عربي
Tuesday 23rd of April 2024
0
نفر 0

من وحي (النهج) في علم الفلسفة

من وحي (النهج) في علم الفلسفة



تمهيد :

الفلسفة  ببساطة هي : علم القواعد العقلية الاساسية وما يبنى عليها من افكار ونظريات في الحقائق الكلية لهذا الوجود ، فهي تختلف عن العلوم المتعارفة بكونها تنظر الى مبادىء الاشياء ومصادر وجودها والمعارف الكلية المرتبطة بها ، بينما تتخصص العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الكونية دراسة تفصيلية جزئية ، فعالم الفلك مثلا يدرس الفضاء دراسة تفصيلية تتعلق بمواده وعلاقة كواكبه بعضها ببعض وما الى ذلك ، في حين ان الفيلسوف يحاول ان يتعرف على مصادر وجود هذا الفضاء ومبادئه الاولية ....من اين انبثق ؟وما مصيره ؟ .
لذا فان علم الفلسفة ليس علما مبتدعا في اصوله ، وانما هو عملية دراسة وتنظيم للقدرات العقلية وما يختص عنها من نظريات وقوانين يحفل بها العقل البشري ، وعلى ضوء هذا الفهم فان كل انسان قادر على التفكير السليم يمكن ان نصفه بانه فيلسوف في درجة معينة .
فالمرء الذي يعرف انه من المستحيل ان يكون الشيء موجودا وغير موجود في المكان نفسه وفي الوقت نفسه ، والمرء الذي يعرف ان الحجر الطائر في الهواء لابد له من شيء قذفه .. هو في الواقع امر يحكم ي حقائق الاشياء الاصول والقواعد العقلية التي يعتمد عليها علم الفلسفة بشكل كامل .
ولقد كانت البحوث المتعلقة باثبات وجود الخالق لهذا الكون والتعرف على صفاته وعلاقته بهذا الخلق ، من البحوث التي تدخل في صميم علم الفلسفة ، باعتبار ان هذه المعارف تعتمد اساسا على العقل في دراستها واثباتها سلبا او ايجابا .
ولقد اخذ هذا النوع من العلوم – الدراسات العقلية المتعلقة بالخالق سبحانه – يتوسع ويتطور وينتشر ، حتى ابتلي بمن تكلم به ممن هو ليسس اهلا لذلك ، فنجم عن ذلك وضع النظريات الخاطئة والاحكام المنحرفة التي لاتمت الى التفكير السليم بصلة ، وانما تعتمد على شوائب الاوهام وتزيين الكلام ، فاخطا بسببها الكثير من الناس وتاهو في حيرة الضلال ، ووقع ضحية هذا الفكر الناقص العديد من المفكرين ، حتى من الذين يملكون صيتا ذائعا في المدارس العلمية والفلسفية .
ولقد برز في الامة الاسلامية علماء منها اخذوا على عاتقهم مسؤولية التصدي لهذا العلم المهم بغية ارساء قواعد الفلسفة السليمة ، والتي لابد من ان تتناغم مع العقائد الاسلامية الحقة ، فتأسست بذلك المدرسة الفلسفية الاسلامية [١] التي اخذت على عاتقها الرد على الشبهات التي اختلقتها الفاسفات المادية او السفسطائية [٢] ومن دار في فلكهما .
ولكن الكثير من علماء الفلسفة اخطأوا في العديد من القضايا الفلسفية وتخبطوا في محاذير عقلية ، مما اوقع الخلاف بينهم ، واثار السجال الفلسفي عندهم ، وخاصة في مجال دراسة الحقائق الوجودية التي وردت صريحا في الشريعة الاسلامية ، كمسائل الجبر والتفويض وحقيقة الكلام الالهي وغير ذلك .
وهنا يبرز كلام الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي ورد في الكتاب العظيم ( نهج البلاغة ) كحل شاف وعلاج ناجع يدفع كل غموض ووهم في هذا الموضوع الحساس ، على الرغم من ان امير المؤمنين عليه السلام قد اورد تلك الكلمات في عصر يعد متقدما نسبيا عن نشاط الحركة الفلسفية في الامة الاسلامية بعامة .
ان خطب وكلمات نهج البلاغة التي تطرح هذا اللون من الحقائق كانت هي البلسم الشافي لعقول وقلوب الناس على حد سواء ، وحق للذي يبتغي الحق في هذا المضمار ان لا يحيد بنظره عن اقوال امير المؤمنين عليه السلام في هذا العلم ، وعلى هذا الاساس يمكن ان نقول بان خطب نهج البلاغة في هذا الباب تعد من الكرامات الباهرة للامام علي عليه السلام القائمة الى يومنا هذا .

اولا : نظرة على اساس الفلسفة الالهية [٣]
نرى في هذا المقام ان من المستحسن ان يكون لدى القارىء الكريم جملة من المعارف الاساسية حول علم الفلسفة بشكل عام ، لان اصول المعارف العقلية التي يبني عليها الانسان القوانين والنظريات جميعا – سواء الفاسفية ام العلمية الطبيعية ام غير ذلك – امور ضرورية للمعرفة ، لانها الاساس لجميع البراهين العقلية ، على ان هذه المعارف من البديهية بمكان بحيث لا تحتاج معه الى برهنة واثبات لبساطتها ووضوحها ، وجميع الناس يتحدون في تطبيق هذه القواعد على حياتهم العملية على اختلاف معتقداتهم وتقاليدهم من حيث يشعرون او لا يشعرون .
القاعدة الاولى : ان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهي من اهم القواعد العقلية واشدها وضوحا ، وكمثال عليها نجد ان من المستحيل ان يكون الشيء موجودا وغير موجود في الوقت نفسه وفي المكان نفسه ، او ان الجسم حار وبارد في اللحظة عينها ، او ان الانسان قائم وقاعد في ذات المكان وفي ذات الوقت وهكذا .
القاعدة الثانية : لابد لكل حادث من محدث ، فالحجر الذي نراه طائرا في الهواء لابد ان نحكم – بداهة – بان له من قذفه ، وانه من المستحيل ان يكون قد انقذف من تلقاء نفسه دون مؤثر ، ويمكن ان يدخل في هذه القاعدة عنوانا العلة والمعلول في علم الفلسفة ، فالعلة هي السبب لوقوع الحدث ، والمعلول هو الامر الحادث ، وانه لا بد لكل معلول من علة .
القاعدة الثالثة : استحالة التسلسل اللانهائي في الحوادث ، وان سلسلة الحوادث لابد لها من نهاية ، وكمثال على ذلك : لو فرضنا ان جيشا اراد غزو بلاد ما ، وهذا الغزو لن يقع الا بامر يصدره قائد الجيش ، وهذا القائد غير مخول باصدار الامر الا بامر ياتيه من القائد الاعلى منه رتبة ، والاعلى منه ينتظر امر القائد الاعلى منه رتبة ايضا ، ولو استمر الامر هكذا دون نهاية ، فلن يصدر الامر بالغزو اطلاقا ، الا اذا قطعت السلسلة بقائد اعلى يبادر بالامر من عنده دون ان ينتظر الاوامر ممن هو اعلى منه ، ويمكن ان يدخل في هذه القاعدة حقيقة استحالة الدور ، ومثال ذلك ما لو فرضنا اثنين من المتسابقين واقفين على خط بداية السباق ، وكل منهما قد اشترط على نفسه ان لا ينطلق من خط البداية الا بعد ان ينطلق صاحبه قبله ، فهل من الممكن ان يبدأ السباق بينهما ؟ وقد وقع الدور بينهما في شرط بداية السباق .
وعلى ضوء هذه المعارف البديهية التي تعد من ركائز التفكير البشري في المجالات كلها ، يحكم العقل ( بضرورة وجود ) خالق لهذا الكون الذي يتكون من مجموعة كبيرة من الحوادث التي (من الممكن ان تقع ) [٤] ، وعلى هذا صنفت الفلسفة الوجود الفعلي الى نوعين رئيسين هما : ( الواجب الوجود ) وهو الله تعالى ، و( الممكن الوجود) وهو الكون المخلوق له [٥] .
فالحوادث التي تقع في هذا الكون لابد لها من محدث وفق القاعدة الثانية ، والمحدث لها ان كان حادثا ايضا ( او معلولا لغير ) فلا بد له من محدث اعلى منه على القاعدة نفسها ، واذا استمرت السلسلة على هذا المنوال – اي معلول وعلة معلولة لغيرها – الى ما لا نهاية فهذا محال عقلا وفق القاعدة الثالثة ، ولابد من نهاية السلسلة الى وجود غير حادث ولا معلول لغيره ، وبالتالي فهو لا يحمل صفات الحوادث والمعلولات ، وانما هو العلة التي لا علة لها – لا تحتاج الى غيرها – وهو الله سبحانه وتعالى .

ثانيا : تميز (النهج) في العلوم العقلية
ان الحقائق الفلسفية [٦] في اقوال الامام عليه السلام تمتاز عن سائر الحقائق الواردة في علم الفلسفة من نواح عدة ، نذكر منها ثلاث اساسية هي :
اولا : الصواب في الافكار المطروحة في هذا المجال على طول الخط وتطابقها مع الفطرة الانسانية بشكل تام ، حيث لا نجد مفردة من المفردات العقلية الواردة في نهج البلاغة تتعارض مع اصل فكري او مع الافكار الاخرى المرتبطة بها او القريبة منها ، وانما نجد ان المفاهيم العقلية الواردة في كلامه عليه السلام يصدق بعضها بعضا ويدعم بعضها البعض الاخر وتسير على الصراط المستقيم ، مع العلم بان هذه الكلمات جاءت مبثوثة في خطب متعددة قالها عليه السلام في مناسبات مختلفة واوقات متباعدة من الزمن .
ثانيا : في مضمار عرض المعلومات الفلسفية فان كلام الامام عليه السلام يتجه في اتجاهين رئيسين ، الاول يتمثل في تقرير الحقائق العقلية ، وهذه التقريرات – بالطريقة التي طرحت فيها – تهدي التفكير الى الصراط المستقيم وتقومه للوصول الى الحقيقة المرجوة دون لبس ، ام الاتجاه الثاني فيتمثل في عرض الحقائق الالهية مع ادلتها العقلية المتينة والكاملة .
ثالثا : ان بيان امير المؤمنين عليه السلام للمعلومات العقلية جاء من خلال كلام فصيح عالي البلاغة ، بحيث انه لا يخاطب فيه العقول فحسب ، وانما يخاطب الوجدان ايضا ، اذ ان كلماته القدسية تطرق القلوب قبل الاذهان وتناغم الفطرة قبل المدارك العقلية – الفلسفية – ولا يخفى ما لهذا الاسلوب الراقي من تاثير في المتلقي لبلوغ المطلوب .
ان الغاية الاساسية من بيان الحقائق العقلية هي رفد الايمان بالله تعالى وتوسيع المعرفة بصفاته عز وجل ، ورد الشبهات التي ترد على هذا الاصل الاسلامي المهم ، وهذه الغاية لا تتحقق باثبات الحقائق للعقل فقط دون ان يكون لها تاثير على القلب ، لان موطن الايمان الذي يتجذر فيه هو القلب ، وتراكم المعارف العلمية في العقل وحده لا يفي بالغرض ، بل ربما كان الحرص على تلقي المعارف العقلية مع اهمال الجانب الروحي نتائج عكسية ، حيث تشكل تلك العلوم حجبا كبيرة تمنع الانسان من بلوغ الغاية المطلوبة – وهو الايمان القلبي – لذلك نجد ان الكثير من المسلمين الذين خاضوا لجج العلوم العقلية واهملوا الجانب القلبي ، لم يستفيدوا من الفلسفة الا مزيدا من الشكوك في اصول عقائدهم وتفاقم الاوهام في عرى ايمانهم .

ثالثا : نبذ من كلامه عليه السلام في الالهيات
في خطبة لامير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة ، قال : ( ما وحده من كيفه ولا حقيقته من مثله ولا اياه عنى من شبهه ولا صمده من اشار اليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لا باضطراب الة ، مقدر لا يجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الاوقات ولاتردفه الادوات ، سبق الاوقات كونه والعدم وجوده والابتداء ازله ، بتشعيره المشاعر عرف ان لا مشعر له ، وبمضادته بين الامور عرف ان لا ضد له وبمقاربته بين الاشياء عرف ان لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها مقارن بين متبايناتها مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها .
لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعد ، وانما تحد الادوات انفسها ، وتشير الالات الى نظائرها ، منعتها (منذ) القدمية وحمتها (قد) الازلية وجنبتها (لولا) التكملة ، بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع عن نظر العيون .
ولا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو اجراه ، ويعود فيه ماهو ابداه ، ويحدث فيه ماهو احدثه ، اذا لتفاوتت ذاته ولتجزأ كنهه ولامتنع من الازل معناه ، ولكان له وراء اذ وجد له امام ، ولالتمس التمام اذ لزمه النقصان ، واذا لقامت اية المصنوع فيه ، ولتحول دليلا بعد ان كان مدلولا عليه ) [٧] .
في المقطع الاول من هذه الخطبة المباركة الى قوله : (مفرق بين متدانياتها) يقرر عليه السلام المعرف المتعلقة بصفات الله سبحانه وبافعاله تقريرا ، فمثلا في قوله : ( كل معروف بنفسه مصنوع) يطلق عليه السلام قاعدة فلسفية عامة مؤداها : ان كل شيء اذا عرف بنفسه ولم يعرف باثاره فهو مخلوق ، لانه لا يمكن للشيء المعروف بنفسه الا ان يكون محدودا تحيط به المعرفة وتشخصه ، والمحدود دائما يفتقر الى غيره [٨] وبالتالي فهو ليس بخالق وانما مخلوق ( مصنوع) .
فان قيل : ان بعض المخلوقات لا تعرف بنفسها وانما تعرف باثارها – كالجاذبية مثلا   [٩] – قلنا ان الامام عليه السلام يستدرك هذا النوع من المخلوقات بقوله مباشرة : ( وكل قائم في سواه معلول ) اذ ان الجاذبية وما شابهها من الاعراض وان كانت لاتعرف بذاتها ولكنها تعتمد في وجودها على غيرها – اذ لولا وجود الارض لم تكن هنالك جاذبية ارضية مثلا – وهذا واضح فيه ان هذا الموجود غير قائم بذاته ، وانما هو قائم بغيره ( قائم في سواه ) وبالتالي فهو مخلوق (معلول) .
ومن خلال هاتين الحقيقتين العقليتين ، نعرف ان الباري عزو وجل منزه عن ان يعرف من خلال معرفة كنه ذاته ، وانه تعالى قائم بذاته مستغن عمن سواه ، وربما كانت هاتان القاعدتان واردتين كأدلة على ما تقدم من قوله : ( ما وحده من كيفه – الى قوله – ولا صمده من اشار اليه وتوهمه) .
ام في المقطع الثاني من هذه الخطبة الجليلة ، فان الامام عليه السلام يطرح فيه الحقائق الالهية مع ادلتها العقلية بشكل صريح ، فمثلا في قوله عليه السلام : ( لا يشمل بحد ولا يحسب بعد وانما تحد الادوات انفسها وتشير الالات الى نظائرها ، منعتها منذ القدمية وحمتها قد الازلية وجنبتها لولا التكملة ، بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع عن نظر العيون ) ففي هذا المقطع ينزه الله تعالى عن الحدود والاعداد ويقيم الدليل على ذلك ، فالمحدود لا بد ان يكون من الاجسام ، لان الاجسام بطبيعتها تحد الاجسام الاخرى وتتميز عنها ( وانما تحد الادوات انفسها) ، والجسمية محال على الذات الالهية .
اما في نفي شمول الذات الالهية بالعدد ، فانه عليه السلام يشير الى ان الله سبحانه لايمكن ان يعد ضمن الموجودات المخلوقة في هذا الكون ، لانه لو عد ضمنها لصار مماثلا لها ومقرونا بها ، ومماثلته للاجسام يستلزم الجسمية لا محالة ، وعندئذ تتمكن الالات من ان تشير اليه وتعده ( وتشير الالات [١٠] الى نظائرها ) ،وهذا محال على الباري عز وجل ايضا .
وكل من الادوات والالات [١١] التي سبق ذكرها لا يمكن ان تتصف بصفات الخالق سبحانه وتعالى ، وبالتالي لا يمكن ان يعد الله من جنسها ، وصفات الخالق الرئيسية هي : القدم والازل والكمال الذاتي ، وجميع الادوات والالات تفتقد – ببديهة العقل – لهذه الصفات الثلاث ، وتجري هذه البديهة على اللسان بقولنا في صفتها :
١- ان هذه الادوات والالات وجدت منذ كذا ،وهذا القول صريح في امتناعها عن صفة القدم ( منعتها – منذ – القدمية ) .
٢- انها قد كانت بعد ان لم تكن وهو خلاف الازلية ( وحمتها – قد – الازلية ) .
٣- انها لولا الاسباب التي تقوم وجودها والتي لا يمكن ان تستغني عنها لكانت كاملة قائمة بذاتها ( وجنبتها – لولا – التكملة ) .
ثم ان الامام عليه السلام يبين ان الله سبحانه بمثل هذه الادوات تجلى للعقول من خلال ما تطلع عليه من اثار الربوبية في هذا الخلق الواسع ، وفي الوقت نفسه فان الله سبحانه بها امتنع عن نظر العيون ، اي انه ليس ممتنعا عنها بحيلة منه ، وانما من شانها – باعتبارها مخلوقة – لا يمكن لها ان تحيط معرفة به ، لان المحدود لا يمكن ان يحيط معرفة باللامحدود ، والمادة لا ترى الا ما يشاكلها من الوجود .
اما في قوله : ( ولا يجري عليه السكون والحركة ...) [١٢] فانه عليه السلام ينفي عن الذات الالهية السكون والحركة اللذين هما من مظاهر الخلق الواضحة ، ويستخدم في اثبات هذه الحقيقة طريقة من اروع طرق تنزيه الخالق عن هاتين الظاهرتين معا [١٣] .
ان اجراء الله تعالى للسكون والحركة في مخلوقاته دليل صارخ على عدم جوازهما له سبحانه ، لانه لو فرضنا انهما يجوزان له ، فذلك يعني انهما صفتان ازليتان بازلية الذات الالهية وليستا مخلوقين ، في حين ان الله سبحانه احدثهما في خلقه كما هو واضح ، وهنا يكون لدينا تعارض بين ازليتهما وبين حدوثهما [١٤] , لذلك يستنكر الامام هذا المفروض بقوله : (وكيف يجري عليه ما هو اجراه ويعود فيه ما هو ابداه ويحدث فيه ما هو احدثه) .
ولو فرض ان الحركة والسكون لم يكونا لازمين للذات الالهية قبل قبل الخلق ، ولكن جريا فيها بعد ان اودعهما في خلقه ، فان الامام عليه السلام ينقض هذا الفرض من حيث ان ذلك يستلزم طروء التغير على الذات الالهية : ( اذا لتفاوتت ذاته ولتجزأ كنهه ) ، والتغير يتعارض تماما مع الازل الذي لا يقبل التبدل مطلقا : ( ولا متنع من الازل معناه) والازلية من اللوازم الضرورية للذات الالهية ، لانها اذا لم تكن ازلية فهي مخلوقة بداهة ، على ان هنالك تفسيرا اخر لكلامه عليه السلام اكثر تعقيدا ذكره ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة يمكن الاطلاع عليه في محله [١٥] .
اما في اثبات التوحيد للذات الالهية ، فنذكر ما جاء في الخطبة الاولى من نهج البلاغة حيث قال عليه السلام : ( اول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الاخلاص له وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة انها غير الموصوف وشهادة كل موصوف انه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاه ومن جزاه فقد جهله ومن جهله فقد اشار اليه ومن اشار اليه فق حده ومن حده فقد عده ) [١٦] .
ان نفيه عليه السلام للصفات – بما هي وجودات مشخصة بذاتها – عن الذات الالهية يعد من المقاصد العقلية العالية في بحوث التوحيد ، حيث يبين ان التوحيد الحقيقي يستلزم التسليم بتنزيه الذات عن كل اضافة يتصورها الانسان ، لانه لو اعتبرت صفات الله تعالى كأشياء تضاف الى الذات الالهية فان ذلك يعني انه سبحانه مركب من شيئين هما الذات والصفات : ( فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ) والمركب يعني انه مكون من اجزاء عدة : ( ومن ثناه فقد جزأه) ونسبة الاجزاء للذات الالهية يعني الجهل بها ، وذلك يستلزم لا محالة تجسيمها وتحييزها في جهة : ( ومن جزأه فقد جهله ومن جهله فقد اشار اليه ) وهذا يعني انه محدود بحدود تجعله يعد الى جانب الاشياء المجاورة له : ( ومن اشار اليه فقد حده ومن حده فقد عده ) والعدد في التوحيد الالهي باطل كما بينا في المطلب السابق .
لذلك فان علماء الفلسفة قد اشاروا الى ان صفات الله تعالى جميعا هي عين ذاته ، وبعبارة اخرى : لا وجود في الواقع الا للذات الالهية منزهة عن كل اضافة خارجية ، وانما اطلقت هذه الصفات من باب المجاز للتعبير عن ان هذه الذات حية عالمة قادرة .... الخ .
وفي خطبة اخرى له عليه السلام يقول : ( وان الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الاجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلاشيء الا الله الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الامور ...) [١٧] .
فهذا مقطع يقف النتامل امامه خاشعا وممتلئا هيبة امام عظمة الذات الالهية القاهرة ، واغلب الظن ان مثل هذا الكلام لا يجرؤ احد على التصريح به بهذه الصورة ، سواء كان فيلسفا مفلقا ام مكتكلما مفوها ، لانه يحتاج الى تجرد في التوحيد وبعد كامل عن الاوهام في المعرفة العقلية ، ومعرفة حقيقية بمصير الوجود بعد فناء العالم ، كما انه يستلزم معرفة دقيقة حول علاقة الكون بالخالق سبحانه ، لذا تجد انه عليه السلام اردف قوله السابق بكلام جليل يعد ادلة برهانية تامة على ما تقدم ، فقال : ( .. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها وبغير امتناع منها كان فناؤها ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها ، لم يتكاءده صنع شيء منها اذ صنعه ، ولم يؤده  [١٨] منها خلق ما خلقه وبرأه ، ولم يكونها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستغاثة بها على ند مكاثر ولا للاحتراز بها من ضد مثاور ولا للازدياد بها في ملكه ولا لمكاثرة شريك في شركه ولا لوحشة كانت منه فاراد ان يستانس اليها .
ثم هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تريفها وتدبيرها ولا لراحة واصلة اليه ولا لثقل شيء منها عليه لا يمله طول بقائها فيدعوه الى سرعة افنائها ولكنه سبحانه دبرها بلطفه وامسكها بامره واتقنها بقدرته ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه اليها ولا استعانة بشيء منها عليها ولا لانصراف من حال وحشة الى حال استئناس ولا من حال جهل وعمى الى حال علم والتماس ولا من فقر وحاجة الى غنى وكثرة ولا من ذل وضعة الى عز وقدرة ) [١٩] .

رابعا : علاجه عليه السلام للوساوس الفكرية
ان الامام عليا عليه السلام مضافا الى الحقائق العقلية التي طرحها في كلمات نهج البلاغة ، قد اشار الى نقطة مهمة ومحورية في مضمار العقائد الالهية ، على المسلمين جميعا ان يتبعوها حرفيا ، وهي المخرج من الشبهات العقائدية التي قد تعلق في ذهن المسلم نتيجة لتعرضه للعلوم العقلية الالهية ، وهذه النقطة تتمحور حول اهمال تلك الشبهات وعدم الالتفات اليها برجاء معرفتها بعد ان يخلو الذهن من الملابسات والوساوس ، وهذا الاسلوب يعد من افضل العلاجات للتخلص من هذه المزالق ، لان الاصرار على مماطلة هذه الشبهات ماهو الا نسج مزيد من خيوط العنكبوت على فكر الانسان حتى يختنق بها .
قال امير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الامام الحسن عليه السلام : ( واعلم يا بني ان احب ما انت اخذ به الي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك والاخذ بما مضى عليه الاولون من ابائك والصالحون من اهل بيتك فانهم لم يدعوا ان نظروا لانفسهم كما انت ناظر وفكروا كما انت مفكر ثم ردهم اخر ذلك الى الاخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا ، فان ابت نفسك ان تقبل ذلك دون ان تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات ، وابدا قبل نظرك في ذلك بالاستغاثة بإلهك والرغبة اليه في توفيقك وترك كل شائبة اولجتك في شبهة او اسلمتك الى ضلالة ، فان ايقنت ان قد صفا قلبك فخشع وتم رايك فاجتمع وكان همك في ذلك هما واحدا فانظر فيما فسرت لك ، وان لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم انك انما تخبط العشواء وتتورط الظلماء ، وليس طالب الدين من خبط او خلط ، والامساك عن ذلك امثل .
فتفهم يا بني وصيتي واعلم ان مالك الموت هو مالك الحياة وان الخالق هو المميت وان المفني هو المعيد وان المبتلي هو المعافي ، وان الدنيا لم تكن لتستقر الا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد او ما شاء مما لا تعلم ، فان اشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك فانك اول ما خلقت به جاهلا ثم علمت ، وما اكثر ما تجهل من الامر ويتحير فيه رايك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك ) [٢٠].
وفي ختام هذا الموضوع ، نشير الى ان اثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى لا ينحصر فقط بالقوانين والمعارف الفلسفية وحسب ، بل هناك طريق افضل واقرب الى اليقين منه يتمثل بملاحظة الكمال ودقة الصنع في هذا الكون المخلوق ، وان كان بملاحظة جوانب معينة منه فقط – كالابداع في خلق الانسان – وقد ندب القران الكريم في العديد من اياته الكريمة الى التدبر في هذا المضمار للحصول على تلك النتيجة السامية – الايمان بوجود الخالق ومعرفة صفاته – ولعل هذا التفكر بهذه الطريقة يؤدي – مضافا الى اليقين باصل وجود الخالق – الى التعرف على جانب من مقدار حكمته وقدرته وعلمه ورحمته ، وبالتالي يقربنا من حبه ، لان الصفات الجمالية والجلالية لله تتجلى في خلقه ، والوقوف على هذه الصفات يؤدي الى محبة مالكها سبحانه وتعالى .
لذلك فان امير المؤمنين عليه السلام قد ركز على هذا الجانب كثيرا في باب اثبات الخالق وصفاته الحسنى ، ووظف خطبة كاملة تعد من اجل الخطب المروية عنه في هذا الباب في كتاب نهج البلاغة ، هي الخطبة المعروفة ب (خطبة الاشباح) [٢١].
---------------------------------------------------------
[١] . ولعل الفترة التي تزامنت مع ايام الخلافة العباسية وما تلاها هي الفترة التي شهدت نهضة المدرسة الفلسفية الاسلامية وتطورها بشكل عام .
[٢] . ظهرت احدى المدارس الفلسفية على ايدي جماعة من المفكرين اليونان يسمون بالسفسطائيين ، وتقوم افكاره على التشكيك في صحة الحقائق العقلية المنبثقة عن الفكر البشري بعامة .
[٣] . وتسمى الفلسفة التي تبحث في هذا المضمار بالفلسفة الميتافيزيقية .
[٤] . فليست هي ضرورية الوجود ولا مستحيلة الوجود ، لذلك تسمى بالممكنة الوجود .
[٥] . وقد وضع الفلاسفة نوعا ثالثا من الوجود بالممتنع الوجود .
[٦] . ان مصطلح (الحقائق الفلسفية في اقوال الامام عليه السلام ) مصطلح نذكره على سبيل المجاز ، لانه لا شك ان امير المؤمنين عليه السلام لم يكن يستعمل انظمة علم الفلسفة لاجل ان يوضح مقاصده للناس ، فهو اغنى من ان يحتاج الى نظام وضعه غيره وهو امام البيان والعلوم .
[٧] . نهج البلاغة ٢ : ١٢١ .
[٨] . ان الاشياء المحدودة تحتاج الى المكان الذي يحويها ، والله تعالى منزه عن الحاجة لشيء او مكان .
[٩] . وهذه الموجودات تسمى في علم الفلسفة بالاعراض ومفردها العرض .
[١٠] . ولعله المقصود بالالات هنا الحواس .
[١١] . بعد ان يبين الامام ان الحد والعدد من صفات الالات والادوات ، يؤكد في هذه المرحلة على عدم كونها تحمل صفات الربوبية بقوله : ( منعتها منذ القدمية ..) وما بعده .
[١٢] . يقول ابن ابي الحديد المعتزلي حينما يصل الى هذه الفقرة من الخطبة : ( هذا دليل اخذه المتكلمون عنه عليه السلام فنظموه وقرروه في كتبهم ) شرح نهج البلاغة ج١٣ ص ٣٦ .
[١٣] . ان مسالة الحركة اذا وردت على الموجود فان السكون وارد عليه ايضا لانهما صفتان متلازمتان ، حيث انه لا حركة الا بعد سكون ولا سكون الا بعد حركة .
[١٤] . وهذان نقيضان لا يجتمعان .
[١٥] . شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١٣ : ٣٦ .
[١٦] . نهج البلاغة ١ : ١٥ .
[١٧] . نهج البلاغة ٢ : ١٢٤ .
[١٨] . يؤده : يثقل عليه ، قال تعالى : ( ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ) .
[١٩] . نهج البلاغة ٢ : ١٢٥ .
[٢٠] . نهج البلاغة ٣ : ٤٢ .
[٢١] . نهج البلاغة ١ : ١٦٠ .

منقول من (وحي نهج البلاغة في الاخلاق والفلسفة والسياسة)

اصدارات العتبة العلوية المقدسة (٨٥)

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

كرامة النفس في القرآن والحديث
الشيخ حسين قلي الهمداني
مبادئ بناء المجتمع في الاسلام
العلاقة المثالية.. بين الرجل والمرأة
كتائب الحسين تصل إلى عدن ومفاجئات في الساحة ...
جريمة انفجار مسجد الامام الصادق (ع) لطخت جبین ...
ما سر عداء الرجل الشرقي للرومانسية؟!
قائد الثورة: شعوب اليمن والبحرين وفلسطين مظلومة ...
اختیار الزوجین
أصول الدين عند الشيعة

 
user comment