عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

عندما يصحو الضمير

عندما يصحو الضمير

واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الإمام ، وجعل يتأمّل ، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الأموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ، فصمم على الالتحاق بالإمام الحسين عليه‌ السلام وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له :
« أمقاتل هذا الرجل ، .. ».
ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد :
« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .. ».
لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ :
« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا .. ».
واندفع ابن سعد قائلاً :
« لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك .. ».
ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الإمام عزم على الالتحاق بمعسكر الإمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له :
« والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، .. ».
وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً :
« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت .. ».
وألوى بعنان فرسه نحو الإمام (١) وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الإمام ، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور على خدّيه قائلاً :
« اللهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك ، وأولاد نبيّك ، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة .. ».
ونزل عن فرسه ، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الإمام ليمنحه التوبة قائلاً :
« جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا آله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة ، .. ».
واستبشر به الإمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له :
« نعم يتوب الله عليك ويغفر .. » (2).
وملأ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويتوب إلى الرشاد ، فأذن له الإمام في ذلك ، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته :
« يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر أدعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة ، حتى يأمن ، ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالأسير ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هو وأهله قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتفزعوا عمّا أنتم عليه ... » (3).
وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الأرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء ، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.
وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام ، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالإمام ، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الإمام ، وهو يصيح :
« اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى الحسين .. ».
واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للأمويين ، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.
وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام ، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها ، والتفت الإمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً :
« قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم .. ».
وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق ، وأن الجيش الأموي على ضلال ، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.
لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمام عليه‌ السلام مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الألباب.
وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الإمام عليه‌ السلام وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات.
وقد استشهد نصف أصحاب الإمام عليه‌ السلام في هذه الحملة (4).

المبارزة بين المعسكرين :

ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام عليه‌ السلام صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً :
« يا حمقى أتدرون من تقاتلون ، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر وقوماً مستميتين ، فلا يبرز لهم منكم أحد إلاّ قتلوه ، والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم .. ».
وحكت هذه الكلمات ما اتصف به السادة أصحاب الإمام الحسين من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوة الإرادة وانّهم أهل البصائر فلم يندفعوا إلى نصرة الإمام عليه‌ السلام إلاّ على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما انّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة.
لقد توفرت في أصحاب الإمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الإيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون : ان ابن سعد استصوب رأي ابن الحجاج فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم (5)
وشنّ عمرو بن الحجاج هجوماً عاماً على من تبقّى من أصحاب الإمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال كأشدّ ما يكون القتال عنفاً (6)
ول وقد استنجد عروة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً :
« ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة ».
وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى ، وقال :
« سبحان الله شيخ مضر ، وأهل المصر عامة ، تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري !!. ».
ولما سمع ذلك ابن سعد منه دعى الحصين بن نمير فبعث معه المجفَّفة وخمسمائة من الرماة ، فسددوا لأصحاب الحسين عليه‌ السلام السهام فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلاّ استبسالاً في القتال ، واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التأريخ ، وقد استمرّ حتى انتصف النهار (7).
المصادر :
1- تأريخ الطبري ٦ : ٢٤٤.
2- الكامل ٢ : ٢٨٨.
3- الكامل ٣ : ٢٢٩.
4- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٠٣.
5- أنساب الأشراف ٣ : ١٩٢.
6- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢١١.
7- تأريخ ابن الأثير ٣ : ٢٩١.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الصادق (عليه السلام) يشهر سيف العلم!
قرّاء القرآن و كيفية قراءته
منكروا المهدي من أهل السنة وعلة إنكارهم
مفاتيح الجنان(300_400)
حبيب بن مظاهرو حبه لأهل البيت
حديثٌ حول مصحف فاطمة (ع)
قال الحكيم و المراد بعترته هنا العلماء العاملون ...
الوصايا
تشبيه لطيف من صديق حقيقي‏
خلق الأئمة ( ع ) وشيعتهم من علِّيِّين :

 
user comment