عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

مصير الامر بعد معاوية

مصير الامر بعد معاوية

لم يعهد في كتب معاوية الى الامام الحسن عليه السلام فيما كان يراسله به في سبيل التمهيد للصلح، كتاب يغفل تعيين المصير الذي كان يجب أن يرجع اليه الامر من بعد معاوية. وهو اذ يطلب من الامام الحسن عليه السلام في هذه الرسائل تسلم الامر محدوداً بحياته، يقول في بعضها: «ولك الامر من بعدي» ويقول في بعضها الآخر: «وأنت اولى الناس بها»(1).

وهكذا جاء النص في المعاهدة.

وهكذا فهم الناس الصلح، انتزاعاً للسلطة محدوداً بعمر معاويةالذي كان يكبر الامام الحسن عليه السلام زهاء ثلاثة عقود، فكان من المتوقع القريب أن يسبقه الى الموت، وأن يعود الحق الى نصابه، و الامام الحسن عليه السلام بعدُ في أوائل كهولته أو اواخر شبابه، لولا أن للخطط الجهنمية حساباً لا يخضع للمقاييس !!.
وظلت المادة الصريحة باستحقاق الامام الحسن عليه السلام الامر بعد معاوية، أبرز مواد المعاهدة في المجتمعات الاسلامية، وأكثرها ذيوعاً بين الناس، مدى عقد كامل من السنين. ثم طغت عليها الدعاوات العدوة، وأخذها حملة الاخبار الى مصانعهم الجديدة، فبدلوا من معالمها وغيروا من حقائقها، وصاغها بعضهم بقوله: «ليس لمعاوية أن يعهد الى أحد». وتلطف آخر بها من عنده فقال: «ويكون الامر بعده شورى بين المسلمين». - أما الصادقون فرووها على حقيقتها. وفات المؤرخين المحترفين، أن صرف الحقيقة عن واقعها في هذا النص، لن يجديهم في صرف الواقع عن حقيقته في مرحلة التطبيق، فلم يكن من المحتمل عادة، أن يتجاوز المسلمون - في شوراهم أو في غير شوراهم - ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، لو قدر له أن يكون حياً يوم يموت معاوية، وقدّر للمسلمين أن يختاروا الخليفة أحراراً، أو يتشاوروا أمرهم مختارين. فالروايتان - الصحيحة والمحرفة - بل الصور الثلاث المزعومة للرواية الواحدة، تتحد عملياً ما دام الامام الحسن عليه السلام حياً.
اذاً، فلماذا التهرب من أمانة التاريخ الا أن يكون تعاوناً رخيصاً مع السلطة القائمة على التمهيد لبيعة يزيد ؟!!.
وخيل للمؤرخ البارع الذي الغى التعيين الصريح، ونقل الامر الى الشورى، أنه أحسن اتخاذ الاسلوب للوضع والتحريف، وخفي عليه، أنه لم يزد فيما هدف اليه على صاحبه الذي الغاهما معاً، وذلك لان الشورى التي عناها لا تكون في انتخاب الخليفة، وانما تكون في الشؤون التي يديرها الخليفة أو رئيس المسلمين من أمورهم، وهكذا كان تشريعها الاول يوم
قال سبحانه «وشاورهم في الامر»، وعلى ذلك مدحهم بقوله تعالى «وامرهم شورى بينهم».
والآية في نفي الرئاسات التي جعلها الناس، أصرح منها في فرضها على الناس.
وليس فيما توهمه هذا المؤرخ أو توهمه آخرون، من الاستناد الى الكتاب في قضية الانتخاب الا الوهم - ولذلك فان عائشة لما أرادت الدعوة الى الشورى لم تنسبها الى اللّه عزّ وجل وانما نسبتها الى عمر بن الخطاب ولو وجدت في نسبتها الى اللّه سبيلاً لما تأخرت عنه لانه كان - اذ ذاك - أدعم لحجتها، فقالت يوم دخولها البصرة: «ومن الرأي ان تنظروا الى قتلة عثمان فيُقتلوا به، ثم يُردّ هذا الامر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب»(2)
واخيراً، فان القرائن القطعية الكثيرة، لا تقبل لهذا النص - موضوع البحث - الا الرواية الصريحة التي ذكرناها في المادة الثانية من صورة المعاهدة.
أما اولاً - فلما دلت عليه كتب معاوية الى الامام الحسن عليه السلام - كما أشير اليه قريباً -.
واما ثانياً - فلأنها الانسب بشروط يضعها الامام الحسن عليه السلام نفسه - كما نبهنا اليه في حديث (الصحيفة البيضاء).
واما ثالثاً - فلأن رواتها أكثر، وروايتها أشهر.
واما رابعاً - فلما أشرنا اليه من ذيوع المادة الثانية بنصها الصريح مدة حياة الامام الحسن عليه السلام ، حتى لقد كانت الشاهد في كثير من الخطب والاحاديث.
فنرى سليمان بن صرد يشير اليها فيما يعرضه الامام الحسن عليه السلام بعد الصلح. ونرى جارية بن قدامة يذكر لمعاوية حق الامام الحسن عليه السلام بالأمر بعده كقرار معروف. ونرى الاحنف بن قيس يرسله ارسال المسلّمات، في خطبته التي يرد بها على البيعة، ليزيد، وهو اذ ذاك يخاطب معاوية نفسه في حفل حاشد.
قال: «وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصاً. ولكنك أعطيت الامام الحسن عليه السلام من عهود اللّه ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك، فان تفِ، فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الامام الحسن عليه السلام خيولاً جياداً وأذرعاً شداداً وسيوفاً حداداً، ان تدنُ له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك..»(راجع صلح الحسن علی موقعنا)
الى كثير من الشواهد الاخرى التي يزهدنا في استيعابها رغبتنا في الاختصار.

بقية المواد

ولقد ترى - الى هنا - بأن دراستنا للنقاط البارزة في مواد المعاهدة لم تتجاوز المادتين - الاولى والثانية -.
وسبق في الكلام على حديث الصحيفة البيضاء التي أرسلها معاوية الى الامام الحسن عليه السلام ، ليكتب عليها ما يشاء من شروط، أن حديث هذه الصحيفة هو القرينة على ترجيح ما يكون من روايات المعاهدة أقرب الى صالح الامام الحسن عليه السلام منه الى صالح خصومه، وعلى هذا فالمادة الثالثة لا تعني الا الاطلاق في منع معاوية من شتم أمير المؤمنين علي عليه السلام، سواء حضر الامام الحسن عليه السلام أو غاب. ولا يؤخذ بما ألحقه بها بعض المؤرخين من اشتراط الامتناع عن السب بحال حضور الامام الحسن عليه السلام واستماعه(3)، ولا هو مما يتمشى مع روح الصلح اذا كان الفريقان في صدد صلح حقيقي وتفاهم دائم.
وأما المادة الرابعة، فلم تكن في حقيقتها الا استثناء متصلاً من الماديات التي اشترطت المعاهدة تسليمها لمعاوية. ومعنى ذلك أن المعاهدة سلمت لمعاوية ما أراد من الملك عدا المبالغ المنوّه عنها في هذه المادة، فاستأثر الامام الحسن عليه السلام بها لنفسه ولاخيه ولشيعته، وكانت من حقوقه التي جعل له اللّه تعالى التصرف فيها. واختار من الخراج الحلال - فيما استثنى - أبعده عن الشبهات من الوجهة الشرعية، وهو خراج دار ابجرد(4)
وأين هذا التفسير مما تطاول به بعضهم من التحامل الجريء والافتئات البذيء، على مقام الامام الحسن بن علي عليهما السلام، حين أساء فهم هذه المادة فخلق من هذه الاموال ثمناً للخلافة ومن الامام الحسن عليه السلام بائعاً ومن معاوية مشترياً. وان الاولى بهذا الفهم البليد - الذي هان عليه أن يتصور الثمن والمثمن كليهما من البائع، ثم يدعي مع ذلك وقوع البيع - ان لا يتعرض فيما يكتب للموضوعات التي تكشف لقارئه بلادته، فيسيء الى نفسه قبل أن يسيء الى موضوعه.

الاجتماع في الكوفة

وكان طبيعياً أن يتفق الفريقان بعد توقيعهما الصلح، على مكان يلتقيان فيه على سلام، ليكون اجتماعهما في مكان واحد تطبيقاً عملياً للصلح الذي يشهده التاريخ، وليعترف كل منهما على مسمع من الناس بما أعطى صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده. واختارا الكوفة، فأقفلا اليها، وأقفل معهما سيول من الناس غصت بهم العاصمة الكبرى، وهم - على الاكثر - أجناد الفريقين، تركوا معسكريهما وخفوا لليوم التاريخي الذي كتب على طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة. وللمرة الاولى تزخر عاصمة العراق بعشرات الالوف من أجناد الشام الحمر - مسلمين ومسيحيين -. ولهذين المعسكرين - الكوفة والشام - سوابقهما التي لا تعهد الهوادة في سلسلة العداوات التاريخية والوقائع الدامية، منذ حوادث سلمان الباهلي وحبيب بن مسلمة الفهري (على عهد عثمان بن عفان) والى يوم الصلح هذا. فما ظنك يومئذ بحال الجندي الكوفي الثابت على الوفاء، الذي قدّر له ان يلقي سلاحه تحت موجة طاغية من مكاء الجنود الشاميين وتصديتهم التي عجت بها أروقة المسجد الجامع، الذي كان أسس على تقوى من اللّه.
وكانت الفجيعة القاتلة للفئة المخلصة من أنصار أهل البيت عليهم السلام، وللذين جهلوا من هؤلاء الانصار أهداف الامام الحسن عليه السلام في الصلح، أو جهلوا حقيقة الوضع بدوافعه التي اقتادت الامام الحسن عليه السلام الى الصلح. أما الاكثرية الخائنة فقد مزقت الستار في يومها المنشود، وظهرت على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار، وشوهد بين جماهير الشاميين زُمَرٌ من الكوفيين يساهمونهم الفرح المغبون في مهرجاناتهم الباردة، وانتصارهم المغلوب !!.
ونودي في الناس الى المسجد الجامع، ليستمعوا هناك الى الخطيبين الموقعين على معاهدة الصلح.
وكان لابد لمعاوية أن يستبق الى المنبر، فسبق اليه وجلس عليه(5)، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها الا فقراتها البارزة فحسب.
منها :«أما بعد ذلكم، فانه لم تختلف أمة بعد نبيها، الا غلب باطلها حقها !!» - قال: «وانتبه معاوية لما وقع فيه. فقال: الا ما كان من هذه الامة، فان حقها غلب باطلها»(6)
ومنها :«يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ؟، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني اللّه ذلك وانتم كارهون !. ألا ان كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين !!. ولا يصلح الناس الا ثلاث: اخراج العطاء عند محله، واقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فان لم تغزوهم غزوكم».وروى أبو الفرج الاصفهاني عن حبيب بن أبي ثابت مسنداً، أنه ذكر في هذه الخطبة علياً فنال منه، ثم نال من الامام الحسن عليه السلام (7)
وزاد أبو اسحق السبيعي(8) فيما رواه من خطبة معاوية قوله: «الا وان كل شيء أعطيت الامام الحسن عليه السلام بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به»
قال أبو اسحق: «وكان واللّه غداراً»(9)
ثم تطلع الناس، فاذا هم بابن رسول اللّه الذي كان أشبههم به خلقاً وخلقاً وهيبة وسؤدداً، يخطو من ناحية محراب أبيه في المسجد العظيم ليصعد على منبره. وفي غوغاء الناس ولع بالفضول لا يصبر عن استقراء الدقائق من شؤون الكبراء، فذكروا لجلجة معاوية في خطبته، ورباطة الجأش الموفورة في الامام الحسن عليه السلام وقد استوى على أعواده، وأخذ يستعرض الجموع الزاخرة التي كانت تضغط المسجد الرحب على سعته، وكلها - اذ ذاك - أسماع مرهفة لا همَّ لها الا أن تعي ما يردّ به على معاوية، فيما خرج به عن موضوع الصلح، فنقض العهود وأهدر الدماء وتطاول على الاولياء. وكان الامام الحسن عليه السلام أسرع الناس بديهة بالقول، وأبرع الخطباء المفوَّهين على تلوين الموضوعات، فخطب في هذا الموقف الدقيق، خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيت عليهم السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ووعظ ونصح ودعا المسلمين - في أولها - الى المحبة والرضا والاجتماع، وذكّرهم - في أواسطها - مواقف أهله بل مواقف الانبياء، ثم ردّ على معاوية - في آخرها - دون أن يناله بسب أو شتم، ولكنه كان بأسلوبه البليغ، أوجع شاتم وسابّ.
قال: «الحمد للّه كلما حمده حامد، وأشهد ان لا اله الا اللّه كلما شهد له شاهد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، وائتمنه على الوحي، صلى اللّه عليه وآله وسلم. أما بعد، فواللّه اني لارجو أن اكون قد اصبحت بحمد الله ومنّه، وأنا انصح خلق اللّه لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وانَّ ما تكرهون في الجماعة، خير لكم مما تحبون في الفرقة، الا واني ناظر لكم خيراً من نظركم لانفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليَّ رأيي. غفر اللّه لي ولكم، وأرشدني واياكم لما فيه المحبة والرضا»(10)
ثم قال: «أيها الناس، ان اللّه هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وان لهذا الامر مدة، والدنيا دول. قال اللّه عزّ وجل لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل ان ادري أقريب ام بعيد ما توعدون. انه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين»(11)
ثم قال: «.. وان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه. ولم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قبض اللّه نبيه. فاللّه بيننا وبين من ظلمنا، وتوثب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء، ومنع أمَّنا ما جعل لها رسول اللّه. واقسم باللّه لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله، لاعطتهم السماء قطرها والارض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية.. فلما خرجت من معدنها، تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء، أنت وأصحابك. وقد قال رسول اللّه: ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، الا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنواسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم، واتبعوا السامريّ، وتركت هذه الامة أبي وبايعوا غيره وقد سمعوا رسول اللّه يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا النبوة، وقد رأوا رسول اللّه نصب أبي يوم غدير خم، وأمرهم ان يبلغ أمره الشاهدُ الغائب. وهرب رسول اللّه من قومه وهو يدعوهم الى اللّه، حتى دخل الغار، ولو أنه وجد أعواناً لما هرب، كف أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يغث. فجعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل اللّه النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد اعواناً. وكذلك أبي وأنا في سعة من اللّه، حين خذلتنا هذه الامة. وانما هي السنن والامثال يتبع بعضها بعضاً»(12)
ثم قال: «فوالذي بعث محمداً بالحق، لا ينتقص من حقنا - أهل البيت - أحد الا نقصه اللّه من عمله، ولا تكون علينا دولة الا وتكون لنا العاقبة، وَلتعلَمُنَّ نبأه بعد حين»(13)
ثم دار بوجهه الى معاوية ثانياً، ليرد عليه نيله من أبيه، فقال - وما أروع ما قال -:
«أيها الذاكر علياً ! أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة وجدتك فُتيلة - فلعن اللّه أخملنا ذكراً، والأمنا حسباً وشرنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً»
قال الراوي: «فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال الفضل بن الحسن: قال يحيي بن معين: وانا أقول آمين. قال ابو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل: وانا اقول آمين. ويقول علي بن الحسين الاصفهاني (أبو الفرج): آمين قال ابن أبي الحديد: قلت ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد : آمين»(14) ويقول العاملون في موقع راسخون والعالم کله آمين يا رب العالمين .
وهذه الخطبة هي الوحيدة في تاريخ الخطابات العالمية، التي حظيت بهتاف الاجيال على طول التاريخ. وكذلك قول الحق، فانه لا ينفك يعلو صعداً ولا يعلى عليه.
وتجهز الامام الحسن عليه السلام - بعد ذلك - للشخوص الى المدينة، وجاءه من سراة شيعته المسيب بن نجية الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه، فقال الامام الحسن عليه السلام: «الحمد للّه الغالب على أمره. لو أجمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا». وتكلم المسيب وعرض اخلاصه الصميم لاهل البيت (عليهم السلام). فقال له الامام الحسين عليه السلام «يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا» وقال الامام الحسن عليه السلام: «سمعت أبي يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: من أحب قوماً كان معهم». ثم عرض له المسيب وظبيان بالرجوع، فقال: «ليس الى ذلك سبيل». فلما كان من غد خرج من الكوفة، وشيعه الناس بالبكاء !! ولم تكن اقامته فيها بعد الصلح الا اياماً قلائل.فلما صار بدير هند(15) (الحيرة) نظر الى الكوفة وقال:
ولا عن قلىً فارقت دار معاشري***هم المانعون حوزتي وذماري(16)
اقول: وأي نفس ملائكية هذه التي لقيت من نشوز هذه الخاصرة ومن بوائقها ما لقيت، ثم هي تودعها بهذا البيت من الشعر، فلا تذكر من
تاريخها الطويل العريض، الا وفاء الاوفياء «المانعين الحوزة والذمار» وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن، والذين ثبتوا على طاعته يوم العسرة في مسكن، فكانوا اخوان الصدق وخيرة الانصار، على قلتهم.
ثم سار الموكب الفخم الذي كان يقل على رواحله، بقية اللّه في الارض، وتراث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الاسلام، وقد ضاقت بهم الكوفة أو ضاقوا بها، فيمموا شطر وطنهم الاول، ليمتنعوا هناك بجوار قبر جدهم الاعظم من مكاره الدهر الخوان.
وصبَّ اللّه على الكوفة بعد خروج آل محمد منها، الطاعون الجارف، فكان عقوبتها العاجلة على موقفها من هؤلاء البررة الميامين. وهرب منها واليها الاموي [المغيرة بن شعبة] خوف الطاعون، ثم عاد اليها فطعن به فمات(17)

الميدان الجديد

لعلك تتفق معي على أنَّ من أدق المقاييس التي توزن بها شخصيات الرجال فيما يضطربون فيه من محاولات، هو موقفهم من شروطهم التي يأخذونها على أنفسهم راغبين مختارين. وما من انسان معنيّ بانسانيته يعطي الشرط من نفسه، الا وانه ليعلم ما يستوبله في شخصيته وفي سمعته وفي ذمامه اذا هو حنث في شرطه أو رجع عن وعده أو نقض ميثاقه الذي واثق على الوفاء به. ومن السهل ان نتصور انساناً يستميت في سبيل الوفاء لقولٍ قاله أو عهدٍ أعطاه، لانه انما يموت ضحية خلق رفيع خسر به الحياة المحدودة فربح به الحياة التي لا حدَّ لها، وبنى - الى ذلك - لبنةً جديدة في صرح الانسانية المثالية التي لا تفتأ تتعاون على نشر الخير في المجموع.
أما ذلك الخائس بعهده الحانث بيمينه الكاذب بمواعيده، الذي بسم لصاحبه وهو يخادعه على شروطه، ثم عبس وتولّى وندم على ما أعطى، فليس من السهل أن نتصوره انساناً، ولكنه عدو الانسانية بما هدم من قواعدها وشلَّ من مقرراتها، وعدوّ نفسه بما عرضها للنقمة والاحتقار وسوء السمعة والحرمان من ثقة المجتمع. ولن ينفعه - بعد ذلك - أن يقول أو يقال عنه: ان الغاية تبرر الواسطة - فان هذا الاعتذار بذاته جريمةٌ كاملة لا يتسع لها صدر الغفران. وللغايات - على اختلافها - قيمتها الاعتبارية التي تواضع عليها الناس، فليكن لكل غايةٍ واسطتها التي تتناسب وغايتها في الاعتبار، ولن تكون الغاية شريفةً قطُّ الا اذا قامت على وسائط شريفةٍ أيضاً.
وكان من الخير العام، أن يتواضع المجموع منذ بناية المجتمع، على اعتبار «اليمين» و«العهد» ضماناً في الاخذ والردّ، وأن تتضافر الاديان السماوية كلها على أن العهد كان مسؤولاً...
ولعل من الافضل أن نستمع هنا الى ما عهد به أمير المؤمنين علي عليه السلام للاشتر النخعي في هذا الموضوع، قال:
«وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة، او البسته منك ذمةً فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالامانة، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت. فانه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمتك ولا تخيسنَّ بعهدك ولا تختِلَنَّ عدوَّك، فانه لا يجترئ على اللّه الا جاهل شقي. وقد جعل اللّه عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون الى منعته ويستفيضون الى جواره...».
أقول: واذا رجعنا بعد الالمام بهذه الحقائق الى موضوعنا، رأينا أن الشروط التي أخذها الامام الحسن عليه السلام على معاوية فيما تم بينهما من التعاهد على الصلح، كانت أكثر شروط عرفها التاريخ عهوداً مؤكدةً وأيماناً مغلَّظة، وكان معاوية هو الذي كتب نسختها الاخيرة بقلمه ووقعها بخاتمه.
ولم يكن بدعاً أن يترقب الرأي العام الاسلامي، يومها، الوفاء بها كما يجب لمثل هذه العهود والايمان، وكما هو الانسب بشخصيتين من هذا الطراز في الاسلام.
اما تلك المفاجأة الغريبة التي سبق اليها معاوية في خطابه على منبر الكوفة، ولما يمض على امضائه المعاهدة الا أيام ربما كانت لا تزيد على أسبوع واحد، فقد وقعت في المجتمع الاسلامي وقوع الصاعقة التي لا يسبقها انذار. فقال (على رواية المدائني) كما اشير اليه آنفاً: «وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين !»، وصرَّح (على رواية أبي اسحق السبيعي) بقوله: «ألا ان كل شيء أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به !» ثم شهد عليه الحصين بن المنذر الرقاشي قائلاً: «ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه، قتل حجراً واصحاب حجر، وبايع لابنه، وسمَّ الامام الحسن عليه السلام !!»(18)
وهكذا قدّر لهذا الرجل الواسع الممتلكات الضيق الملكات أن يعود بعد حنثه بأيمانه علناً، ونقضه لمواثيقه صراحةً، أبعد الناس عن ثقة الناس، وأقلهم وزناً في المقاييس المعنوية التي يتواضع عليها الناس، وكان جزاءً وفاقاً، أن ينكره أكثر المغرورين بما كان أنكر هو عهوده ومواثيقه، وأن يضعوه من أنفسهم في المحل الذي وضع هو شروطه من نفسه..
وما يدرينا، فلعلنا الآن عند مفترق الطريق بين الماضي المغلوب والمستقبل الغالب، الذي سينكشف عنه الصراع التاريخي بين الامام الحسن عليه السلام ومعاوية. ولعلنا الآن على أبواب الخطة الجبارة التي نزل الامام الحسن عليه السلام من طريقها الى الصلح، والتي فرضت ارادتها على معاوية أبعد ما يكون في المعروف من دهائه عن الفشل في الخطط التي تمسه في الصميم من مصالحه.
وكان الامام الحسن عليه السلام - كما نعلم - أعرف الناس بمعاوية وبحظه من الصدق والوفاء، وهو اذ يأخذ عليه الصيغ المغلّظة في الايمان والعهود، لا يقصد من ذلك الى التأكد من صدقه أو وفائه، ولكن ليكشف للاغبياء قابليات الرجل في دينه وفي ذمامه وفي شرفه بالقول.
وانها للمبادأة الاولى التي ابتدأ الامام الحسن عليه السلام زحفه منها الى ميدانه الثاني. ومن هنا وضعَ أول حجرٍ في البناء الجديد لقضية أهل البيت (عليهم السلام). ثم مشى موكب الزمان، فاذا بالخطوات الموّفقة تمشي وئيداً مع الزمان واذا بطلائع النجاح كفيالق الجيش التي تتلاحق تباعاً لتتعاون على الفتح. وان من الفتوح ما لا يعتمد في أداته على السلاح، ومنها ما يكون وسائله الاولية أشبه بالهزيمة، حتى ليخاله الناس تسليماً محضاً، ولكنه في منطق العقلاء، ظفر لامع وفتح مبين.
وكان من أبرز الخطوات التي وفقت اليها خطة الامام الحسن عليه السلام عن طريق الصلح، في سبيل التشهير بمعاوية حياً وميتاً، والنكاية ببني أمية اطلاقاً.
1- أنها ألَّبَت على معاوية في بداية عهده الاستقلالي عدداً ضخماً من الشخصيات البارزة في المملكة الاسلامية. فلعنه صراحةً بعضهم، وخبَثه آخر، وقرعه وجاهاً ثالث بل ثلاثة، وقاطعه رابع، وانكر عليه حتى مات غماً من فعاله كبير خامس، وقال فيه أحدهم: «وكان واللّه غداراً». (كان الذي لعنه صاحبه سمرة، والذي وصفه بأخبث الناس صديقه المغيرة، وكان الذي قرعه وجاهاً عائشة وآخرون، والذي قاطعه مالك بن هبيرة السكوني، والذي مات غماً من فعاله الربيع بن زياد الحارثي، وكان السادس أبا اسحق السبيعي، والسابع الحسن البصري. ويراجع عن ذلك شرح النهج وابن الاثير ومروج الذهب وغيرها). وقال الآخر :«اربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقةً». وقابله على مثل ذلك كثير من سادة وسيدات، لسنا الآن بصدد احصائهم، أو استيعاب كلماتهم.
2- وخلقت له معارضة الطبقات التي شملتها بنود المعاهدة، سواء في الامان المفروض فيها، أو في الحقوق المالية المنصوص عليها. فاذا بعالم عظيم من الناس أصبح ينظر الى معاوية نظره الى العدوّ الواتر في النفس والمال، بما نقضه من شروطهم، في نفوسهم وأموالهم.
3- وظن معاوية أنه سيجعل من نقضه معاهدة الامام الحسن عليه السلام وضعاً شكلياً لبيعة ابنه يزيد، يتغلب به على عنعنات الاسلام المقررة بين المسلمين في أمر البيعة وصلاحية الخلافة. ولكنه لم يلبث أن اصطدم بالواقع، فاذا بهذه البيعة الجديدة، مثار النقمة الاسلامية العامة التي اصبحت تتحسس منذ ترشيح يزيد للخلافة بنوايا بني أمية من الاسلام.
4- ثم كانت البوائق الدامية التي جهر بها معاوية بعد نقض الصلح، في قتله خيار المسلمين - من صحابة وتابعين - بغير ذنب، عوامل أخرى للتشهير به، ولتحطيم معنوياته المزعومة، تمشياً مع الخطة المكينة، التي أرادها الامام الحسن عليه السلام منذ قرر الاقدام على الصلح.
5- وقضية الامام الحسينعليه السلام في كربلاء سنة (61) هجري، كبرى قضايا الامام الحسن عليه السلام فيما مهد له من الزحف على عدوهما المشترك، وعدو أبيهما من قبل.ولا ننسى أنه قال له يوم وفاته: «ولا يوم كيومك أبا عبد اللّه».
وهذه الكلمة على اختزالها - المقصود - هي الرمز الوحيد الذي سُمع من الامام الحسن عليه السلام ، فيما يشير به الى الخطة المقنَّعة بالسر، التي اعتراها الغموض من ست جهاتها، منذ يوم الصلح الى يومنا هذا. وانك لتقرأ من هذه الكلمة لغة «القائد الاعلى» الذي يوزّع القواد لوقائعهم، ويوزع الايام لمناسباتها، ثم يميز أخاه ويوم أخيه فيقول: «ولا يوم كيومك..».
وكان من طبيعة الحال ان تبعث المناسبات الزمنية حلقات الخطة كلاً ليومها. وكان لابد لكل حلقة أن توقظ الاخرى، وأن تؤرث السابقة اللاحقة، وتوقد الاولى جذوة الثانية، وهكذا دواليك.
وحسبَ الامام الحسن عليه السلام لكل هذه الخطوات حسابها المناسب لها، منذ قاول معاوية على هذا الصلح المعلوم، ودرس - الى ذلك - نفسيات خصومه بما كانت تشرئب له من النقمة عليه وعلى أخيه وعلى شيعته وعلى أهدافه جميعاً. وكانت هذه المطالعات بنطاقها الواسع، الاساس الذي بنى عليه الامام الحسن عليه السلام خطواته المستقبلة فيما مهَّده لنفسه ولعدوه معاً.
وكان من طبيعة الحال، أن تلقي هذه الخطوات قيادتها الى الامام الحسين عليه السلام فيما لو حيل بين الامام الحسن عليه السلام وبين قيادتها بنفسه. وهذا هو ما أردناه في بداية هذا القول.
وهكذا كانت نهضة الامام الحسين عليه لاسلام الخالدة الخطوة الجبارة في خطة أخيه العبقري العظيم.
ولا تزال فاجعة كربلاء التي استوعبتها كل لغات الارض، اللطخة السوداء التي صبغت تاريخ أمية بالعار، مادام لكربلاء رسم، ولامية اسم.
6- ثم لم تزل الخطة البعيدة الاهداف، تستعرض في الفترات المتقاربة التاريخ، بعد واقعة الحسين عليه السلام بكربلاء، سلسلة أحداث قانية انبثقت من صميم الوضع الاموي المتشابه في أكثر ملامحه - بين عهد معاوية وابن عمه «الحمار»(19) وعادت الاموية في عرف المسلمين المعنيين باسلاميتهم الحكومة الجائرة المتغلبة بالظلم والاسراف وبالتحلل من كثير كثير من النواميس الدينية. واشتدت نقمة الناس عليها مع تمادي الايام، وكان أيّ علم يرفع لحرب بني أمية، لا يعدم الالوف وعشرات الالوف من المبايعين له على الموت.
اذاً، فلتكن عملية الصلح - على هذا - البذرة المستمدة من صميم مصلحة الاسلام ومصلحة أهل البيت عليهم السلام، ومن الوحي ايضاً. وليعد الحسن بن علي عليهما السلام بعد أقل من قرن، الغالب المنتصر على الخصوم المغلوبين، المنهزمين في التاريخ.
خطوات موفقات، وسياسة صاعدة لا تبلغها السياسات، في صمت وتواضع واتئاد، وتحت ظل اصلاح وتسليم وحقن دماء.
وهل العظمة شيء آخر غير هذا، ياترى ؟.
المصادر :
1- ابن ابي الحديد في شرح النهج ج 4 ص 13
2- دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ج 4 ص 535
3- ابن الاثير (ج 3 ص 162)
4- الكامل (ج 3 ص 162)
5- قال جابر بن سمرة: «ما رأيت رسول اللّه يخطب الا وهو قائم، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه» رواه الجزائري في آيات الاحكام (ص 75)، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس
6- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 192
7- شرح النهج ج 4 ص 16
8- هو عمرو بن عبد اللّه الهمداني التابعي، الذي يقال عنه أنه صلى اربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة، وكان يختم القرآن في كل ليلة، ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث.
9- شرح النهج ج 4 ص 16
10- الارشاد للشيخ المفيد ص 169
11- المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 - 62)، وابن كثير (ج 8 ص 18)، والطبري ج 6 ص93
12- البحار ج 10 ص 114
13- المسعودي هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 - 62
14- شرح النهج ج 4 ص 16
15- هند هذه، هي بنت النعمان بن المنذر، وكانت مترهبة في ديرها هذا بالحيرة
16- شرح النهج ج 4 ص 6
17- المسعودي على هامش ابن الاثير ج 6 ص 97
18- ابن ابي الحديد ج 4 ص 16 و6 و7
19- ابن الاثير ج 5 ص 159 و 160

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مذاهب اليهود
صيانة القرآن من التحريف‏
الشفاعة و من یخرج من النار
أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة
حق المسلم على المسلم
حال المجتمع فى عصر الإمام المهدى (عج)
الاعلام الرسالي في الثورة الحسينية
موقف الإسلام من المذهب الفردي أو الحر (أو المذهب ...
أساليب القرآن للحث علی التکافل
دعاء ابی حمزة الثمالی

 
user comment