغتيال الروح والعقل والسقوط في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
إنّ هياج الشهوات والرغبات والانشداد المفرط الى الدنيا وملذاتها سوف يساعد على انبات شجرة الوساوس الشيطانية وسوف تكبر هذه الشجرة وتتفرع أغصانها لتنشب في كل حرام وتصبح الشجرة الملعونة ولن تكون ثمارها سوى اقتراف المعاصي والبعد عن الله تبارك وتعالى والحرمان من رحمته ومن ثم السقوط في هاوية الجحيم.
ان هذه الشجرة من اشجار جهنم وشجرة الزقوم ولا يمكن اجتثاثها الاّ بفؤوس الموعظة والنصيحة واللجوء الى الله عزوجل والعودة اليه والتأمل في العاقبة والاعتبار من الحوادث.

يقول أهل الحقيقة:


إنّ من أخطر أغصان هذه الشجرة التي لها جذور في النفوس والسبب في بروز المعاصي والذنوب سبعة أغصان:
1 ـ شهوة الجاه والرئاسة.
2 ـ شهوة المال والثراء.
3 ـ شهوة امتلاك القصور المنيفة.
4 ـ شهوة الجنس مع الحسناوات.
5 ـ شهوة البطن والأكل اللذيذ.
6 ـ شهوة اللبس وارتداء الفاخر من الثياب من الحرير وغيره.
7 ـ شهوة المعاشرة مع أهل المجون والآثمين.
هذه شهوات سبع تكمن وراء بروز الصفات الشيطانية في باطن الانسان والحؤول دون سطوع شمس العرفان على قلوب الغافلين:
1 ـ التكبر. 2 ـ الرياء التظاهر. 3 ـ الحسد والحقد. 4 ـ الحرص والطمع. 5 ـ البخل. 6 ـ الظلم. 7 ـ الغضب.
ويحتاج شرح كل من هذه الشهوات السبع الى كتاب لما لها من آثار سلبيه ولما تسببه من خسائر ولما تفتحه من نوافذ على الجحيم.
الساقطون في هاوية حب الدنيا والغارقون في ظلمة الشهوات ما أن يصلوا الى حافّة الأجل وتأتيهم سهام الموت حتى يفيقوا من غفلتهم وحينئذ يدركوا حجم الخسارة التي نزلت بهم والطامّة الكبرى التي وقعوا فيها.
أجل سوف يرون ببصر كالحديد أن كل حياتهم الصاخبة رماد تذروه الريح، فيتبدل فرحهم حزناً وصفاء عيشهم كدورة.

حكـايـة


إنّ حال من سقطوا في حب الدنيا ومن غرقوا في ظلام الشهوات حال ذلك الأمير الذي أراد والده السلطان تزويجه فخطب له حسناء من الأسر الشريفة لها جاه وثراء.
ولما حانت ليلة الزفاف ودعي لها الخاص والعام وفتحت خزائن السلطان للاحسان وتوزيع الجوائز واضيئت مصابيح المهرجان ارتفعت اصوات الطبول والغناء وجيء بالمهرّجين يقومون بحركات مضحكة ليعم السرور ويشيع الحبور.
وجيء بالعروس في حجلتها وقد زينت بانواع الزينة فأضافت الفتنة الى فتنتها وبحثوا عن العريس فلم يجدوا له أثراً.
وأما ما كان من شأن العريس فقد راح يحتسي كؤوس الخمر حتى سكر ولم يعد يعي من حولـه وما حولـه فخرج من الاحتفال وقصر والده السلطان وراح يترنح في ازقة المدينة، فصادف عربة من تلك العربات التي يحمل فيها المجوس موتاهم وكان من تقاليدهم أنهم يضيئون حولها الشموع. فلما وقعت عيناه عليها ظنها حجلة العروس فولج اليها فوجد فيها جسداً لعجوز شمطاء ظنها عروسه فراح يتمرغ فوق الجنازة؛ حتى هبّت نسائم الصبح فافاق الامير من سكرته ووجد نفسه في عربة الموتى الى جانب جثة تلك العجوز فأشرف على الهلاك من شدّة الخجل والحياء وودّ لو ابتلعته الأرض قبل أن يراه الناس على هذا الحال وفيما هو يحاول الفرار من هذا العربه اذا بالسلطان ومعه الخدم والحشم فوقفوا على فضيحته وعاره.
وهذا حال من سقط في هاوية حبّ الدنيا وغرق في الشهوات فضيّع عرس الآخرة بسكر الشهوات في الدنيا فقادته الى مضاجعه جسد عجوز شمطاء ميتة!!
روى الامام الصادق « عن آبائه عن جدّه سيدنا محمد « قوله: ««طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود لم يره»» «474».
وعنه « قال:
««حُفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات»» «475».
وعنه « أيضاً: ««أكثر ما تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرج»» «476».

الغفـلـة


وهي ضد الانتباه يعني الانصراف عن شيء يجب أن ينتبه اليه الانسان ويهتم به.
ان الاستغراق المفرط في الامور المادّية والألتهاء بها والانصراف الكلّي الى ظواهر الحياة والانشغال بها الى حدّ اللهاث وراءها ليل نهار من دون ترك فرصة للتأملات العقلية في مسائل أساسية ومصيرية تؤدي الى الغفلة التامّة ونسيان الله والدين والمعاد والطاعة والعبادة والتديّن.
يقول الامام علي « في بعض حكمه وموعظه العميقة:
««ألغفلة أضرّ الاعداء»» «477».
««ويل لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرّحلة ولم يستعدّ»» «478».
««من غلبت عليه الغفلة مات قلبه»» «479».
««دوام الغفلة يعمي البصيرة»» «480».
ويقول الامام الحسن السبط «:
««الغفلة ترك المسجد وطاعتك المفسد»» «481».
وكن اللهم بعزّتك لي في الاحوال كلها رؤفاً، وعليّ في جميع الأمور عطوفا
وكن اللهم بعزّتك لي في الاحوال كلها رؤفا
اغمرني بالعطف وانثر عليّ الرأفة يا الهي!
لا يمكن لاحد أن يشرح أو يصور الرأفة والرحمة الالهية للمحبوب حتى لو أوتي علماً واسعاً وقدرة على البيان البليغ..
ان القرآن الكريم يصوّر لنا جانباً من رحمة الله ورأفته حيث تتجلى في آياته عزوجل.
وقد جاء في الأثر ان سيدنا محمد « سأل الله عزوجل اشياء منها أن يوكل اليه حساب امّته فجاءه النداء: انتوإن كنت نبي الرحمة ولكنك، لست أرحم الراحمين ولو اطلعت على بعض خطاياهم لنفرت منهم.. يا محمد احاسبهم واستر عنك ذنوبهم وأنت نبي الرأفة ومظهر الرحمة الواسعة فكيف لا استرهم عن غيرك؟!
يا محمد أنت وإن كنت رحمة النبوّة فأنا الرحمة الالهية.
أنت راهم اليوم وأنا أراهم الى الأبد.

حكـايـة


حكى الشيخ البهائي: سمعت ممن اثق به أن مذنباً قد توفي وطلبت زوجته من الناس أن يجروا له مراسم الغسل والكفن والدفن، ولكن الناس ولشدّة بعضهم إيّاه لم يحضروا الى ذلك، فاضطرت الى استئجار شخص لحمل جنازته الى مسجد المدينة فلعل أهل الايمان يقومون بتجهيزه ومع ذلك لم يحضر أحد، فاضطر الأجير الى حمل الجنازة الى الصحراء ودفنها دون غسل وكفن.
وكان في تلك الفلاة جبل قريب وكان زاهد يعيش في ذلك الجبل، فلما رأى الجنازة عن بعد هبط من الجبل يشارك في مراسم الدفن فلما سمع الناس في الأطراف ذلك تبادروا لمساعدة الرجل الزاهد.
ولما أتمّوا الدفن سألوا العابد عن سرّ نزولـه من الجبل والمشاركة في دفن الميت؛ فقال: رأيت في عالم الرؤيا هاتفاً يقول لي: اترك صومعتك غداً واتجه الى المكان الفلاني في الصحراء لدفن جنازة ميت ليس يرافقه الاّ زوجته فصل عليه فقد غفر الله له.
فتعجب الناس من ذلك فسأل العابد المرأة عن زوجها فقالت ما مرّ يوم الاّ وأذنب فيه ذنباً؛ فقال العابد: الا تعلمين له عملاً صالحاً؟ قالت: رأيت له ثلاثة من أعمال الخير: 1ـ كان كلما أذنب خلع ثيابه وارتدى ثياباُ نظيفة وتوضأ وصلّى بخشوع.
2 ـ لم يخلو بيته من يتيم قط وكان يحسن الى اليتامى أكثر من أولاده.
3 ـ كان إذا استيقظ في الليل بكى وقال: أي ربّ! أي زواية من زوايا جهنم سترميني؟!

حكاية أخرى


وحكى عطار النيسابوري: كان لعبد الله بن المبارك غلام تعاقد معه اذا سدّد ثمنه من كدّه اعتقه؛ فجاء رجل ذات يوم الى عبدالله بن المبارك وقال له: ان غلامك ينبش القبور ليلاً! ويسرق أكفان الموتى ويبيعها ويحصّل الدينار والدرهم ويأتي به اليك!
فاغتمّ عبدالله بن المبارك لذلك، فلما حلّ الليل وانسلّ الغلام من المنـزل، راح عبدالله يتعقبه حتى وصل المقبرة، فرأى الغلام يلج قبراً وقد ارتدى ثوباً خَلِقاً وفي عنقه سلسلة؛ ثم عفر وجهه بالتراب وراح يناجي بصوت يقطّع نياط القلب فانتحى عبدالله جانباً وراح يبكي.. وظل الغلام حتى السحر مشغولاً في مناجاته ودعائه ثم خرج من القبر وولّى وجههه شطر المدينة؛ فولج أول مسجد في الطريق ووقف لصلاة الفجر ثم قال بعد صلاته: وهو يمدّ كفّه: اللهم يا مولاي الحقيقي طلع علي الصبح ومولاي المجازي يريد مني درهماً وديناراً أي رب يا غياث المستغيثين ويا دليل المتحيّرين.
وفي تلك اللحظات انبثق نور وخرج منه دينار ليسقط في كفّ الغلام.
فلم يصبر عبدالله بن المبارك وبادر الى الغلام وهو يقول: فداك أبي وأمي؛ وعانقه: ليتني كنت غلامك.
ولما راى الغلام ما يصنع به مولاه ابن المبارك نظر الى السماء وقال: اللهم لم يكن يعلم سرّي الاّ أنت الآن وقد عرف سرّي غيرك فاقبضني اليك ثم تمتم بكلمات وفاضت روحه الطاهرة.. وقام عبدالله بدفنه في ثوبه الخلق فرأى رسول الله « في تلك الليلة ومعه ابراهيم خليل الله راكبين براقاً قادمين نحوه؛ فلما وصلا قريباً من عبدالله قالا له: لم دفنت حبيبنا في ثوبه الخلق؟!
أجل ان الله عزوجل رحيم بعباده تشملهم رأفته في كل حال؛ فكيف في وقت الدعاء والمناجاة والتوبة والعودة اليه سبحانه.
اللهم وربي من لي غيرك أسأله كشف ضرّي والنظر في أمري
اللهم وربي من لي غيرك
ويا الهي ما لي أحد سواك.. فإلى من أتوجه بسؤالي ومن غيرك يا الهي يكشف الكرب الذي حلّ بي؟
أي نبع في الوجود سوى فيض نبعك أنت يا رب الخير المطلق.. فإليك يا رب اتوجه في سؤالي في كل أحوالي.. في دنياي وآخرتي.
ويا مولاي الى من أتوجه وأنا البائس ومن يغيثني وأنا المكروب.
أنت وحدك يا سيدي المقصود في الحاجات.. وأنت وحدك نبع الاحسان والكرم.. وأنت وحدك الكمال المنزّه من كل نقص وعيب.
ولو قصدت غيرك يا الهي، قصدت بخيلاً لا يجود وعاجزاً لا حول له ولا قوّة وضعيفاً لا يحير ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.. ولو قصدت غيرك يا رب؛ قصدت مخلوقاً مثلي وفقيراً بائساً لا يملك من نفسه شيئاً..
انت يا الهي وحدك واجب الوجود؛ فعليك توكلي وأنت وحدك الرزاق الذي اذا مددت كفي اليك لم تردّني خائباً؛ كيف وأنت الذي ترزق بلا سؤال وتعطي على كل حال.
الهي شددت اليك رحالي وفيك أملي ورجائي فأغنني يا الهي وفرّج عني يا مغيث المكروبين.
أجل هكذا يكون حال الانسان اذا أدرك موقعه الحقيقي ويعرف من يخاطب ومن يسأل وفي حضرة من يقف ان حال الانسان في هذه الحياة كغريق في لجّة بحر لا أمل له في النجاة الاّ رحمة الله سبحانه..

وهكذا علّم الله الانسان:


««يا عيسى! ادعني دعاء الغريق الذي ليس له مغيث»» «482».
وجاء عن الامام الصادق «:
««اذا اراد احدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً الاّ اعطاه فلييأس من الناس كلّهم ولا يكون له رجاء الا عند الله، فإذا علم الله عزّوجل ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً الاّ أعطاه»» «483».
ان من يقول يا معبودي ولا معبود سواك؛ من كل قلبه ومن اعماق وجوده صادقاً مخلصاً لا بد وأن يستجاب دعاؤه.
ان من يقطع أمله ورجاءه من كل شيء الاّ الله ..أن من لا يرى شيئاً الاّ الله.. لا مال ولا ثراء ولا جاه ولا كل شيء من مظاهر هذه الدنيا الزائلة.. لا بد وان تنفذ كلماته ومناجاته استار الحجب وتصل الى الله ويستجاب دعاؤه.
ان من يقول يا الهي وربي وسيدي.. يعني انه يرفض سلطة الفراعنة ولا يعترف بحاكمية أحد الاّ حاكمية الله سبحانه وتعالى لأنه لا شيء في الوجود يمكن أن يقدّم نفعاً للانسان أو يلحق ضرراً
ومن هنا فان حب الله والايمان به عزوجل يتطلب الانصراف عن كل شيء واليأس من كل شيء؛ وهذا هو ايمان العاشقين، انهم لا يرون شيئاً الاّ الله وما ما هذا الوجود الاّ تجلياً لرحمته وارادته وقدرته.

ولهذا ترى العاشق يقول:


««الهي وربّي من لي غيرك أسأله كشف ضرّي والنظر في أمري»».

وهكذا يقول المؤمن:


««الهي ان لي في كشكول الفقر ما ليس في خزائنك»» وهو الله سبحانه الغني المطلق محبوب الفقراء والذين ادركوا حقيقة فقرهم الذاتي.
وعندما يحصل الانقطاع الى الله.. عندما ينبض القلب بعشق المحبوب، وعندما تفيض العيون شوقاً اليه، وتتعفر الخدود تذلّلاً في حضرته، وعندما تتشبث الأكف باذيال رحمته، حينئذ تنفتح ابواب السماوات ويتدفق الفيض الالهي بالرحمة والرأفة والمغفرة والبركات ويضع الانسان خطاه في الطريق المستقيم، الذي يؤدي الى السعادة في الدنيا والآخرة .

حكـايـة


حكى أحد العرفاء عن أم طردت ابنها الشاب لعقوقه وأذاه واعراضه عن النصيحة، قالت له: اخرج فلست ابني. ويخرج الفتى ليمضي وقته مع الفتيان، الى حان وقت الغروب فراحوا يعودون أدراجهم الى بيوتهم، ولمّا ظل وحيداً ولم ير وفاءً من رفاقه عاد الى منزله فرأى الباب مسدوداً، فراح يطرق الباب ويبكي ويتضرّع ويتوسل الى أمه أن تفتح له الباب ولكن أمّه امتنعت عن ذلك.
وفيما هو يتضرّع ويبكي مرّ عالم تقي فأشفق على الفتى، فطرق الباب وتشفع للفتى عندالأم لتفتح الباب.
قالت الأم: أيها المحترم اقبل شفاعتك بشرط أن تكتب لي عهداً إن عقني بعدها وآذاني أن يخرج من البيت ولا يدعوني أمه، فكتب الرجل التقي لها ذلك وتصالح الابن مع أمه.
ومرّت أيام وذات يوم مرّ الرجل التقي فوجد الفتى عند الباب يتضرع ويقول: كوني ما شئت ولكن لا تغلقي دوني الباب ولا تطرديني. ولكن الأم اصرّت على عدم فتح الباب وقالت: لن افتح لك الباب ولن ادعك تدخل البيت، ولن اتصالح معك. وفكر الرجل التقي ان يجلس جانباً ليرى عاقبة الأمر، فرأى الفتى يجهش بالبكاء الى أن غشي عليه وانقطع صوته، واطلّت الأم لترى ما حلّ بابنها، فلما رأت ذلك فارت عاطفة الأمومة، ففتحت الباب ورفعت رأس ولدها عن التراب ووضعته في حجرها وراحت تمسح عن رأسه وتقول: يا قرّة عيني! انضش لتدخل البيت.. اني وان اغلقت دونك الباب فلم يكن مرادي طردك، بل كنت أريد تأديبك لتعود الى دائرة الطاعة.
ان المذنب اذا تاب وندم وتضرّع الى الله عزوجل وأناب فستنفتح له أبواب المغفرة والرحمة«484».

حكاية أخرى


جاء في ترجمة محمود الغزنوي انه لمّا تربّع على عرش السلطنة والملك مرّ يوماً بشاطئ البحر فرأى فتىً يلقي بشباكه الى البحر وكان في غاية الحزن فسأله السلطان عن سبب حزنه فقال الفتى ايها الملك وكيف لا أحزن ونحن سبعة يتامى فقراء وأمنا عجوز فمن أين لي أن أكفل معيشتهم فأنا آتي كل يوم الى البحر، فربما اصطدت سمكة أو سمكتين. فقال الملك أتحب ان اصطاد معك وأكون شريكك؟
قال الشاب: نعم.
قال السلطان: اسحب الشباك باسمي، فلما أراد أن يفعل ذلك فإذا هو لا يستطيع فقال الملك لمن حوله: اعينوه!
فلما اخرجوا الشباك فإذا هي ملأى بالسمك الوفير.
ولمّا عاد السلطان الى قصره وجلس على سرير الحكم أرسل وراء الفتى فجاء فأجلسه الى جانبه وراح يساءله وكان كلما استنكر أحد وقال: ليس مكان هذا الفتى الى جانبك يقول: انه على كل حال شريكي وهو في ما لدي شريك.
أجل اذا كان الملك المجازي هكذا يفعل، فما بالك بالملك الحقيقي وعنده الخزائن التي لا تنفد ولا تنتهي. كيف ستراه يفعل مع الانسان الفقير المحتاج والذي لا يمكن له أن يعيش حتى لحظة واحدة من دونه.
إنّ نظرة من الرحمة الالهية تفعل ما لا يمكن تصوره.. نظرته سبحانه انقذت نوح والمؤمنين من غضب الطوفان العظيم. وهي التي جعلت من عصا موسى قدرة تهزم الفرعون، الذي تجبر وطغى وقال أنا ربكم الاعلى. وتُخلّص بني اسرائيل من طغيانه وتنقذهم من الغرق في مياه البحر وأمواجه المتلاطمة.. وأوصلتهم الى ساحل النجاة والأمان، وهي التي انقذت أيّوب من سهام البلاء والمصائب؛ وانقذت يوسف من غيابات الجب واجلسته على كرسي الحكم ليصبح عزيز مصر.

وحكاية أخرى


كان حاتم الاصمّ من الزهاد والعرفاء والاتقياء في عصره، وبالرغم من شهرته بين الناس فقد كان يعيش مع اسرته في شظف من العيش ولكنه كان يتوكّل على الله وحده.
كان يتحدّث ذات ليلة مع اصدقاء حول الحج وزيارة بيت الله الحرام وزيارة ربوع الوحي والنبوّات فتأججت نار الشوق للسفر الى هناك.
وما إن عاد الى منزله حتى حدّث زوجته وأولاده برغبته في حج بيت الله فقالت زوجته: ومن أين لك نفقة السفر وزاد الطريق وأنت فقير لا تملك شيئاً؟! ثم كيف تتركنا على هذا الحال وأنت كما ترى؟! وقد كتب الله سبحانه الحج على الاغنياء ومن استطاع اليه سبيلاً؟!
وأمّن أولاده على كلام الأم الاّ ابنته الصغيرة فقد قالت: وما يمنعكم من أن تأذنوا له بالسفر؟ دعوه يذهب الى حيث شاء ورزقنا على الله وما والدنا الاّ سبب من الاسباب ولان ذهب فان الله سيرزقنا بسبب آخر. وانتبه الجميع الى هذه الحقيقة وأذنوا لأبيهم بالسفر وحج بيت الله الحرام والدعاء لهم هناك.
وسرّ حاتم أيّما سرور وأعدّ للسفر اسبابه والتحق بقافلة الحجيج.
ولما سمع الجيران بأن سفر الرجل الزاهد كان سببه ما قالته ابنته الصغيرة جاءوا يلومونها كيف فعلت ذلك وماذا سيفعلون وقد يغيب ربّ العائلة شهوراً طويلة؟
وأنضم أفراد العائلة الى جميع اللائمين: وقالوا لولا أنك قلت ما قلت ما حصل ما حصل!
وشعرت الفتاة بالحزن وراحت تبكي ببراءة وفي تلك الحالة رفعت كفّيها الى السماء وقالت: اللم ان هؤلاء اعتادوا على احسانك وكرمك ويطعمون من موائد نعمك اللهم فلا تضيعهم ولا تخزني فيهم.
وفيما كان أفراد الأسرة حائرين يفكرون فيما عسى يفعلون ومن أين سيأكلون أو يشربون واذا بحاكم المدينة يعود من رحلة صيد وقد هدّه الظمأ والسغب؛ فأرسل بعض رجاله الى بيت هذه الأسرة الفقيرة فطرقوا الباب وخرجت المرأة تسأل من الطارق وما يريد؟ قالوا: أرسلنا حاكم المدينة يطلب ماءً.
فنظرت المرأة الى السماء وقالت: اللهم إنّا بتنا ليلتنا جائعين واليوم يأتي الامير يطلب منا ماءً!!
ثم احضرت اناءً مليئاً بالماء وجاءت به الى الامير واعتذرت عن الاناء لأنه كان من خزف وسأل الامير من حوله عن هذا المنزل لمن؟
قالوا: هو للأصم أحد الزهاد والعرفاء وقد سمعناه أنه ذهب الى الحج ولس لعياله نفقة. قال الأمير:
إنّا قد طلبنا منهم ماءً وهم ليسوا في حال ميسور وليس من المروءة الاّ أن نساعدهم؛ قال ذلك ثم فتح نطاقاً ذهبياً كان يتمنطق ورماه في بيت الزاهد ثم قال: من احبني فليفعل مثل ذلك. ورمى جميع من معه انطقتهم، ولما أرادوا مغادرة المكان قال الأمير سلام عليكم سوف يأتي وزيري اليكم ويشتري منكم هذه الانطقة، وما أسرع أن جاء الوزير يحمل اثمان تلك الانطقة.
ولمّا رأت الفتاة ذلك دمعت عيناها؛ فقيل لها هذا ليس وقت بكاء بل فرح وسرور وقد فتح الله علينا من أبواب رحمته ولطفه وما وسّع علينا عيشنا.
قالت الفتاة: ابكي لاننا بتنا ليلتنا فقراء جائعين واليوم نظر الينا مخلوق فاغنانا، فكيف لو نظر الله الينا؟!
ثم رفعت يديها الى السماء تدعو لأبيها:
اللهم كما نظرت الينا وانزلت علينا من رحمتك فانظر الى أبينا واصلح أمره.
وأما ما كان من شأن حاتم الاصمّ فقد كان في قافلة الحجيج ولم يكن في القافلة من هو أفقر منه، فلا مركب يحمل ولا زاد يكفيه ولكن كان كل من يعرفه يمدّ له يد العون بشيء يسير.
وذات ليلة شعر أمير الحاج بألم شديد وعجز طبيب القافلة من فعل شيء يسكّن ألمه ويداوي أوجاعه، فسأل أمير الحاج عن زاهد عارف في القافلة يدعو له ويفرّج عنه بدعائه مما يعاني قيل: نعم هو حاتم الأصمّ.. فقال أيتوني به الساعة؛ فتراكض الغلمان الى حاتم يحضروه، فدخل وسلّم على الأمير وجلس عند فراشه ثم دعا له بالشفاء فما اسرع أن أنفرجت اسارير الأمير وزال عنه الألم، كأنه لم يكن يتلوّى منه وأراد أن يكافئه فأمر بتهيئة مركب له وأعطاه ما يكفي من النفقة ذهاباً وإياباً.
فشكر حاتم الأمير ولما دخل الليل كانت له مع الله عزوجل مناجاة وتضرع وخشوع الى أن وهدّمت عيناه بالنوم فسمع هاتفاً يقول: يا حاتم من أصلح حاله مع الله اصلح الله حاله معه ومن آمن به انزل عليه رحمة منه وبركات؛ فلا تغتم لحال عيالك فقد اصلح الله حالهم.
ولمّا أفاق حمد الله وأثنى عليه وهو يعجب من أمر الله عزوجل.
ولما عاد من حج بيت الله خرج لاستقباله أولاده وسرّوا بلقائه وهو أيضاً سرّ بهم وكان أكثر سروراً بابنته الصغيرة؛ فقبلها وقال ما أكثر من تظنه صغيراً وهو كبير إنّ الله لا ينظر الى السن وانما الى معرفة الحق فسلام على من عرف الله وتوكل عليه، ومن توكل على الله فهو حسبه«485».

وحكاية أخرى


حكى الفاضل السيد جعفر المزارعي: ان أحد طلبة الحوزة العلمية في النجف الاشرف كان يعيش في ضيق وشطف من العيش لا يطاق.
فجلس ذات يوم الى جانب ضريح سيدنا علي « يشكو حاله بشيء من العتب قائلاً: سيدي يا ابا لحسن، لأي شيء تعلّق في ضريحك هذه المصابيح الوهاجة التي لا نظير لها وهذه الثريات وأنا كما ترى من البؤس في حالي؟!
فرأى في ليلته تلك وفي عالم المنام أميرالمؤمنين يقول له: إن اردت جواري هنا فهذا عيشك خبز وفجل وهذا اثاثك لا يعدو سوى فراش وإن أردت الرفاه فإذهب الى الهند الى مدينة ««حيدر آباد الدكن»» الى بيت فلان فاطرق الباب وقل لصاحب الدار:
سمت نحو السماء واضحت دارة الشمس!
ولما استيقظ من النوم انطلق في الصباح الى مرقد سيدنا علي « وشكى حاله وقال: لقد ساءت حالي حتى لا استطيع البقاء في هذا البؤس قال ذلك وعاد ادراجه الى حجرته؛ فرأى في منامه في الليل أميرالمؤمنين يقول له: هو ما قلت لك ان اردت جواري فهذا عيشك وإلا فإذهب الى تلك المدينة وقل لصاحب الدار: سمت نحو السماء وأضحت دارة الشمس.
وهبّ ذلك الطالب من نومه وظل ساهراً حتى الصباح وما إن صلّى صلاة الفجر؛ حتى راح يلملم كتبه وأثاثه البسيط وعرضه للبيع لعله يهيأ نفقة توصله الى الهند وساعده بعض المحسنين وقد أبدى بعضهم تعجبه من هذا الطالب الفقير يقصد زيارة فلان الثري في الهند!!
وشدّالطالب الرحال ووصل الى الهند والى المدينة والى تلك الدار؛ فإذا هي قصر منيف فلما طرق الباب وفتحت وقعت عيناه على رجل يهبط من مدرّج القصر فهتف به: سمت نحو المساء واضحت دارة الشمس.
ولمّا سمع الرجل ذلك أمر الخدم أن يدخلوا الشاب واستقباله باكرام، فأرسل الى الحمام وغير ما عليه من الثياب وقد قدّم له الطعام وبات ليلته تلك في أحسن حال.
فلما كان العصر من اليوم التالي أُدخل الى صالة الاستقبال؛ فرأى أعيان البلدة وتجارها وعلماءها يفدون وكل يجلس في مكان خصص له من قبل؛ فسأل من حوله هل من مناسبة؟
فقال له: اليوم عقد قران ابنة صاحب القصر.
وكانت الصالة أحسن زينة عندما حضر صاحب القصر؛ فنهض له الجميع اجلالاً فحيّاهم ورحب بقدومهم ثم استقرّ في مكانه.
وهيمن صمت مهيب على المحفل وكل الانظار مشدودة الى صاحب الدار الذي قال: ايها السادة اشهدكم جميعاً على اني أهدي نصف ثروتي من أرض وبساتين وماشية وأثاث الى هذا الطالب القادم من النجف الأشرف وأشهدكم على أني أُزوّجه احدى ابنتي وليس لي غيرهما وانتم يا علماء الدين أجروا صيغة العقد، وكاد الطالب أن يفقد وعيه لما يرى هل هو في حلم أم يقظة؟!
ولكنه استعاد رباطة جأشه وسأل: عن سرّ ما يرى؟
فقال الرجل الثري محدّثاً ضيفه وصهره والحاضرين: قبل سنوات أردت انشاء شعر في مديح سيدنا مولى المتقين علي أميرالمؤمنين؛ فقلت صدراً في مدحه وعجزت عن العجز فاستعنت بشعراء الفارسية في الهند؛ فلم اجد عندهم ما يشفي غليلي واتصلت بشعراء في ايران فلم يوافيني بأحسن مما سمعت في الهند أحد؛ فقلت في نفسي ان لهذا سرّاً؛ فنذرت لله إن وجدت الشطر الثاني من الشعر؛ شطرت أموالي شطرين واعطيت شطراً لقائله وزوّجته إحدى ابنتي يختار، فلما جئت وهتفت بهذا الشطر من البيت وقع في قلبي موقعاً حسناً وقلت: هذا ما كنت ابحث عنه:
فقال الطالب وما صدر البيت يا سيدي؟
فقال الرجل:
ولو لطف أبي تراب الى ذرّة ينظر
فقال الطالب: ولكن الشعر لم يكن لي، كان لطفاً من سيدي ومولاي أميرالمؤمنين علّمنيه في الرؤيا.
فسجد الرجل الهندي الثري شكراً لله وانشد:
ولــو لطـــف أبي تــــراب الــــى ذرّة ينظــــر
سمت نحو السماء واضحت دارة الشمس«486»
هذه نظرة لطف لأميرالمؤمنين « اغنت فقيراً ورفعت مغموراً؛ فكيف بنظرة رب الارباب.. والارض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه؟!
الـهي ومـولاي أجـريت علي حكماً اتبعت فيه هـوى نفسي ولم احـترس فيه من
تزيين عدوّي، فغرّني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء، فتجاوزت بما جرى
عليّ من ذلك بعض حدودك وخالفت بعض أوامرك
الهي ومولاي اجريت علي حكماً
لقد زللت عن الطريق يا سيدي وحُدت عن المنهج الذي رسمته لي.. ونسيت يا الهي؛ العدوّ الذي حذرتني منه فاستغفلني واوقع بي وراح يضحك مني وهو يراني اتخبط في سيري بعيداً عن طريقك القويم.