عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

الاسلام ودور العقل

الاسلام ودور العقل


الرؤیة الإسلامیة العامة لا تلغی دور العقل کما أنها تقر بدور الحس والتجربة فهی تزاوج بین المحسوسات والمعقولات وإن کانت تختلف مع التجریبیین والحسیین فی حدود الحس والتجربة کما تفترق عن الاتجاهات العقلیة فی مدى دور العقل وطبیعة البدیهیات التی یختزنها.
ومن جهة أخرى تؤمن المعرفة الإسلامیة بالوحی کمصدر إلهی فوق بشری یهدینا لمعرفة معصومة فی جذورها بشریة فی فهمها والتعاطی معها وهذا نبع یثری التراث الإسلامی ویمنحه دفعة تفتقدها کل الاتجاهات الوضعیة. ومن سنخ الوحی یقوم الإلهام کأداة معرفیة تستند إلى تزکیة النفس ومجاهدتها فی الإعراض عن دواعی الطبیعة ومتطلبات الهوى لبلوغ مراتب عالیة فی السیر والسلوک.
إن هذا التنوع فی أدوات المعرفة ووسائلها ساهم بفعالیة فی الثراء الفکری والمذهبی للتراث الإسلامی. ومن صمیم هذا التنوع المعرفی انبثقت کل العلوم الإسلامیة. فالحدیث کان تدویناً للنص النبوی الذی یمثّل التفسیر والتحلیل الوافی للوحی وهو الوجه الآخر للنص القرآنی التی تحوم حوله کل علوم القرآن فی احضان الحدیث نشأ الفقه وتکامل وتطور وکذا علم اصول الفقه الذی انبثق بدوره عن الفقه کمجال لدراسة القواعد العامة والمشترکة فی استنباط الأحکام الشرعیة.. الخ..
هذا التنوع فی مصادر المعرفة کان عاملا مهماً فی تعدد المناهج المعرفیة فی فکرنا الإسلامی والتی یرجعها البعض إلى ثلاثة اتجاهات أساسیة:
أ ـ المنهج الفلسفی بشقیه الإشراقی والمشائی.
ب ـ المنهج الکلامی.
ج ـ المنهج العرفانی.
ویضیف البعض منهجاً رابعاً معتبراً ایاه مکمّلا للثلاثة السابقة: مدرسة الحکمة المتعالیة التی توحد بین (القرآن والعرفان والبرهان) فی الوصول للمعرفة(1). فالمنهج الکلامی قسیم للمنهج الفلسفی المشائی والمنهج العرفانی وهذا النهج یستند إلى جملة من الضوابط التی حدّدها تراث هذا العلم فالکلام هو العلم الذی یبحث عن أصول دین الإسلام على النحو الذی یحدّد ما هو من أصول الدین وکیف وبأی دلیل یتم إثباتها مع الردود على الشکوک والشبهات التی تردّ علیه)(2). فالتعریف السابق یحدّد المهمات الأساسیة لعلم الکلام:
أولا: تحدید اصول الدین.
ثانیاً: اثباتها بالدلیل.
ثالثاً: دفع الشبهات التی تثار حولها.
ولما کان المتکلّم لا ینطلق فی بحثه مجرّداً عن أی معتقد أو خلفیة مسبقه بل هو یبدأ متسلّحاً بمعتقداته ومتبنیاته، اتسم النهج الکلامی بالنزعة الجدلیة التی تسعى لاثبات المعتقد الدینی بالدلیل مقابل الاتجاه الفلسفی الذی یتحرّک عبره الفیلسوف حراً من کل التزام مسبق بأیة فکرة أو مضمون (فالمتکلم بعکس الفیلسوف یعتبر نفسه متعهّداً بالدفاع عن حریم الإسلام والبحث الفلسفی بحث حرّ أی ان هدف الفیلسوف لیس معیّناً سلفاً بأن یدافع عن عقیدة ما ولکن هدف المتکلم محدد سابقاً)(3)، ولکن رغم ذلک تأثر علم الکلام وتفاعل مع الاتجاهات المعرفیة الأخرى فاکتسب البحث العقائدی أحیاناً نزعة عرفانیة (الغزالی مثلا) وفلسفیة أحیاناً أخرى (الخواجة الطوسی). وأوغلت بعض الاتجاهات الحرفیة فحاربت علم الکلام واعتبرته بدعة کالحشویة والسلفیة وبعض أئمة مذاهب الفقه.
إن موضوع علم الکلام وخطورته هما اللذان بوَّآه المکانة السامیة فی تاریخنا الثقافی. فان کان شرف العلم کما یقول القدماء بشرف المعلوم فلا علم فوق الکلام لأنه یتعلّق بالذات الالهیة المقدّسة وصفاتها وافعالها بالمعنى العام للفعل الذی یتضمّن النبوة والمعاد کتجلیات للفعل الإلهی.
وان کان جل العلوم الإسلامیة الأخرى تقوم على النص القرآنی والنبوی وکلمات المعصومین فان علم الکلام هو الذی یتکفّل اثبات هذا النص بإثبات أصل التوحید وأصل النبوة.
وفی زماننا الحاضر لم یفتقد (علم العقائد) أهمیته البتة. بل عززتها الحاجة الفطریة المتأججة لدى الإنسان لامتلاک رؤیة کونیة عامة تضیء له الدرب وتفتح أمامه الآفاق بالاجابة عن أهم الأسئلة الکبرى التی تقلقه من أین؟ وفی أین؟ وإلى أین؟
لقد تعمّقت هذه الحاجة عبر التاریخ... خاصة بعد احتکاک المسلمین مع الشعوب الأخرى ودیاناتها وبعدما انخرطوا فی الصراع المذهبی والدینی سواء داخلیاً أو مع المعتقدات الأخرى.
ولکن هلم بلغ علم الکلام من النضج ما یؤهّله لمواکبة تحدیات العصر ومتطلبات الزمان؟ وهل کان فی تاریخه دوماً فی مستوى هذه المسؤولیة التی تعهد بادائها والذب عنها؟
إن استقراء تاریخ هذا العلم یعکس مداً وجزراً، إقبالا وإدباراً... حَیْثُ لم یکن دائماً فی مستوى الحاجة الماسة للمسلمین فی الذبّ عن الدین والمبدأ والوحی والمعاد... لقد شهد تاریخ هذا العلم فترات ازدهار وتقدّم کما عرف انتکاسات موضعیة لم تفقده على (کل حال)... تکامله فی اتجاه عام تصاعدی...
وإن محاولة تحقیب هذا التاریخ تواجه صعوبات جمة لأن خصوصیات المذاهب والمدارس الکلامیة المختلفة تحول دون ان نرسم تاریخاً واحداً حیث اختلفت مراحل کل تیار عن بقیة المدارس واکتسبت کل مدرسة طابعاً وتکاملا یمیّزها عن المدارس الأخرى.
ولذلک سنحاول ان نحدّد الملامح الکبرى العامة لتاریخ هذا العلم والتی تشترک فیها تقریباً کلّ الاتجاهات الکلامیة من اشاعرة ومعتزلة وامامیة... الخ... وإذ نحن نحاول ان نُعطی منحى عاماً لکل المدارس الکلامیة لابدَّ أن نشیر أن ازدهار هذا العلم بتعدّد فرقه ومذاهبه کان مصاحباً لازدهار الإسلام (وانحط علم الکلام حین جمد فکر المسلمین... وحین اغلق باب الاجتهاد)(4)
وأهم المراحل هی:

أولا: مرحلة الجذور التأسیسیة الأولى
إن نزول الوحی الإلهی على قلب رسول الله(صلى الله علیه وآله) کان إیذاناً ببدء الرسالة الخاتمة وکذلک إیذاناً بتحول کبیر فی التصور العام للإنسان والحیاة والعالم. لقد رسمت الآیات الأولى من سورة العلق منهجاً جدیداً فی رؤیة الکون ورسالة الإنسان إنها تؤسس لقراءة مزدوجة قراءة فی عالم الطبیعة: والاستفادة مما تزخر به من قدرات وامکانات وقراءة باسم الله بمعنى منفتحة على ما یزخر به الغیب من مواهب وعطاءات... إنه التوازن الدقیق بین مستلزمات عالم الطبیعة وعالم الغیب .
إن النص القرآنی هو الذی أسّس لنشوء علم الکلام لأنه بما تضمّنه من حقائق عن علم الله وقدرته وحیاته عنن النبوة والمعاد والإمامة وجه الأنظار إلى مثل هذه القضایا إضافة إلى إلحاحه الشدید على وجوب النظر والفکر والتأمل وإقامة البرهان والجدل بالتی هی أحسن.. لقد احتلت هذه المطالب مساحة کثیفة فاق القرآن بها ما تضمنته الکتب السماویة الأخرى.
ولکن لما کان فی تاریخ کل دین یمرّ بمرحلة تتسم بالتسلیم والانقیاد القلبی بعیداً عن المناقشة والجدال فی تفاصیل العقیدة قبل بلوغ مرحلة التدقیق والتمحیص العقلیین والتخصص فی المناظرة والجدل، لم تبرز هذه المسائل فجر الرسالة فی نطاق علم خاص لأن العقائد زمن الرسالة ونزول القرآن کانت تواکب المسیرة والدعوة ویعیشها الناس حیاة وحرکة لا جدال وفرضیات.. من هنا لم تکن الحاجة ملحة لصیاغة نظریة لمسائل علم قائم بذاته.
فمرحلة التأسیس تقوم على اعتبار أن القرآن هو المنطلق لنشوء هذا العلم سواء من جهة المضمون أو من جهة المنهج. والزمخشری یقرّر هذه الحقیقة حیث یذهب أن الإغماض فی القرآن وتشابه بعض معانیه هو السرّ فی دفع المسلمین للبحث والنظر والتفکیر والاستنباط و(ولو کان کله (القرآن) محکماً لتعلق الناس بسهولة مأخذه ولأعرضوا عمّا یحتاجون فیه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلک لعطلوا الطریق الذی لا یتوصّل إلى معرفة الله وتوحیده إلاّ به. ولما فی المتشابه من الابتلاء والتمییز من الثابت على الحق والتزلزل فیه ولما فی تقادح العلماء واتباعهم القرائح فی استخراج معانیه وردّه إلى المحکم من الفوائد الجلیلة والعلوم الجمّة ونیل الدرجات عند الله)(5)
ثمّ إن القرآن لا یخلو من آیات بدیعة فی مجادلة المشرکین وأتباع الدیانات الأخرى ونقض مزاعمهم ممّا شجّع المسلمین أکثر فأکثر على بلورة هذا العلم وتأسیسه. إضافة إلى ما نقله الحدیث من محادثات الرسول(صلى الله علیه وآله) مع الیهود والنصارى والمشرکین واحتجاجاته علیهم. ولا یخفى على کل منصف الأثر البالغ للإمام علی(علیه السلام)یقول الشهید مطهری (رض) (إن البحث الاستدلالی بخصوص الأصول الإسلامیة قد نشأ من القرآن الکریم کما فی أحادیث الرسول(صلى الله علیه وآله) وخطب أمیر المؤمنین(علیه السلام) تعقیباً وتفسیراً وان اختلفت صیاغة وأسلوب هذه المباحث عن صیاغة وأسلوب المتکلمین فیما بعد)(6)

المرحلة الثانیة: مرحلة النشوء والنمو
تتجاهل الدراسات عادة مرحلة (الارهاصات)، (المرحلة السابقة)، وتؤرخ لعلم الکلام انطلاقاً من القرن الثانی للهجرة على ید بعض الرموز کمعبد الجهنی وغیلان الدمشقی اللذین دافعا عن اختیار الانسان مقابل اتجاهات ظهرت تنظر للجبر، ولکن التحقیق ان مسألة الجبر والاختیار التی شکّلت فی فترة ما محور المباحث الکلامیة هی ضمنا مسألة القضاء والقدر بمعنى أن القضیة من جهة ارتباطها بالانسان عنوانها الجبر والاختیار ومن جهة علاقتها بالله عزوجل تعنون بالقضاء والقدر وعن هذه المسألة تتفرع قضیة العدل وذلک لوضوح العلاقة بین الجبر والظلم والعدل والاختیار وینجر عنه بحث الحسن والقبح الذاتیین فالمستقلات العقلیة ومسألة تعلیل افعال المولى بالأغراض وشیئاً فشیئاً یتسلسل البحث إلى التوحید فی الأفعال ثم التوحید فی الصفات ثم تشعّبت بعد ذلک أکثر فأکثر المسائل الکلامیة(7)
ولقد ساهم فی هذا التطور اختلاط المسلمین نتیجة للفتوحات مع غیرهم من الأمم وارباب الملل والنحل وتعرفهم على معتقدات هؤلاء ومناظرتهم لأحبارهم وکهنتهم وممثّلی دیاناتهم.
وفی هذه المرحلة ظهرت الفرق الکلامیة کالاشعریة المرجئة والمعتزلة ویعتقد العدید من الباحثین ان هذه المرحلة شهدت أیضاً انتقال علم الکلام من الشفویة إلى (الکتابیة) فیذکرون کشاهد على ذلک رسالة محمد بن الحنفیة (ت 100هـ ) ورسالة الحسن البصری (ت 110هـ ) رسالة عمر بن عبدالعزیز (ت سنة 101هـ ).
ولقد سجّل ابن الندیم صاحب الفهرست بعض أصحاب أئمة أهل البیت(علیهم السلام) ممّن دونوا فی علم الکلام فذکر فی هذا المضمار علی بن إسماعیل بن میثم التمار وله کتاب الامامة وکتاب الاستحقاق کما صنّف هشام بن الحکم من اصحاب الامام الصادق(علیه السلام)کتاب الإمامة، کتاب الدلالة على حدوث الأشیاء، کتاب الردّ على الزنادقة.. الخ(8)
وهکذا تؤکّد لنا مرحلة الارهاصات وهذه المرحلة تأصل علم الکلام فی بیئته الإسلامیة وتتهاوى مزاعم بعض المستشرقین ممن حاولوا إرجاع علم الکلام إلى مرحلة ما بعد دخول الفلسفة الیونانیة أثر عصر الترجمة حیث شق علیهم نسبة هذا السبق الإبداعی للمسلمین والمکسب الحضاری فی تاریخهم. یقول السید محمد حسین الطباطبائی(قدس سره): (ولیس الأمر على ما ذکره بعضهم ان التکلم ظهر وانشعب فی الإسلام إلى الاعتزال والأشعریة بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، یدلّ على ذلک وجود معظم مسائلهم وآرائهم فی الرویات قبل ذلک)(9)
ولا ینقضی العجب من الشیخ المظفر على جلیل قدره وعظیم شأنه حِینَ یسقط فی نفس الشبهة التی أثارها هؤلاء المستشرقین فیقول (أما علم الکلام فلا یشبه الفلسفة لأنه إنما نشأ عند المسلمین لردّ عادیة الفلسفة المهاجمة خوفاً من أن تؤثر على العقیدة الإسلامیة أو ما یرونه عقیدة إسلامیة)(10) ویقول فی موضع آخر (لما هاجمت الفلسفة أفکار المسلمین وأوجبت اضطرابهم وتبلبلهم وقد کان الناس فی السابق یقدّسون الفلسفة ویتلقّون أفکارها کوحی منزل نشأ من ذلک حالة من الازدواجیة تدعو إلى التوفیق مهما کلّف الأمر بین ما جاء به الإسلام وما جاءت به الفلسفة ولو بتأویل ما جاء به الإسلام لصالح ما جاءت به الفلسفة فی الحالة التی یوجب فیها تعارض وتغایر بین الاثنین فنشأت مذاهب ومدارس فکریة مختلفة متناحرة نتج عنها فتن کثیرة سالت فیها دماء کثیرة)(11)

المرحلة الثالثة: مرحلة اکتمال النمو
هی التی أعقبت عصر الترجمة الذی بدأ مع المنصور العباسی (137 ـ 158هـ ) وبلغ ذروته مع المأمون العباسی (198 ـ 218هـ ). لقد استفاد المتکلمون من ترجمة الفلسفة وإشکالات الفلاسفة وآرائهم فقد (کانت العرب بعیدة عن التفکیر الفلسفی حتى شاهدت نموذجاً منها فی ترجمة بعض الکتب الفلسفة الیونانیة المترجمة إلى العربیة فی أوائل القرن الثانی للهجرة وبعدها ترجمت کتب متعددة فی أوائل القرن الثالث الهجری من الیونانیة والسریانیة وغیرها إلى العربیة وآنذاک اصبحت طریقة التفکیرالفلسفی فی متناول أیدی العموم)(12)
وساهمت حرکة الترجمة فی انتشار الفلسفة مما دفع التفکیر الدینی عند المسلمین لمحاولة التوفیق بین معطیات الفلسفة والمضامین الاعتقادیة کما دفعهم للذب عن العقیدة ودفع شبهات المنکرین وإشکالات المعاندین فکان عصراً ذهبیاً للکلام رغم کل ما شابه من صراعات خرجت عن حدّها المعقول من الجدال الفکری والمذهبی الصرف بل اتخذت أبعاداً سیاسیة خطیرة أضفت على الصراع حالة من التعصّب المقیت لا تتحمّل التعدد والتنوع وترنو لإقصاء الطرف الآخر ولو بقوة السلاح.

المرحلة الرابعة: مرحلة الجمود النسبی
بعد التطور والازدهار الذی شهده علم الکلام فی العصر السابق حلّ دور الجمود مع حلول القرن الرابع للهجرة حیث جمد الناس على الأسالیب الموروثة جموداً أخرجه عن کونه علماً. وانفصل بذلک علم الکلام عن التفکیر العمیق. وفی هذه الفترة مات الاعتزال ولکن ظهور أسماء لامعة فی القرن السابع للهجرة أعاد لعلم الکلام تألقه واشعاعه فکان الخواجة نصیر الدین الطوسی (ت 672هـ ) والعلامة الحسن بن یوسف بن المطهر (ت 726هـ ) اللذان أعادا التزواج بین الفلسفة وعلم الکلام بعدما انفصلا فی فترة الجمود ممّا أثر على الاتجاه الکلامی فی المذاهب الأخرى أیضاً، واضحت منهجیة الطوسی فی التجرید هی أساس البحوث الکلامیة. حتى أن عضد الدین الایحی وتلمیذه التفتزانی فی کتابیهما المواقف والمقاصد نظراً إلى التجرید یقول الشهید مطهری (وقد أبدع الخواجة نصیر الدین الطوسی الحکیم والفیلسوف المتبحر بکتابه (تجرید الاعتقاد) النص الکلامی الاکثر إحکاماً وکل متکلم أتى بعده شیعیاً کان أم سنیاً قد اعتمد هذا المتن. والخواجة نصیر الدین قرّب الکلام إلى حدّ کبیر من أسلوب الحکمة الجدلیة إلى أسلوب الحکمة البرهانیة وفی فترات لاحقة فقد الکلام أسلوبه الجدلی کلیاً وانضوى تحت لواء الحکمة البرهانیة.
والفلاسفة الشیعة المتأخرون عن الخواجة طرحوا المسائل الکلامیة الضروریة فی الفلسفة وبحثوا فیها وحللوها بالاسلوب والمنهج الفلسفی فوقفوا أکثر من المتکلمین الذین اعتمدوا الأسلوب القدیم فصدر المتألهین أو الحاج السبزواری مثلا ولو أنهما لم یعدّا فی زمرة المتکلمین فإن لهما أثراً حضوریاً یفوق أی أثر حضوری لأی متکلم)(13)

المرحلة الخامسة: مرحلة الجمود والتقلید
مع ضعف الأمة الإسلامیة وتخلیها عن روح البحث والإبداع إلى التقلید والاکتفاء بأتباع السلف واجترار تراثهم وإنشاء الشروح والحواشی على مؤلفات الأولین ومصنفاتهم کان لابدّ أن تتجمد الذهنیة الإسلامیة عموماً والکلامیة خصوصاً رغم الرفض القرآنی الحاسم لنزعة التقلید الأعمى والتحجّر على أمجاد الآباء.. (وإذا قیل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفینا علیه آباءنا أو لو کان آباؤهم لا یعقلون شیئاً ولا یهتدون)(14). وقوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتکم بأهدى مما وجدتم علیه آباؤکم قالوا إنا بما أرسلتم به کافرون)(15)
لقد امتدت هذه الحقبة قروناً طویلة استمرت إلى نهایة القرن التاسع عشر میلادی ومطلع القرن العشرین (لقد انقضت قرون عدیدة قبل أن یظهر فی الإسلام کتاب جدید فی علم الکلام ذلک ان المؤلفات فی هذا العلم ترجع إلى القرنین الثالث والرابع الهجری وما صنف بعد ذلک لم یکن إلاّ استئنافاً للتی وردت فی تلک المؤلفات السابقة)(16)

المرحلة السادسة: مرحلة الانبعاث وعودة الوعی
لقد اقترنت دعوات الإصلاح فی نهایة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرین بنداء لإحیاء الفکر الدینی فزعماء الاصلاح أدرکوا جیداً أن الجمود العقائدی والتقلید الفکری أحد الأسباب الأساسیة لتخلی الأمة عن ریادتها الحضاریة للعالم وتخلفها عن رکب الأمم الأخرى. ویمکن اعتبار الافغانی وعبده وأمثالهما من رواد هذه المرحلة لأنهم حاولوا نقد الفکر الدینی من الداخل وتحلیل أبعاد الأزمة. متجاوزین الأطر التقلیدیة الضیقة فی التعاطی مع العقیدة.
وجمال الدین الافغانی فی رسالته (الردّ على الدهریین) یقدم الدین فی عقائده الأساسیة والخصال التی کرّسها کسبیل وحید لحیاة اجتماعیة تستند إلى بناء وأساس مدنی محکم وأن إنکار الدین لا یقود المجتمع إلاّ إلى الانحلال والضعف ویستقرىء جملة من المجتمعات التی شهدت صعوداً فی مرحلة من حیاتها لکنها شهدت تقهقراً یرى الأفغانی أن سببه تأثر هذه المجتمعات بالأفکار الدهریة مما هدّ الأسس الاعتقادیة التی یبثها الدین فی المجتمع وهی الایمان بان (الانسان ملک على الأرض وأن الأمة التی ینتمی إلیها أشرف الأمم، وثالثاً: الایمان بالآخرة وأن هذه الدنیا لیست إلاّ لاستحصال کمالات إلهیة أرفع للروح إلى عالم أرفع وأوسع)(17)
وفی رسالة التوحید أبرز محمد عبده أبعاداً جدیدة للتوحید سواء على مستوى تطهیر العقول من الأوهام والخرافات أو ضمان حریة الانسان وتحریره من کل سلطة قائمة. کما أنه رأى فی التوحید حرباً على التقالید واقتلاعاً لاصول التقلید کما قرأ فیه معانی التوحید لصفوف الأمة ولمّ شملها مقابل الشرک الذین یختزن کل معانی التمزق والتفرقة الاجتماعیة کما أنه بحث فی الرسالة قضایا لها مساس بحیاة الفرد والناس فأشار إلى الحاجة إلى الدین ودَفَع شبهات فی المقام وتحدث عن إمکان الوحی ووقوعه ورسالة النبی محمد(صلى الله علیه وآله) وخصائصها وسرّ انتشارها السریع واجاب عن إشکالیة: النهضة الإسلامیة فی ضوء امتلاک کل مقومات النهوض المتمثلة فی الرسالة الإسلامیة(18)
من بین الأعمال التی اعتبرت رائدة فی هذه المرحلة الأخیرة إحیاء الفکر الدینی لمحمد إقبال الذی رفع فی مقدمته لواء التجدید حیث یقول (حاولت فی هذه المحاضرات.. بناء الفلسفة الدینیة الإسلامیة بناء جدیداً آخر یعنی الاعتبار المأخوذ فی فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانیة من تطور فی نواحیها المختلفة)(19)
لکن یبدو انه رکز على جانب واحد وهو ما یسمیه بالتجربة الدینیة والأبعاد النفسیة للتدین. ویکون العنوان (احیاء الفکر الدینی) شعاراً یفتقد إلى مضمون وبرنامج حقیقی شامل للتجدد.
رغم عمق هذه المحاولات وغیرها فی قراءة العقیدة الإسلامیة فی ضوء ثقافة العصر والمستوى الفکری للمرحلة ونتاجها العلمی والنفسی والفلسفی والخروج من طوق الجمود والتخلف الذی حاصر الفکر الإسلامی قروناً طویلة مکرساً فهم الآباء الذی اکتسب اطلاقاً زمانیاً، إلاّ أن هذه المحاولات بقیت قاصرة عن إحداث نقلة حقیقة فی منهج علم الکلام إلى أن ظهرت محاولات أخرى تعد حقاً خطوات جبارة على طریق النهضة والتجدید وبرز فی هذا الاتجاه أسماء لامعة لعبت دوراً بارزاً على هذا الصعید منها: السید محمد حسین الطباطبائی(قدس سره) والشهید مرتضى مطهری(قدس سره)کرائدین مهمین من رواد مرحلة الانبعاث وعودة الوعی.
وبین هؤلاء الرواد یبرز محمد باقر الصدر الذی یلتقی معهم فی هذا المضمار لکنه یمتاز بأنه أسس لنقلات منهجیة خطیرة خاصة على مستوى نظریة المعرفة حیث أنّه بنى لنفسه نظریة خاصة فی المعرفة (المذهب الذاتی) طبقها على العدید من المسائل فی علم الکلام فی بحوثه المتفرقة وهی ممیزة یفتقدها غیره من المجددین.
إن باقر الصدر رغم عدم امتلاکه أثراً متکاملا لتجدید المنهج الکلامی وطرق مسائله وفق منظوره الجدید لکن ما ترکه من نتاج عقائدی متناثر فی مؤلفاته المختلفة ومحاضراته العدیدة یشکل أرضیة صلبة لنقد المنهج القدیم وصیاغة النهج الجدید وقراءة لاصول الدین من وجهة نظر مبتکرة بلحاظ ثقافة العصر وحاجاته وأسئلته واستفساراته.
لقد تحولت لوحة أصول الدین فی منهج الصدر إلى نظریات متکاملة فی الثورة والتغییر الاجتماعی والقیادة والخلافة والحیاة..
المصادر :
1- مرتضى مطهری، الفلسفة، دار التیار الجدید، ص57.
2- مرتضى مطهری، الکلام والعرفان، الدار الإسلامیة، ص15.
3- مرتضى مطهری، الفلسفة (مصدر سابق)، ص55.
4- أحمد محمود صبحی، علم الکلام، مج1 ص38.
5- الزمخشری، الکشاف، دار الکتاب العربی، بیروت، ج1 ص338.
6- مرتضى مطهری، الکلام والعرفان، مصدر سابق، ص18.
7- انظر المصدر السابق.
8- انظر الفهرست لابن الندیم.
9- محمد حسین الطباطبائی، المیزان، مؤسسة الأعلمی 1997، ج5، ص284.
10- محمد رضا المظفر، الفلسفة الاسلامیة، ص76.
11- میزان الحکمة، ص77.
12- محمد حسین الطباطبائی، الشیعة فی الإسلام، دار التعارف، ص127.
13- مرتضى مطهری، الکلام والعرفان، ص52.
14- البقرة: 170.
15- الزخرف: 23 ـ 24.
16- فهمی جدعان، أسس التقدم عند مفکری الإسلام فی العالم العربی الحدیث، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر 1979 ص197.
17- جمال الدین الأفغانی، الردّ على الدهرین، ترجمة الامام محمد عبده، إسلام العالمیة، ص31.
18- محمد عبده، رسالة التوحید، دار احیاء التراث، بیروت.
19- محمد اقبال، تجدید الفکر الدینی فی الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التألیف والترجمة والنشر، مصر، 1955 ص2.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشيعة الإمامية
إبليس هل کان من الملائکه؟
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
اُسلوب التعامل مع المنافقين
شعر الإمام الحسين
معرفة الله تعالى أساس إنساني
لهفي عليك.. يا أبا عبدالله
القرآن و القواعد
التعامل مع القرآن بين الواقع والمفروض
علاج الامراض النفسیة بذکر الله

 
user comment