مرتبة الرضا
عالية جدا على مرتبة الصبر بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة نسبة المعصية إلى الطاعة فإن المحبة يقتضي اللذة بالبلاء لأنه يحد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبة فيزيد قربه و أنسه و الصبر يقتضي كراهة البلاء و استصعابه حتى يوجب الصبر عليه و الكراهة تنافي الأنس فتبين بذلك أن المحبة و الصبر متنافيان و أيضا فإن الصبر إظهار التجلد و هو في مذهب المحبة من أشد المنكرات نكرا و أظهر علامات العداوة طرا كما قيل شعر
و يحسن إظهار التجلد للعدى و يقبح إلا العجز عند الأحبة
ص : 90
و من هنا قال أهل الحقيقة الصبر من أصعب المنازل على العامة و أوحشها في طريق المحبة و أنكرها في طريق التوحيد و إنما كان أصعب عند العامة لأن العامي لم يتدرب بالرياضة و لم يتحنك بالصبر على البلاء و لم يتعود بقمع النفس فلم يحتمل البلاء فلم يكن من أهل المحبة حتى يتلذذ بالبلاء فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء و هو في مقام النفس لم يحتمل البلاء و غلبه الجزع و صعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها و إنما كان أوحش المنازل في طريق المحبة لأن المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب و الالتذاذ بالبلاء لشهود المبتلى فيه و إيثار مراد المحبوب و الصبر يقتضي كراهة البلاء كما مر فيتنافيان و إنما كان أنكر في مقام التوحيد لأن الصابر يدعي قوة الثبات و دعوى الثبات و التجلد من مرغوبات النفس و التوحيد يقتضي فناء النفس فيكون أنكر لأن إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات بل الرضا مع عظم قدره و علو أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل
مسكن الفؤاد ص : 91
مسالكه لأن سلوكهم في القضاء في التوحيد بذواتهم و الرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى و الوقوف الصادق مع مراد الله تعالى و فناء الصفة قبل فناء الذات و قد تبين لك بذلك ما بين الصبر و الرضا عن المراتب البعيدة و المسالك الشديدة
فصل
للرضا ثلاث درجات مرتبة في القوة ترتبها في اللفظ الدرجة الأولى أن ينظر إلى موقع البلاء و العقل الذي يقتضي الرضا و يدرك موقعه و يحس بألمه و لكن يكون راضيا به بل راغبا فيه مريدا له بعقله و إن كان كارها له بطبعه طلبا لثواب الله تعالى عليه و مزيدا لزلفى لديه و الفوز بالجنة التي عرضها السماوات و الأرض و قد أعدت للمتقين و هذا القسم من الرضا هو رضا المتقين و مثاله مثال من يلتمس الفصد و الحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه و ما فيه صلاحه فإنه يدرك ألم ذلك الفعل إلا أنه راض به و راغب فيه و متقلد من الفصاد منه عظيمة بفعله و مثله من يسافر في طلب الربح فإنه يدرك مشقة السفر و لكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر و جعله راضيا به و مهما أصابته
ص : 92
بلية من الله تعالى و كان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به و رغب فيه و أحبه و شكر الله تعالى عليه الدرجة الثانية أن يدرك الألم كذلك و لكنه أحبه لكونه مراد محبوبة و رضاه فإن من غلب عليه الحب كان جميع مراده و هواه ما فيه رضا محبوبة و ذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حب الخلق بعضهم بعضا قد تواصفها المتواصفون في نظمهم و نثرهم و لا معنى له إلا ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر و ما هذا الجمال إلا جلد على لحم و دم مشحون بالأقذار و الأخباث بدايته من نطفة مذرة و نهايته جيفة قذرة و هو فيما بين ذلك يحمل العذرة و الناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة التي تغلط في ما ترى كثيرا فترى الصغير كبيرا و الكبير صغيرا و البعيد قريبا و القبيح جميلا فإذا تصور الإنسان استيلاء هذا الحب فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا ينتهي كماله عند المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط و لا يزيلها الموت بل يبقى بعد الموت حيا عند الله فرحا مسرورا برزق الله مستفيدا بالموت
ص : 93
مزيد تنبه و استكشاف و هذا أمر واضح من حيث الاعتبار و تشهد له من الآثار وردت من أحوال المحبين و أقوالهم يأتي بعضها إن شاء الله تعالى و هذه مرتبة المقربين الدرجة الثالثة أن يبطل إحساسه بالألم حتى يجري عليه المؤلم و لا يحس و يصيبه جراحة و لا يدرك ألمه و مثاله الرجل المحارب فإنه في حال غضبه أو حال خوفه قد يصيبه جراحة و هو لا يحس بها حتى إذا رأى الدم استدل به على الجراحة بل الذي يعدو في شغل مريب [قريب] قد تصيبه شوكة في قدمه و لا يحس بألمه لشغل قلبه بل الذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم بها فإن كان قلبه مشغولا بمهم من مهماته يفزع الحجام أو الحالق و هو لا يشعر به و كل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه و نظائر ذلك في هموم أهل الدنيا و اشتغالهم بها و إكبابهم عليها حتى لا يتألمون و لا يحسون بالجوع و العطش و التعب لذلك كثير مشاهد عيانا فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبة قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم لو لا عشقه ثم لا يدرك غمه و ألمه لفرط استيلاء
مسكن الفؤاد ص : 94
الحب على قلبه هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه و شغل القلب بالحب و العشق من أعظم الشواغل و إذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم و كما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبية و جلالها لا يقاس بها جلال فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش و يغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها أ ما تجدين الوجع فقالت إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه و كان بعضهم يعالج غيره من علة فنزلت به فلم يعالج نفسه فقيل له في ذلك فقال ضرب الحبيب لا يوجع
فصل في ذكر جماعة من السلف نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافا إلى ما تقدم
اعلم أن أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمن الرضا بالقضاء بخصوص موت الولد
مسكن الفؤاد ص : 95
و نحوه و لنذكر هنا أمورا عامة
لما اشتد البلاء على أيوب ع قالت امرأته أ لا تدعو ربك فيكشف ما بك فقال لها يا امرأة إني عشت في الملك و الرخاء سبعين سنة فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء لعلي كنت أديت شكر ما أنعم الله علي و أولى بي الصبر على ما أبلى
و روي أن يونس قال لجبرئيل ع دلني على أعبد أهل الأرض فدله على رجل قد قطع الجذام يديه و رجليه و ذهب ببصره و سمعه و هو يقول إلهي متعتني بهما ما شئت و سلبتني ما شئت و أبقيت لي فيك الأمل بأبر باب الوصول
و روي أن عيسى ع مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج و قد تناثر لحمه من الجذام و هو يقول الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به كثيرا من خلقه فقال له عيسى ع يا هذا و أي شيء من البلاء أراه مصروفا عنك فقال يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته فقال له صدقت هات يدك فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجها و أفضلهم
مسكن الفؤاد ص : 96
هيئة قد أذهب الله عنه ما كان به فصحب عيسى ع و تعبد معه
و قال بعضهم قصدت عبادان في بدايتي فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع و النمل يأكل لحمه فرفعت رأسه و وضعته في حجري و أنا أردد الكلام فلما أفاق قال من هذا الفضولي الذي يدخل بيني و بين ربي فوحقه لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا و قطعت رجل بعضهم من ركبته من آكلة خرجت بها فقال الحمد لله الذي أخذ مني واحدة و ترك ثلاثا و عزتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت و لئن كنت ابتليت لقد عافيت ثم لم يدع ورده تلك الليلة و قال بعضهم نلت من كل مقام حالا إلا الرضا بالقضاء فما لي منه إلا مشام الريح و على ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة و أدخلني النار كنت بذلك راضيا و قيل لبعض العارفين نلت غاية الرضا عنه فقال أما الغاية فلا و لكن مقام من الرضا قد نلته لو جعلني الله جسرا على جهنم تعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم لأحببت ذلك من حكمه و رضيت به من قسمته و هذا كلام من علم أن الحب به استغرق همة حتى منعه الإحساس بألم النار و
ص : 97
استيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه لكنه بعيد عن الأخطار [من الأحوال] الضعيفة في هذا الزمان و لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقويا و يظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء و كان عمران بن حصين رضي الله عنه استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم و لا يقعد و قد ثقب له في سريري موضع لقضاء الحاجة فدخل عليه أخوه العلا فجعل يبكي لما يرى من حاله فقال لم تبكي قال لأني أراك على هذه الحالة العظيمة قال لا تبك فإن ما أحبه الله تعالى أحبه ثم قال أحدثك شيئا لعل الله ينفعك به و اكتم علي حتى أموت أن الملائكة لتزورني فآنس بها و تسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة إذ هو سبب لهذه النعمة الجسيمة فمن شاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضيا به و قال بعضهم دخلنا على سويد بن شعبة فرأينا ثوبا ملقى فما ظننا أن تحته شيئا حتى كشف فقال امرأته أهلك فداؤك ما نطعمك و ما نسقيك فقال طالت الضجعة و ديرت الحراقيف و أصبحت نضوا لا أطعم طعاما و لا أشرب شرابا منذ كذا فذكر أياما و ما يسرني إني نقصت من هذا قلامة ظفر و روي عن بعضهم و كان قاسي المرض ستين سنة فلما اشتد
ص : 98
عليه حاله دخل عليه بنوه فقالوا أ تريد أن تموت حتى تستريح مما أنت فيه قال لا قالوا فما تريد قال ما لي إرادة أنا العبد و للسيد الإرادة في عبده و الحكم في أمره و قيل اشتد المرض بفتح الموصلي و أصابه مع مرضه الفقر و الجهد فقال إلهي و سيدي ابتليتني بالمرض و الفقر فهذا فعالك بالأنبياء و المرسلين فكيف لي أن أؤدي شكر ما أنعمت به علي
source : دار العرفان/ مسكن الفؤاد