عربي
Tuesday 16th of April 2024
0
نفر 0

لغة الحكومة المصرية في دواوينها

لا غرو إذا أفردنا للغة الحكومة المصرية بابًا خاصًّا لاختصاصها بألفاظ وتعبيرات لا مثيل لها في اللغة الفصحى، وفيها ما لا يمكن تطبيقه على قاعدة ولا الرجوع به إلى قياس. ففي مخاطبات الدواوين وصور الأوامر العالية من الألفاظ الغريبة والتراكيب الركيكة ما هو غريب في بابه، وقد بلغ ذروة الغرابة في أواسط القرن الماضي قبل نضج هذه النهضة.
وأصل الركاكة والغرابة في لغة الدواوين يرجع إلى عصر التدهور في زمن الأمراء والمماليك، وطبيعي أن اللغة تحيا بحياة أهلها وتموت بموتهم، وتزهو بزهوهم وتنحط بانحطاطهم، ففي عصر أولئك الأمراء بلغت مصر من التدهور في السياسة والإدارة والآداب والعلوم ما لم يبقَ بعده غاية، فلم ينقضِ القرن الثامن عشر حتى صارت لغة الكتابة أشبه شيء بلغة العامة، لركاكة عبارتها مع ما فيها من الألفاظ الأعجمية والعامية.
فدخل الفرنسيون مصر في أواخر القرن المذكور ولغة العلماء تكاد تكون عامية. وإليك أمثلة من كتاب نشره علماء مصر ومشايخها أثناء احتلال الفرنسيين، قالوا:نعرِّف أهل مصر من طرف الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية والعسكر الفرنساوية، بعد ما كانوا أصحابًا وأحبابًا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين، ونُهِبت بعض البيوت.
ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، سكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين.
ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة، ونهبت جميع الأموال، وقتلوا كامل أهل مصر. فعليكم ألا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرءون العواقب …
وقد ذكرنا مثالًا من كلام الجبرتي مؤرخ تلك الحوادث في كلامنا عن اللغة العربية في عصر التدهور.
ولما جاء الفرنسيون إلى مصر كان في جملة حملتهم جماعة من التراجمة ليتوسطوا بينهم وبين الأهالي والعلماء، ويترجموا لهم المنشورات والمراسلات ونحوها. والظاهر أنهم كانوا من غير أبناء اللغة العربية، فكانوا إذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب إفرنجي، وما لم يجدوا له لفظًا عربيًّا تركوه بلفظه الإفرنجي أو وضعوا له لفظًا عاميًّا.
فلما أفضت الولاية إلى محمد علي مؤسس العائلة الخديوية وأخذ في إنشاء الدواوين، لم يكن له غنًى عمن يترجم بين حكومته وحكومات دول أوروبا، فاستخدم التراجمة وفيهم جماعة من أهل المغرب وغيرهم واللغة لا تزال في انحطاطها وركاكتها، والذين يعرفون أساليبها ويحفظون ألفاظها قليلون جدًّا، وخاصة بين الذين استخدموهم في الدواوين للكتابة أو الترجمة.
وقد رأيت مثالًا من لغة المشايخ والعلماء وقد قضوا أعوامًا طوالًا في الأزهر، وقرءوا كتب العلم والفقه، فكيف بكتَّاب الدواوين والتراجمة؟!
ومما زاد أسباب الفساد في اللغة أن الحكومة بدأت في إنشاء الدواوين وترتيب مصالح الحكومة والقضاء وغيرها، قبل اهتمامها بتعليم الناس وتهذيبهم وترقية أفكارهم وإصلاح شأنهم، فدخل في العصر الأول لحكومة محمد علي كثير من الألفاظ والتراكيب العامية، ثم تنوعت وتكيَّفت على أسلوب خاص وأوضاع خاصة وألفاظ خاصة، وعُرِفت بلغة الدواوين.
فلما استنار الناس على أثر نشر الصحافة، ونبغ الكتَّاب والمنشئون في أواخر القرن الماضي؛ انتظم جماعة منهم في مناصب الحكومة الكتابية فنقحوا كثيرًا من تلك الغرائب، ولا يزالون عاملين على تنقيحها.
ومع ذلك فلا يزال فيها من الألفاظ المولَّدة والدخيلة وضروب التركيب ما هو بعيد عن لغة سائر الكتَّاب، حتى في معاني الألفاظ العربية المستعملة عند كليهما.
وقد ما تری كثيرًا من الألفاظ العربية وغير العربية. وقس عليه التراكيب والتعبيرات الخاصة، مثل إدخال «لم» على فعل الماضي كقولهم: «لم أتى» بدلًا من «لم يأت»، وصوغ الفعل المجهول من المصدر وفعل الصيرورة على نحو ما في اللغات الإفرنجية كقولهم: «صارت كتابته» بدلًا من «كُتِب».
وقد ولَّدوا صيغة خاصة للفعل الماضي تُركَّب من المصدر ولفظ «معرفة»، فيقولون: «كتب الكتاب بمعرفة فلان» بدلًا من قولنا: «فلان كتب الكتاب»، وربما ركبوا هذه العبارة مع التي قبلها فقالوا: «صارت كتابة الكتاب بمعرفة فلان.»
وقس على ذلك. ناهيك بركاكة التعبير وإن لم تخالف قواعد النحو أو الصرف مما يضيق عنه المقام، وقد أغضينا عنه لشهرته. على أن كتَّاب اللغة وعلماءها يعدون تلك الألفاظ وأمثالها من قبيل الاصطلاحات العامية واستعمالها خطأ، وقد أخذت الحكومة في تنقيحها بالتدريج كما تقدم.
الخلاصة
يتبين للقارئ مما ذكرناه عن أحوال اللغة العربية فيما توالى عليها من العصور والأدوار في أثناء نموها وارتقائها من زمن الجاهلية إلى هذا اليوم، أنها سارت في كل ذلك سير الكائنات الحية بالدثور والتجدد المعبَّر عنه بالنمو الحيوي، فقد تولدت في العصر الإسلامي ألفاظ وتراكيب لم تكن في العصر الجاهلي، وتولدت في العصور التالية ما لم يكن فيما قبلها.
وأخيرًا تولدت في نهضتنا الأخيرة من الألفاظ والتراكيب ما لم يكن معهودًا من قبل. فالوقوف في سبيل هذا النمو مخالف للنواميس الطبيعية، فضلًا عن أنه لا يجدي نفعًا.
فاللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، ولا بد من توالي الدثور والتولد فيها أراد أصحابها ذلك أو لم يريدوا، تتولد ألفاظ جديدة وتندثر ألفاظ قديمة على مقتضيات الأحوال لحكمة شملت سائر الموجودات.
وقد آن لنا أن نخلِّص أقلامنا من قيود الجاهلية ونخرجها من سجن البداوة، وإلا فلا نستطيع البقاء في هذا الوسط الجديد. فلا ينبغي لنا احتقار كل لفظ لم ينطق به أهل البادية منذ بضعة عشر قرنًا، لأن لغة البراري والخيام لا تصلح للمدن والقصور إلا إذا ألبسناها لباس المدن. فلا بأس من استعمال الألفاظ المولَّدة التي لا يقوم مقامها لفظ جاهلي لأن معناها لم يكن معروفًا في الجاهلية.
أو التي كان لها لفظ وتُرِك فأصبح غريبًا مهجورًا، فاستعمال اللفظ المولَّد خير من إحياء اللفظ الميت، واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميت القديم، وإذا عرض لنا تعبير أجنبي لم تستعمل العرب ما يقوم مقامه لا بأس من اقتباسه.
وفي اعتقادنا أن إطلاق سراح الأقلام على هذه الصورة يكشف لنا عن جماعة كبيرة من أرباب القرائح، يقعدهم عن الاشتغال بالأدب خوفهم من الوقوع في خطأ لغوي أو بياني يُؤاخَذون عليه، وليست فيهم شجاعة أدبية تحملهم على عدم المبالاة بالنقد إذا كان فيما يكتبونه فائدة، والخطأ اللغوي لا يقلِّل شيئًا من قدر الكتاب لأن الإحاطة بكل أوضاع اللغة وقواعدها وشواردها لا يتأتَّى إلا لقليلين.
على أننا لا نقول في هذا الانطلاق نحو ما يقوله الإفرنج في لغاتهم، لأن شأننا في لغتنا غير شئونهم في لغاتهم، فلا بد لنا مع هذا الإطلاق من الرجوع إلى القواعد العامة والروابط الأساسية فلا نفسد اللغة بألفاظ العامة وتراكيبهم، ولا نكثر من الدخيل حتى تصير لغتنا مثل اللغة التركية العثمانية، التي أصبحت لكثرة ما أدخلوه فيها من الألفاظ العربية والفارسية والإفرنجية لا مثيل لها في العالم إلا اللغة الهندستانية (الأوردية)، التي يكتب بها الهنود جرائدهم وكتبهم.
أما اللغة العثمانية فإذا عُدَّت ألفاظها باعتبار اللغات المؤلفة هي منها، كان نحو ٧٠ في المائة من الألفاظ العربية، و١٥ في المائة من الفارسية، و٥ في المائة من اللغات الإفرنجية، وعشرة في المائة فقط من الألفاظ التركية الأصلية. ويقال نحو ذلك في اللغة الأوردية وفي اللغة المالطية.
أما اللغة العربية فلا بد من المحافظة على سلامتها والاهتمام باستبقائها على بلاغتها وفصاحتها، وخاصة بعد أن أخذت تنهض إلى أرقى ما بلغت إليه في إبَّان شبابها، فلا يُستحسَن الاستكثار فيها من الدخيل والمولَّد وإنما يُؤخَذ منهما بقدر الحاجة، على أن نعدَّ ذلك الاقتباس نموًّا وارتقاءً لا فسادًا وانحطاطًا.
على أننا نعدُّ ما كتبناه في هذا الموضوع خواطر أبديناها وفتحنا بها باب البحث، وأما استيفاء الكلام في تاريخ اللغة وألفاظها وتراكيبها فلا يسعه إلا المجلدات الضخمة، فنتقدم إلى أئمة اللغة وكتَّابها وعلمائها أن يزيدونا من هذا الموضوع خدمةً لهذه النهضة .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام [الباقر (عليه السلام )] في كلمات علماء ...
ظلال من غزوة بدر الكبرى
مناظرة هشام مع أبي عبيدة المعتزلي
مواصلة التشيع في خراسان .
الشيعة في أفغانستان
التشيّع في شرق أفريقية
السلاجقة والتشيع .
حكومة العلويين في طبرستان .
حتمية القتل في القيام الحسيني
خروج مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة

 
user comment