عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

خير العمل هو بر فاطمة وولدها

خير العمل هو بر فاطمة وولدها

كان مذهب أهل السنة والجماعة هو الغالب على إيران إلاّ في مناطق معينة كطبرستان ، والريّ ، وقم ، وأقسام من خراسان ، وقد ذكر المؤرخون عللاً وأسباباً في تشيع إيران ، إلاّ أنّ الثابت هو حدوثه في عهد العلاّمة الحلّي « الحسن بن يوسف » المتوفى 726هـ الذي كان السبب في تشيع السلطان الجايتو محمّد المغولي الملقّب بشاه خدابنده المتوفى 717 أو 719هـ (1)
فلما تشيع السلطان أمر في تمام ممالكه بتغيير الخطبة وإسقاط أسامي الثلاثة عنها ، وبذكر أسامي أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأئمّة عليهم السلام على المنابر ، وبذكر « حيّ على خير العمل » في الأذان ، وبتغيير السّكّة ونقش الأسامي المباركة عليها(2).

المدينة [ القرن الثامن ]

نقل السمهودي في ( وفاء الوفاء ) : ... عن ابن فرحون المتوفى سنة 799هـ قوله : وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة... وكانت بدعة وضلالة يصلي فيها الشيعة... ولقد كنت أسمع بعضهم يقف على بابها ويؤذّن بأعلى صوته « حيّ على خير العمل » وكانت مواطن تدريسهم وخلوة علمائهم(3).
وذكر صاحب التحفة اللطيفة في ترجمة عزاز ؛ أحد الاشراف : كان يقف على باب المقصورة المحيطة بالحجرة النبوية ويؤذّن بأعلى صوته من غير خوف ولا فزع قائلاً « حيّ على خير العمل » ؛ قاله ابن فرحون في تاريخه(4).

القطيف ( سنة 729هـ )

ذكر ابن بطوطة في رحلته سفره إلى القطيف ، فقال : ثمّ سافرنا إلى مدينة القُطَيف ـ وضبط اسمها بضم القاف كأنه تصغير قَطِيف ـ وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير ، يسكنها طوائف العرب ، وهم رافضية غلاة ، يظهرون الرفض جهاراً لا يتّقون أحداً ، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين : « أشهد أنّ عليّاً وليّ الله » ، ويزيد بعد الحيعلتين « حيّ على خير العمل » ويزيد بعد التكبير الأخير : « محمّد وعليّ خير البشر من خالفها فقد كفر »(5).

مكّة ( سنة 793هـ )

جاء في صبح الاعشى : ... وولي ابنه صلاح [ بن عليّ بن محمّد ] وتابعه الزيدية ، وكان بعضهم ينكر إمامته لعدم استكمال الشروط فيه ، فيقول : « أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان » ، ثمّ مات سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة ، وقام بعده ابنه نجاح فامتنع الزيدية من بيعته... إلى أن يقول : قال في مسالك الأبصار : ولشيعة هذا الإمام فيه حُسْنُ الاعتقاد ، حتّى أنّهم يستشفون بدعائه ، ويُمرُّون يده على مرضاهم ، ويستسقون به المطر إذا اجدبوا ، ويبالغون في ذلك كلّ المبالغة ، ثمّ قال : ولا يَكْبُرُ لإمام هذه سيرته ـ في التواضع لله ، وحسن المعاملة لخلقه ، وهو من ذلك الأصل الطاهر والعنصر الطيب ـ أن يجاب دعاؤه ويتقبل منه ، قال : وزيُّ هذا الإمام وأتباعه زيّ العرب في لباسهم والعمامة والحنك ، وينادى عندهم بالأذان « حيّ على خير العمل »(6).

صنعاء ( سنة 900هـ تقريباً )

ذكر صاحب البدر الطالع في ترجمة محمّد بن الحسن بن مرغم الزيدي اليماني ( المولود 836 والمتوفى 931 ) ما نصّه : لما افتتح السلطان عامر بن عبدالوهاب صنعاء ومايليها من البلاد [ كان ] يجلّه ويقبل شفاعته لأجل اتصاله بالإمام الناصر الحسن بن عزالدين بن الحسن.
ولما صلّى السلطان عامرٌ بجامع صنعاء أوّلَ جمعة فأراد المؤذن أن يسقط من الأذان « حيّ على خير العمل » فمنعه محمّد بن الحسن الزيدي ، فالتفت إليه جميع من في المسجد من جند السلطان وهم ألوف مؤلّفة ، وعُدَّ ذلك من تصلّبه في مذهبه(7).

 

حضرموت ( سنة 1070هـ )
جاء في كتاب ( سمط النجوم العوالي في أنباء الاوائل والتوالي ) للعاصمي : قوله :
وفي سنة 1065 جهز الإمام إسماعيل(ابن المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد بن الحسين بن عليّ بن يحيى بن محمد بن يوسف الاشل بن القاسم بن محمد بن يوسف الاكبر بن المنصور بن يحيى بن الناصر بن أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ابن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب .)ابنَ أخيه الإمام أحمدَ بن الحسن على حضرموت ونواحيها لكونهم لم يخطبوا له [بعد أن سيطر على أغلب اليمن] فالتقى هو والأمير حسين الرصاص ، لكون بلده أقرب البلدان إلى دولة الإمام إسماعيل ، وحصل منهم قتال ، فلما عجز الإمام أحمد بن الحسن اُرسل إلى قبيلة يافع ـ وهم قبائل كثيرون ـ بالأموال خفية ، وطلبوا منه أن يكونوا معه على الرصاص... فتجهزوا على الرصاص وأتوه على غرة... حتّى قتل... واستولى الزيدية على غالب حضرموت.
ثمّ في سنة 1070 استولى على حضرموت كلها ، وأمرهم أن يزيدوا في الأذان « حيّ على خير العمل » وترك الترضي عن الشيخين ... ثمّ لم يزل الإمام إسماعيل قائماً بأعباء الإمامة الكبرى إلى أن توفّاه الله تعالى إلى رحمته سنة 1087هـ (8).

نجد ( سنة 1224هـ )

قال عبدالحي بن فخر الدين الحسيني ( المتوفى 1341هـ ) في ( نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ) : ... الزيدية بعد ما خالف الشريف حمود ابن محمّد على أهل نجد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف أن يزيد أهلها قول « حيّ على خير العمل » في ندائهم للصلوات ويَدَعُوا ما توارثوه من السلف في أذان الفجر من قولهم « الصلاة خير من النوم » فإنه كان يراها بدعة إنّما أحدثها عمر رضي الله عنه في إمرته(9).
وأختم حديثي بما نقله القلقشندي في صبح الأعشى عن الزيدية فقال : ... وهم يقولون : إن نَصَّ الأذَانِ بَدَل الحَيْعَلَتينِ(هذا غلط من القلقشندي فالزيدية تقول بالحيعلة الثالثة بعد الحيعلتين لا بدلهما.) : « حَيّ على خَيْر العَمَلِ » يقولونها في أَذانِهم مرّتين بدل الحَيْعلَتَيْن ، وربَّما قالوا قبل ذلك : « محمدٌ وعَلِيٌّ خَير البَشَر ، وعِتْرتُهما خير العِتَر » ومن رأَى أنّ هذا بِدعةٌ فقد حاد عن الجَادَّة.
وهم يسوقون الإِمامة في أوْلاد عَلِيّ كَرَّم الله وَجْهَه من فاطمة عليها السلام ، ولا يُجوِّزونَ ثُبوتَ الإِمامة في غير بنيهما ؛ إلاّ أنَّهم جَوَّزُوا أن يكونَ كلُّ فاطميِّ عالِمٍ زَاهِدٍ شُجاعٍ خَرج لطَلَب الإِمامة إماماً مَعْصُوماً واجِبَ الطاعة ، سواء كان من ولد الحَسَنِ أو الحُسَينِ عليهما السلام ، ومَن خلع طاعتَه فقد ضَلَّ. وهم يَرَوْن أن الإِمام المَهْدِيَّ المُنْتَظَر من ولَد الحُسَين دون ولد الحسَن رضي الله عنهما ، ومن
خالف في ذلك فقد أخْطَأ. ومن قال : إِنَّ الشيخين أبا بَكْرٍ وعُمَر أفضلُ من عَلِيٍّ وبَنِيه فقد أخْطأَ عندهم وخالَف زَيداً في مُعْتَقَدِه. ويقولون : إنّ تَسْلِيم الحَسَنِ الأمْرَ لمعَاويةَ كان لمصْلَحةٍ آقتضاها الحال ، وإن كان الحقُّ له.
قال في « التعريف » : وأَيْمانُهم أَيْمانُ أهْلِ السُّنَّة ، يعني فيحلَّفون كما تقدّم ، ويزاد فيها : وإِلاَّ بَرِئْتُ من مُعْتَقَدِ زَيْد بن عَلِيّ ، ورأيتُ أنَّ قَوْلِي في الأذانِ : « حَيَّ على خَيْرِ العَمَل » بِدْعةٌ ، وخَلَعتُ طاعة الإِمام المعصوم الواجب الطَّاعة ، وآدّعَيْتُ أن المَهْدِيَّ المنتَظَر ليس من وَلَد الحُسَينِ بن عليّ ، وقلتُ بتَفْضِيل الشيخين على أمير المؤمنين عَلِيٍّ وبَنِيه ، وطعَنْتُ في رَأْي ابنِهِ الحسن لما اقتضته المَصْلَحةُ ، وطعَنتُ عليه فيه(10).

النتيجة

وعليه فشرعية « حيّ على خير العمل » ثابتة عند الشيعة بفرقها الثلاث : ـ الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية ـ وعند بعض الصحابة ، وإنّ هذه الجملة هي أصل لما فُسّر في كلام الأئمّة عليهم السلام بـ « محمّد وعليّ خير البشر » و « محمّد وآل محمّد خير البرية » و « أنّ عليّاً وليّ الله » ، فتارة كانت الشيعة تصرح بهذا التفسير ، وأخرى لا تصرح به ، نتيجة للظروف القاسية التي كانت تمر بها.
ويؤكد التفسيرية التي قلناها ما أجاب به السيّد المرتضى رحمه الله ( ت436هـ ) فإنه سئل : هل يجب في الأذان بعد قول « حيّ على خير العمل » : « محمّد وعليّ خير البشر » ؟ فأجاب : إن قال « محمّد وعليّ خير البشر » على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة ، وإنّ لم يكن فلا شيء عليه(11).
وقال ابن البراج ( ت 481هـ ) في مهذبه : ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند « حيّ على خير العمل » : « آل محمّد خير البرية » مرتين(12).
وكذا يُفهم من كلام الشيخ الصدوق ( ت 381هـ ) أن الذين كانوا يأتون بهذه الصيغ الثلاث أو الأربع! كانوا يأتون بها على أنّها صادرة عن أئمّة أهل البيت ؛ لقوله رحمه الله : « وفي بعض رواياتهم... ومنهم من روى بدل ذلك... »(13)
فاختلاف الصيغ عند المؤذنين ، وإتيانها في بعض الأحيان بعد الحيعلة الثالثة وأخرى بعد الشهادة الثانية تشير إلى عدم جزئيتها وكونها تفسيرية.
إذاً عمل الشيعة وتفسيرهم هذا لم يكن عن هوى ورأي ، بل لما عرفوه ووقفوا عليه في مرويات ائمتهم الموجودة عندهم ، وهذا لو جمع إلى سيرة المتشرعة من الشيعة في كل الازمان والابقاع في « حيّ على خير العمل » وأنّ المعنيَّ به عندهم الولاية لوقفت على حقيقة أخرى لم تنكشف لك من ذي قبل(14).
وممّا يستأنس به لذلك أذان الشيعة بحلب سنة 367هـ حيث إنّهم كانوا يقولون في أذانهم « حيّ على خير العمل محمّد وعليّ خير البشر » ، وكذلك في أذانهم باليمامة سنة 394هـ ، ففيه « يقولون في الإقامة : محمّد وعليّ خير البشر وحيّ على خير العمل ».
ومن هذا الباب ما ذُكر من أنّ الحسين بن عليّ بن محمّد... بن علي بن أبي طالب ( المعروف بابن شكنبة ) كان أوّل من جهر في الأذان بـ « محمّد وعليّ خير البشر » في زمن سيف الدولة الحمداني سنة 347هـ ، ولا يخفى عليك بأنّ هذا المؤذّن والحمدانيين شيعة اثنا عشرية ، وقد عرفت بأنّ الأذان بذلك في حلب كان قبل هذا التاريخ.
ويضاف إليه ما قلناه قبل قليل من أن الشيعة الاثني عشرية ( القطعية ) أذنوا في بغداد ( 290 ـ 356هـ ) بـ « أشهد أن عليّاً ولي الله » ، وأعلوا هذا الإعلان على المآذن في القرن الثامن في القطيف كذلك وغير ذلك من النصوص ، فكلها تؤكد التفسيرية التي كان يبوح بها الشيعة أيّام قوتهم ، وأنّ كلّ ما كانوا يقولونه مأخوذ من كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وأنّ ذلك كله تفسير وتوضيح للحيعلة الثالثة(وقد تكون الشهادة الثالثة هي تفسير للشهادة الثانية كذلك وهذا ما سنوضحه لاحقاً في الباب الثالث « أشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع ».)التي حذفها عمر وسار على نهجه الحذفيّ أتباعُهُ. ولذلك عظم على الرافضة !! وأهل التشيع حذف الحيعلة الثالثة من الأذان في سنة 369هـ من قبل نور الدين عم صلاح الدين الأيوبي.
وبهذا فقد تبيّن لنا من كلّ ما سبق أنّ لـ « حيّ على خير العمل » أصلاً شرعيّاً ثابتاً ، لكنَّ الظروف السياسيّة العصيبة ونهي عمر بن الخطّاب ، لعبا دوراً كبيراً في طرح شرعيّتها جانباً ـ وقد مرّت عليك بعض الروايات التي صُرّح فيها بحذف الحيعلة الثالثة للتقية من الرواة الذين كانوا يخافون على أرواحهم عند اشتداد سطوة الظالمين ـ ومع كلّ ذلك العسف ترى الصمود الشيعي في جانب آخر ، لذلك راح أتباع الحَذْفِ بعد أن لمسوا شدّة المتمسّكين بها يدّعون بأنّها منسوخة ، وعلى الرغم من شراسة الحملة الموجّهة ضدّ هذا الأصل الشرعيّ وعنف وقسوة رموزها ، إلاّ أنّ المنصفين لم يتمكّنوا من التجّرؤ والقول بأنّ « حيّ على خير العمل » بدعة ، وأكثر ما توصّلوا إليه أن يقولوا عنها : إنّ ذلك الأمر لم يثبت ، و : ما لم يثبت فمن الأولى تركه وعدم الإتيان به!
ولكن ، هل مال جميع المسلمين إلى ذلك ؟
أبداً ، فكثير من الصحابة وكل أهل البيت وعدّة من التابعين أصرّوا إصراراً شديداً على التمسّك بالإتيان بـ « حيّ على خير العمل » في أذانهم والتأكيد الحازم الجازم على شرعيّة الإتيان بها ، وأن ليس من عامل شرعيّ قطعيّ دعا إلى طرحها وإسقاطها.. وقد مرّت في مطاوي البحوث شواهد كثيرة تؤيِّد صحّة ذلك بموضوعية ، وقد كان هذا الفصل هو الموضّح لكيفية « تحوّل هذا الأصل الشرعيّ » إلى شعار يميّز الشيعة عن غيرهم ، وقد اتّضحت بين ثناياه الدوافع التي دعت أهل السنّة لأن يتّخذوا من ( الصلاة خير من النوم ) شعاراً لهم ، حيث كانت لهذه الجملة أبعادٌ متصلة باجتهاد الخليفة عمر!! لا سنة رسول الله.
لقد تجسدت شعاريّة هذا الموضوع بوضوح في العصور المتأخِّرة ، ويمكن القول بأنّها تجلّت واضحة في العصر العبّاسيّ الأوّل(هي الفترة السياسيّة لخلافة بني العبّاس ؛ من خلافة أبي العبّاس السفّاح إلى خلافة الواثق بالله ، أي خلافة : أبي العبّاس السفّاح ، والمنصور الدوانيقيّ ، والمهدي العبّاسيّ ، والهادي العباسيّ ، وهارون الرشيد ، والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، وآخرهم الواثق بالله ، ومن بعد وفاته إلى الغزو المغوليّ لبغداد ، اصطلح عليه بين المؤرّخين بالعصر العبّاسيّ الثاني.) ، وعلى الخصوص في زمن أبي جعفر المنصور الدوانيقيّ ، كما وتجسّدت معالم شعاريّة « حيّ على خير العمل » بوضوح أيضاً بعد وفاة المنصور بعد أن صار جلياً وجود تيّارين متباينين ، أحدهما يصرّ بإلحاح جادّ على الإتيان بـ « حيّ على خير العمل » ، بينما يحاول الآخر منع ذلك بشتى الطرق ولا يرضى بالإتيان بها.
وانطلاقاً من هذا الأساس المتشنّج كانت جميع الحركات الشيعيّة ودُولها في حال استلامها لزمام أُمور السياسة لا تتردّد في إعلاء « حيّ على خير العمل » من على المآذن في الأذان إعلاناً عن هويّتهم الحقيقيّة ، بل كان المدّ الجماهيري الشيعي في أحايين قوته يراهن على شرعيتها ، ولا يتنازل عن الهوية المحمدية العلوية.
نعم ، يمكن القول بذلك على أساس اتّخاذ الشيعة « حيّ على خير العمل » شعاراً لهم ، وإن كانت هذه الحيعلة الثالثة جزءاً من الأذان النبوي ، فشرعيتها أقدم من تاريخ شعاريتها بكثير ، حيث هي مسألة شرعيّة ثابتة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد بيّنّا ذلك بما فيه الكفاية.
وأمّا فيما يخصّ ذِكر أذان الإمام زين العابدين عليه السلام الثابت للجميع وليس ثمّة منكر له ، فله ميزة خاصّة ، وذلك لمكانته بين المسلمين عموماً ، فالإماميّة والزيديّة ، بل مختلف فرق الشيعة ـ باستثناء الكيسانية المنقرضة ـ تذعن له وتستسلم لأوامره ونواهيه الشرعيّة ، ويقرّون له عليه السلام بأنّه إمام للمسلمين وحجّة لله على خلقه ، وبالنسبة لباقي الفرق فهم يتعاملون معه كأحد علماء المدينة على أقل ما يقال .. فإتيان الإمام زين العابدين عليه السلام بـ « حيّ على خير العمل » يمثِّل ـ بلا ريب ـ شرعيّتها وامتداد جذورها إلى عصر الرسالة الأوّل ، وخصوصاً بعد وقوفنا على قوله عليه السلام « إنّه الأذان الأول » والذي يوضّح بأنّ الأذان شرّع في الإسراء والمعراج ، وأن « حيّ على خير العمل » ، إشارة إلى ولاية الإمام عليّ وولده ، والذي كتب على ساق العرش.
وكذا الحال بالنسبة إلى فعل ابن عمر ، فإنّ إتيانه بها في أذانه ـ وهو فقيه أهل السنة والجماعة ـ ليؤكد شرعيتها ، ونحن لو أضفنا هذين الموردين إلى ما أورده الدسوقيّ في حاشيته عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأنّه كان يأتي بها ، وإلى ما ذُكر عن الإمامين الباقر والصادق عليهم السلام ، لاتّضح لنا ولغيرنا بأنّ هذه المسألة لها أصل أصيل في الدين ، بل هناك أصل لما نقول به في كتب أهل السنة والجماعة مستقى عن رسول الله صلى الله عليه وآله بيقين.
فـ « حيّ على خير العمل » أصلٌ من الأُصول الثابتة ، ذو جذور عريقة وراسخة تعود إلى عهد رسول الله ، وقد أتى بها الصحابة أيضاً ، إلاّ أنَّه قد دبّ الخلاف فيها منذ عهد عمر بن الخطّاب ، وهذا هو ما تثبته الأدلة والشواهد التاريخيّة والروائيّة ، إلاّ أنَّ التعصّب الأعمى دفع بالبعض دفاعاً عن اجتهاد عمر قبال السنّة النبويّة المباركة لأن يدّعي أنَّ الشيعة هم الذين أدخلوا هذه الروايات في كتبهم ، بل ودفع ذلك التعصب المقيت بالبعض الآخر لأن يدّعي ويزعم أنَّ كتبهم المعتبرة خالية من مثل هذه الروايات ، ولا ندري ما نقول لمن يريد إخفاء عين الشمس بغربال!
ونحن لو دققنا النظر في مسألة نهي عمر بن الخطاب عن متعة الحج ومتعة النساء وحيّ على خير العمل ـ على ما أورده القوشجي في « شرح التجريد » ـ لانكشف لنا الترابط فيما بين هذه المسائل الثلاث ، وأنّ مسألة « حيّ على خير العمل » تعني ارتباطها بمسألة هامة ترتبط بصميم الخلافة والإمامة ، وقد عرفت كيف تحوّلت الحيعلة الثالثة إلى شعار للطالبيين ولشيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومحبّي الزهراء البتول عليها السلام عبر القرون ، وأنّ ثبات الشيعة عليها وتمسّكهم بها يمثّل بحثا استراتيجيّاً بين الفريقين وحدّاً فاصلاً بينهما ، ولعلّ ما روي عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام عن تبيان علّتي النهي الظاهرة والخفية ـ التي مرّ ذكرها ـ جاء للكشف عن النوايا والتوجّهات الحكومية التي أرادت أن تطمس أنَّ خير العمل هو : « بر فاطمة وولدها ».
وبعد أن بينا تعاريف « خير العمل » في روايات أهل البيت عليهم السلام سابقاً ، وانها تعني : « الولاية » و « بر فاطمة وولدها » ، نصل إلى أنّ نهي الخليفة يمثّل إعلاناً عن عدم الاعتناء ببر فاطمة ، وهو ما يعود بالنتيجة إلى الولاية والخلافة وأن عمر بن الخطاب لا يريد الإشارة إلى خلافة غيره ، بل إنه لا يريد الإشارة إلى كلّ ما يتعلق بها.
وممّا يدعم هذا المعنى ما تنطوي عليه العقوبة التي فرضها عمر بن الخطاب على القائل بها ، فقوله ( أنهى عنها ) أو ( أُعاقِبُ عليها ) بمثابة اعتراف مبدئيّ منه بشرعيّة « حيّ على خير العمل » ، واعتراف ضمني على ما يجول في دواخله ، ولذلك فقد ربط نهيه عن « حيّ على خير العمل » بنهييه عن متعتَي النساء والحجّ ، اللَّذَيْنِ أكد الإمام عليّ وابن عبّاس ورعيل من الصحابة على شرعيتها ، بخلاف عمر والنهج الحاكم اللذين دعيا إلى تركها ، فترك هذه الثلاث عُمَرِيٌّ ، وأمّا لزوم الإتيان بها أو جوازه فهو علوي ، إذاً الأمر لم يكن اعتباطاً ، بل جاء لوجود رابطة وعلاقة متينة بين كلّ الأمور المنهيّ عنها.
لقد ، بلغ النزاع حول المسألة المبحوثة أوجه في القرنين الرابع والخامس الهجريّين ، حيث إنّ الصراع الفكريّ والاعتقاديّ في تلك الفترة الزمنيّة قد اشتدّ كثيراً ، فسيطر على الشارع العامّ جوٌّ من الخلاف الحادّ بين الشيعة والسنّة ، كلٌّ يدّعي أنَّ الحقّ في جانبه ، ولم يصلا لقاسم مشترك يرضي الطرفين في محاولة للعودة إلى حالة الألفة وعدم التنازع ، فكلٌّ منهما متمسِّك بصلابة بما توصّل إليه ؛ هؤلاء بأئمتهم ، وأولئك بحكوماتهم.
ولو ألقينا نظرة فاحصة على النصوص التي مرت في حوادث سنة 350 ـ 443هـ ، ودرسنا وضع شدّة النعرة الطائفية واستفحالها ، لشاهدنا بوضوح دورمسألة « حيّ على خير العمل » الذي تزامن طرحها مع مسائل اعتقاديّة أُخرى بشكل لا يمكنك التفكيك بينها ، مثل مسألة الغدير ، ولبس السواد وما إلى ذلك. فلماذا يمنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح ؟ ولماذا تقع الفتنة يوم الغدير ؟
قال الذهبيّ في أحداث سنة 389هـ : ( كانت قد جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وإظهار الزينة يوم الغدير ، والوقيد(أي إيقاد الشموع والقناديل والإضاءة)في ليلته ، فأرادت السنّة أن تعمل في مقابلة هذا أشياء ، فادّعت أنَّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبيّ وأبو بكر في الغار ، فعملت فيه ما تعمل الشيعة في يوم الغدير ، وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوماً بعده بثمانية أيّام إلى مقتل مصعب ... )(15).
فانظر إلى الأصالة والتحريف معاً ، وكيف تُغيّر الوقائع والأحداث عن مجرياتها وتحرّف عن أصالتها وتوضع باسم الآخرين!
ومن الحوادث التاريخيّة التي برزت فيها شعاريّة « حيّ على خير العمل » كرمز للشيعة والتشيّع ما أورده ابن الجوزيّ في « المنتظم » في أحداث سنة 417 هـ ، وما جاء في « مرآة الجنان » في أحداث سنة 420هـ ، حيث ذكرا بإنّ الصراع والصدامات بين الشيعة والسنّة في بغداد كانت على أشدّها ، وقد حاول السنّة بشتّى الأساليب التجرُّؤ على مكانة الإمام عليّ عليه السلام الرفيعة السامية ، وبذلوا كلّ ما باستطاعتهم من النيل منه ومحاولة إسقاط مقامه الشامخ أمام أنظار العوامّ ، وعلى هذا الغرار فقد بعث القادر العبّاسيّ ظاهراً ـ أحد وعّاظه ـ إلى مسجد براثا(ومسجد براثا من المساجد العريقة والقديمة جدّاً ، وكان يومذاك بمثابة معقل الشيعة وحصنهم الحصين ، وتخرّج منه الكثير من الرجال الذين دخلوا تاريخ عالَم التشيّع ، حتّى قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية 11 : 271 حوادث سنة 354هـ ، إنّه : ( عشّ الرافضة ) ، وكان ابن عقدة يعطي دروسه فيه ، ونقل عنه أنّه كان حافظاً لستمائة ألف حديث ، ثلاثمائة ألف حديث منها كانت في فضائل أهل البيت عليهم السلام ، هذا مضافاً إلى إيواء المسجد لعدد كبير من علماء الشيعة ، وكانوا على درجة عالية من الوعي والصلابة في الدين ، جعلت من أحد النواصب لأن يسمّيه بغضاً وتعنتاً بـ ( مسجد ضرار ) انظر البداية والنهاية 11 : 173.) ـ مسجد الشيعة ـ في أحد أيّام الجُمَع ، وراح ينال من شخصية الإمام عليّ عليه السلام بكلّ ما لا يليق به لا من قريب ولا من بعيد ، الأمر الذي أثار الشيعة من الذين كانوا حاضرين في ذلك المسجد ، فلم يسكتوا على قباحة ذلك الخطيب ، وحدث لغط وثارت الحميّة الدينيّة ، فلم يكتفوا بالاعتراض اللفظيّ ، بل رموا ذلك الخطيب بكلّ ما كان قريباً من أيديهم فأصابوه وكسروا له أنفه(16)
فكانت هذه الحادثة بمثابة الشرارة الاولى التي الهبت حالة الصـدامات فيما بين السـنّة والشيعة في بغداد في تلك السـنة ، وعلى أثر ذلك فقد كتب الشيعة على أبواب دورهم هذه العبارة : ( محمّد وعليّ خير البشر ، فَمَن رضى فقد شكر ، ومَن أبى فقد كفر ).
ومن خلال هذه الحادثة ومثيلاتها التي حدثت في بغداد على مرّ الأيّام يظهر لنا أنَّ « حيّ على خير العمل » أصبحت تُمَثِّل شعاراً للشيعة ، لأنَّ ديدن الجميع هو التأكيد والتركيز عليها ، وعدم التنازل عنها وذلك للاعتقاد الجازم بجزئيّتها ، بخلاف الحكومات التي خافت منها ومن معناها ومغزاها فدأبت على حذفها ، ولهذا يقول صاحب السيرة الحلبيّة : ( إنَّ الرافضة لم يتركوا « حيّ على خير العمل » أيّام البويهيّين إلى أن تملّك السـلجوقـيّين سـنة 448هـ ، فألزموهـم بالتـرك وإبـدالها بالصـلاة خير من النـوم )(17).

 

المصادر :
1- رسالة الجايتو والتي ألفها باللغة الفارسية موضحاً فيها أسباب تشيعه فليراجع.
2- روضة المتقين للعلاّمة المجلسي 9 : 30 احقاق الحق 1 : 11 ، أعيان الشيعة5 : 396 ، مجالس المؤمنين 2 : 356. وانظر : خاتمة مستدرك الوسائل للنوري وغيرها
3- وفاء الوفاء للسمهودي 1 ـ 2 : 612 الفصل 27.
4- التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة 2 : 260 الترجمة 2965.
5- رحلة ابن بطوطه : 186 / بعد ذكره لمدينة ( البحرين ).
6- صبح الاعشى 7 : 358 ـ 359.
7- البدر الطالع 2 : 122.
8- سمط النجوم العوالي 4 : 198 ـ 200.
9- نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر : 1646.
10- صبح الاعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي 13 : 231.
11- رسائل الشريف المرتضى 1 : 279. ومثله جواب القاضي ابن البراج في جواهر الفقه : 257.
12- المهذب 1 : 90.
13- من لا يحضره الفقيه 1 : 188 باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين ح 35.
14- سنفصل هذا الأمر بإذن الله تعالى في الباب الثالث من هذه الدراسة « أشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع »
15- تاريخ الاسلام : 25 حوادث سنة 381 ـ 400هـ .
16- البداية والنهاية 12 : 28 ـ 29 حوادث سنة 420هـ .
17- السيرة الحلبيّة 2 : 305.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دروس من مواقف أبي ذر (رضوان الله علیه)
الإمام الصادق (ع)
الشيعة الإمامية
إبليس هل کان من الملائکه؟
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
اُسلوب التعامل مع المنافقين
شعر الإمام الحسين
معرفة الله تعالى أساس إنساني
لهفي عليك.. يا أبا عبدالله
القرآن و القواعد

 
user comment