عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

النبي الأعظم في المدينة

خرج الرسول الاکرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبا يوم الجمعة ، فادركته الصلاة في بني سالم بن عوف ، فصلاها عندهم ومعه مائة من المسلمين ، وبعد الصلاة دعا براحلته فركبها ، والتف حوله المسلمون وهم مدججون بالسلاح ، وكان لا يمر بحي من أحياء الانصار إلا تعلقوا به ، يقولون له : انزل على الرحب والسعة يا نبي الله ، إلى القوة والمنعة والثروة ، فيدعو لهم بالخير ويقول : دعوا الراحلة فإنها مأمورة ، وما زالت تسير به ، وكلما مرَّ بحيٍّ أخذوا بزمامها وألحوا على النزول بينهم وهو يرفض ذلك إلى أن انتهت إلى حيث مسجده الآن فبركت عنده.
فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فحط رحله وأدخله منزله ، فقال رسول الله المرء مع رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقة رسول الله وأدخلها داره.
قال زيد بن ثابت : وأول هديةٍ دخلت رسول الله في منزل ابي أيوب ، قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن ، فقلت : أرسلت بهذه القصعة أمي ، يا رسول الله ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): بارك الله فيك وفي أمك ، ودعا أصحابه فأكلوا.
ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة. وما كان من ليلةٍ من الليالي إلا وعلى باب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ، يتناوبون ذلك ، حتى فرغ رسول الله من بناء مسجده ومنازله ، وتحول عن منزل أبي أيوب ، وكان مقامه فيه سبعة أشهر.
واهتم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)بتوكيد الروابط بين المهاجرين والانصار ، وتأصيلها في نفوسهم على أساس التقوى والإيمان ، فآخى بين المهاجرين والأنصار ، وأطفأ بهديه وبراعته نار الحقد بين الأوس والخزرج ، ولم يكتف (صلی الله عليه وآله وسلم)بذلك ، بل حاول جاهداً تحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب من المسلمين والمشركين وأهل الكتاب من اليهود ، مخافة أن تثور بهم البغضاء والعصبيات وتعصف بهم الأحقاد فيصبح حينئذٍ بين خطرين ، خطر من داخل المدينة ، وخطر قريش ، وعندها يصاب هذا الدين الجديد بالنكسة ، لذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحكم الأمر فعقد معاهدةً بين المسلمين والفئات الأخرى من أهل المدينة ليحفظ وحدتها ويصون اهلها ويغلق الباب على المفسدين ، ولولا هذا التدبير الرائع ، لواجه صلوات الله عليه صعوبات ومشاق لا تقل في حجمها عن تلك التي واجهها من قريش في مكة.
والكلمة الأخيرة : فإن موقف الأنصار من الرسول والمهاجرين معه كان أشرف موقف يسجله تأريخ أمة ، نصروهم بعد أن خذلهم قومهم ، وقاسموهم آموالهم ، وآثروهم على انفسهم ووفروا لهم وسائل العمل حتى أصبح الكثير منهم في مصاف الأثرياء من أهل المدينة ، وقد أجمل الإِمام علي عليه‌السلام موقف الأنصار من المهاجرين بقوله مخاطباً مسلمي قريش :
« إن حب الأنصار إيمان ، وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم ، وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله الى المدينة ، وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار ، ثم قدمنا عليهم دارهم ، فقاسمونا الأموال ، وكفونا العمل ، فصرنا منهم بين بذل الغني وايثار الفقير ، ثم حاربنا الناس فوقوْنا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آيةً من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نِعَم فقال : ( والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم يُحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةًٍ مَّما أوتوا ويؤثرون على أنفُسِهمَ ولو كان بهم خَصَاصَة ومن يُوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) (١).
بين الرسول الأعظم والمقداد
في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال ـ هو وبعض المستضعفين ـ في مكة ، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانه حليف للأسود بن عبد يغوث ـ كما قدمنا ـ فإنه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك ، لذلك كان يترقب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والإلتحاق بركبه ، حتى كانت سرية حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص ، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنه يريد القتال معهم ، وهكذا إنحاز إلى سرية حمزة ورجع معه الى المدينة.
وكان نزوله في المدينة على رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)في ضيافته ، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة ، ومن الواضح أن وضع المسلمين الإقتصادي ـ في تلك الفترة ـ كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة ، بل يظهر أنهم كانوا يعانون الفقر المدقع ـ لولا مساعدة الأنصار لهم ـ فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين ، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم ، ورواحلهم ، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر ، أو تسعة ، في وضع إقتصادي مريح على الأقل ، سيما وأن النفقة ـ الصادر ـ اكثر من الوارد ، فبناء المسجد ، وبناء الدور ـ وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين ـ تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف.
وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة ، هجرة النبي ، بل توالت ، فكان على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)والمسلمين أن يستقبلوا ضيوفهم ، وأن يهيئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضرورية على الأقل.
فكان إذا هاجر بعض المسلمين ، وزّعهم رسول الله ، اثنان اثنان ، أو ثلاثة ثلاثة .. أو .. حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم.
والذي يظهر ، أن المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد ، وكان في عدد لا يستهان به ، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه ، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد ، قال :
لما نزلنا المدينة ، عشرنا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)عشرةً عشرةً في كل بيت ! قال : فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2).
إلا أن هذه الإقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة ، إذ يتخللها بعوثٌ وسرايا وغزوات ، قد يطول أمدها ، وعند العودة يتبدّل المكان ، سيّما إذا اخذنا بعين الإعتبار ما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلموه في النزول عليه وفي ضيافته.
يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد ، حيث قال : أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعُنا وأبصارُنا من الجهد (الجوع والتعب والمشقة) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس أحد منهم يقبلنا. » لا لبخل فيهم ، بل لأنهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء ! « فأتينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ! ».
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): إحتلبوا هذا اللبن بيننا.
قال: فكنا نحتلب ، فيشرب كل انسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)نصيبه. فيجيء (صلی الله عليه وآله وسلم)ليلاً فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان ، ثم يأتي المسجد فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب .
وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه (صلی الله عليه وآله وسلم)من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى ، وهي بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع ، فإنها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ أاو غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادئ مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإذعان والإنقياد ولوم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح ، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جاء في تتمة الرواية.
قال : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ ، وقد شربتُ نصيبي ـ من اللبن ـ فقال : محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة.
فأتيتها فشربتها ، فلما أن وغلت في بطني ، وعلمتُ أنه ليس إليها سبيل ، ندَّمني الشيطان ، فقال : ويحك ؟ ما صنعتَ ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده ، فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وآخرتك. !
وعليّ شملة ، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وأذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت.
قال : فجاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)فسلّم كما كان يُسلّم ، ثم أتى المسجد ، فصلى ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيءً ، فرفع رأسه الى السماء.
فقلت : الآن يدعو عليّ فأهلك ، فقال : « اللهم أطعم من أطعمني ، واسقِ من سقاني. » قال : فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة ، فانطلقت الى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فإذا هي حافلة (١) واذا هن حفل كلهن ، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)فقال :
أشربتم شرابكم الليلة ؟
قال : قلت : يا رسول الله ؟ اشرب.
فشرب ، ثم ناولني ، فقلت : يا رسول الله ، إشرب. فشرب ، ثم ناولني.
فلما عرفت أن النبي قد روي ، وأصبتُ دعوته ، ضحكتُ حتى القيت إلى الأرض.
قال : فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): إحد سوآتك يا مقداد.
فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا.
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): ما هذه إلا رحمةٌ من الله آفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها.
قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك
من أصابها من الناس (3).
هذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفة الروح ، بالإضافة إلى إستشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)فشربه ، ولاحظنا أن موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلائم مع عقولهم ونفوسهم ، وربما تلاحظ معي أن الرسول الكريم ـ كما يظهر من الحديث ـ تمنى لو أن المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب ، شراب ذلك اللبن المبارك.
وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول ، تتجلى فيه عظمة الإسلام ، ونبي الإسلام ، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق ، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب ، بل وغرس الروح الإنضباطية لدى المسلم.
فقد سأله ذات مرة : يا رسول الله ، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار ، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ؛ أفأقتله ـ يا رسول الله ـ بعد أن قالها ؟!
قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): لا تقتله.
قال : فقلت : يا رسول الله ، انه قطع يدي ! ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟
قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): لا تقتله. فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ! وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال. ! (4)
ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإسلام بالنفس البشرية إلى آعالي قمم الكرامة والإنسانية ، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم.
أي عمق هذا في تعزيز الروح الإنسانية ، وأي صيانةٍ لها ؟؟ هكذا الإسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته ، فكلمة صادقة ، كفيلة في أن تقلب الموازين وكلمة صادقة ، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها ، وليس للحقد في دنيا الإسلام مكان.
انه موقفٌ شواهد الحكمة فيه ، ومعه.
في سرية « نخلة »
ينقذ أسيراً ، فيسلم !
بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة ، أراد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أن يتتبع أخبار قريش ، ويتحسس تنقلاتها ، ويرصد تحركاتها في المنطقة ، فدعا عبدالله بن جحش ، وأمره أن يوافيه مع الصباح بكامل سلاحه.
قال : فوافيت الصبح وعلي سيفي ، وقوسي ، وجعبتي ، ومعي درقتي ، فصلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)الصبح بالناس ، ثم انصرف فوجدني قد سبقته واقفاً عند باب داره ومعي نفر من قريش.
فدعا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أبي بن كعب ، فدخل عليه ، فأمره أن يكتب كتاباً.
ثم دعاني (صلی الله عليه وآله وسلم)فأعطاني صحيفةً من أديم خولاني فقال : قد استعملتك على هؤلاء النفر ، فامضي حتى إذا سرت ليلتين ، فانشر كتابي ، ثم امضي لما فيه.
قلت : يا رسول الله ، أي ناحية أسير ؟ فقال : اسلك النجدّية ، تؤم رُكيّة ( بئر ).
فانطلق عبدالله ، حتى إذا صار ببئر ضمرة نشر الكتاب فإذا فيه : « سر حتى تأتي بطن نخلة على إسم الله وبركاته ، ولا تكرهنَّ أحداً من
أصحابك على المسير معك ، وامضِ لأمري فيمن تبعك حتى تأتي « بطن نخلة » فترصَّد بها عِيرَ قريش ».
فقرأ عبدالله الكتاب على أصحابه ، ثم قال : لست مستكرهاً منكم أحداً ، فمن كان يريد الشهادة ، فليمضِ لأمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ومن أراد الرجعة ، فمن الآن. !
فقالوا جميعاً : نحن سامعون ومطيعون لله ولرسوله ولك ، فسر على بركة الله حيث شئت.
فسار حتى جاء نخلة ، فوجد عيراً لقريش فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، ونوفل بن عبدالله وهم من بني مخزوم.
وكان ذلك اليوم مشتبها في أنه آخر يوم من رجب ، أو اول يوم من شعبان. ورجب من الأشهر الحرم ، فقال قائل : لا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم ، أم لا ؟
وقائل يقول : إن اخرتم عنهم هذا اليوم ، دخلو في الحرم ـ حرم مكة ـ وإن أصبتموهم ، ففي الشهر الحرام.
هذا ، مع أن النبي صلوات الله عليه لم يأمرهم بالقتال ، وانما أمرهم بمراقبة تحركاتهم.
وكان رأي واقد بن عبدالله ، وعكاشة بن محصن مقاتلتهم ، وأخيراً غلب رأيهم على رأي من سواهم ، فشجُعَ القوم ، فقاتلوهم.
فخرج واقد بن عبدالله يقدم القوم ، قد أنبض قوسه وفوّق بسهمه ـ وكان لا يخطئ رميته ـ فرمى عمرو بن الحضرمي بسهم ، فقتله.
وأسِرَ عثمان بن عبدالله ، وحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله.
واستاق المسلمون العِير ـ وكانت تحمل خمراً وزبيباً وجلوداً ـ إلى رسول الله فوقّفها ولم يأخذ منها شيئاً. وقال لهم : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام.
أما الأسيران ، فحبسهما عنده ، لأن اثنين من المسلمين كانا قد ضلا وتأخرا عن أصحابهم ، فظن الناس أن قريشاً قد حبستهما أو قتلتهما.
وأرسلت قريش إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)في فداء أصحابهم ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): لن نفديهما حتى يقدما صاحبانا.
وكان المقداد رضي‌الله‌عنه هو الذي قد أسر الحكم بن كيسان ، وأنقذه من القتل ، وذلك كما يحدثنا هو فيقول :
أراد أمير الجيش أن يضرب عنقه ، فقلت : دعه نقدم به على رسول الله.
فقدمنا به على رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)فجعل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)يدعوه إلى الإسلام ، فأطال رسول الله كلامه.
فقال عمر بن الخطاب : تكلم هذا يا رسول الله ؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد ! دعني اضرب عنقه ، ويقدم الى أمه الهاوية. ! فجعل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)لا يقبل على عمر.
قال الحكم : وما الإسلام ؟
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): تعبد الله وحده لا شريك له ، وتشهد أن محمداً عبد ورسوله.
قال : قد أسلمت.
فالتفت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)إلى أصحابه ، فقال : لو أطعتكم فيه آنفاً فقتلته. دخل النار.
قال عمر : فما هو إلا أن رأيته قد أسلم ، وأخذني ما تقدم وتأخر وقلت :
كيف أرد على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أمراً هو أعلم به مني ، ثم أقول : إنما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله.
قال عمر : فأسلم والله ، فحُسن إسلامه ، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً يوم بئر معونة ، ورسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)راضٍ عنه. (5)
في غزوة بدر الكبرى
وهي أول حرب خاضها المسلمون ضد عدوهم ، وكانت في ١٧ أو ١٩ رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وبها تمهدت قواعد الدين ، وأعز الله الإسلام ، وأذل جبابرة قريش بقتل زعمائهم. وبدر : اسم لبئر كانت لرجل اسمه بدر.
لم ينس المسلمون المواقف الآثمة التي وقفتها منهم قريش وباقي المشركين في « البلد الامين » مكة. حيث عذبت قسماً منهم أشد التعذيب ، وحاصرت محمداً ومن معه في « الشعب » قرابة ثلاث سنين ، بالإضافة الى مصادرة أموالهم ، مما ترك أسوأ الأثر في نفوسهم ، وجعلهم يتحينون الفرصة للثأر من جلاديهم.
وفي السنة الثانية للهجرة ، خرج أبو سفيان بن حرب بقافلة عظيمة للإتجار بها في بلاد الشام ، كانت قد إحتوت على ألف بعير ، وسبعة آلاف مثقال من الذهب حيث لم يبق قرشي ولا قرشية في مكة ممن يمتلك مالاً إلا وبعث به في تلك القافلة.
حين علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ندب أصحابه لإعتراضها موقظاً في أعينهم الثأر الذي نام طويلاً لكنه لم يعزم على أحد منهم بالخروج ، بل ترك لهم الخيار في ذلك ، فقال لهم :
« هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلَّ الله أن ينفَّلكموها .. »
وكان المسلمون قلّةً ضئيلة في قبال خصمهم ، ولم يكونوا ليخوضوا تجربة الحرب بعد ، ومع ذلك فقد خفَّ البعض منهم سِراعاً ، بينما تثاقل البعض الآخر ظناً منهم بأن النبي لا يلقى حرباً. فكان عدد المقاتلين من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة ، أو يزيدون قليلاً.
أما أبو سفيان ، فحين بلغه تأهب المسلمين للقائه دبَّ الذعر في قلبه ، وساوره قلق شديد على مصير القافلة ، حتى إذا وصل إلى مكان يقال له : « الروحاء » وجد فيه رجلاً إسمه : مجدي بن عمر ، فسأله عن أخبار محمد ؟ فقال : « ما رأيتُ أحداً انكره ، غير اني رأيت راكبين أناخا في هذا التل ، ثم استقيا في شنٍ لهما وانطلقا .. ».
أقبل أبو سفيان نحو التل وتناول بعراتٍ من فضلات الراحلتين ففتَّهما ، فإذا فيها النوى ، فقال : « هذه والله علائف يثرب ! وأدرك أن الرجلين من اصحاب محمد وانه قريب من الماء. ».
فرجع بالعير يضرب وجهها عن الطريق متجهاً بها نحو السحل ، تاركاً بدراً الى يساره إلى أن نجا بالقافلة بعد أن كاد أن يسقط في أيدي المسلمين.
ضمضم يدخل مكة مستصرخاً
وكان أبو سفيان قد انفذ ضمضم بن عمرو الغفاري الى مكة ، يستصرخ قريشاً كي يهبُّوا لنجدة القافلة من مصير محتم ، فدخل مكة وقد جدع أنف بعيره ، وأدار رحله وشق قميصه وصاح بأعلى صوته :
« يا معشر قريش ، اللطيمة .. اللطيمة .. * أموالكم مع أبي سفيان ، قد تعرَّض لها محمدٌ وأصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ».
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت ـ قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال ـ رؤياً أفزعتها فقصتها على أخيها العباس واستكتمه خبرها.
قالت : رأيت راكباً على بعير له وقف بالأبطح * ثم صرخ بأعلى صوته : أن أنفروا يا آل غُدر إلى مصارعكم في ثلاث ، قالت : فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد فمَثُلَ بعيره على الكعبة ، ثم صرخ مثلها ، ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ مثلها ، ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها ، فلما كانت بأسفل الوادي إرفَضّت فما بقي بيت من مكة إلا دخله فِلقةٌ منها !
لكن العباس قصّ هذه الرؤيا على صديقه الوليد بن عتبة ، وقصها الوليد على أبيه عتبة ، فشاعت في أحياء قريش.
وبينما العباس يطوف إذ لقيه أبو جهل ، فقال له : يا ابا الفضل أقبل إلينا.
قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه ، فقال لي : متى حدثت فيكم هذه النبيّةُ ؟ ! وذكر رؤيا عاتكة. ثم قال : أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم ، حتى تتنبأ نساؤكم ؟! فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يكن حقاً ؛ وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب .. ».
قال العباس : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركَهُ فرأيته في المسجد فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به ، فخرج نحو باب المسجد يشتد. فقلت : ما باله ، قاتله الله ، أكلُّ هذا فرقاً من أن اشتمه ؟!
وإذا هو قد سمع مالم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي ..
قال فشغلني عنه ، وشغله عني (6).
المصادر :
1- شرح النهج ٦ / ٣٣ ـ ٣٤.
2- الإستيعاب ( على هامش الإصابة ) ٣ / ٤٧٦.
3- صحيح مسلم ج ٣ ك ٣٦ ص ١٦٢٥ ـ ١٦٢٦ ح ١٧٤.
4- صحيح مسلم ج ١ ك ١ ص ٩٦ ح ١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧.
5- المغازي : ١٥.
6- الكامل ٢ / ١١٧ والسيرة النبوية ٢ / ١٨٢ ـ ١٨٣ والطبري ٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧١ بعبارات مختلفة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في الدعاء لأخيك بظهر الغيب
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
تربية أطفالنا في ظلّ الإسلام
الإيمان بالإمام المهدي (عج)
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
خصال الإمام
أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
ما هو اسم الحسين عليه السلام
سورة الناس

 
user comment