عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

مِن معاجز رسول الله صلّى الله عليه وآله 3

مِن معاجز رسول الله صلّى الله عليه وآله 3

• روت أسماء بنت أبي بكر قالت: لمّا نزلت:  تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ وتّبّ ، أقبلت العوراء أمُّ جميل ولها وَلُوَلَة وهي تقول:
مُذَّمّماً أبَينا ـ ودَينَهُ قَلَينا
وأمرَهُ عَصَينا
والنبيّ صلّى الله عليه وآله جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، قد أقبَلَتْ! وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله: إنّها لا تراني.
وقرأ قرآناً فاعتصم به كما قال، وقرأ:  وإذا قَرأتَ القرآنَ جَعَلْنا بينَك وبينَ الذينَ لا يُؤمنونَ بالآخرة حِجاباً مَستوراً ( سورة الإسراء:45 ). فوقَفَت على أبي بكر ولم تَرَ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله، فقالت: يا أبا بكر، أُخبِرتُ أنّ صاحبك هجاني، فقال: لا ورَبِّ البيتِ ما هجاكِ. فولّتْ وهي تقول: قريشٌ تعلم أنّي بنتُ سيّدها! ( إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسيّ 87:1. دلائل النبوّة للبيهقيّ 195:2 ).
• عن ابن عبّاس: إنّ قريشاً اجتمعوا في الحِجْر فتعاقدوا باللاّتِ والعُزّى ومَناة لو رأينا محمّداً لَقُمنا مَقامَ رجلٍ واحدٍ ولنَقتلنّه. فدخلت فاطمة عليها السّلام على النبيّ صلّى الله عليه واله باكيةً وحكت مقالَهم فقال: يا بُنيّة، أحضِري لي وَضوءً.
فتوضّأ، ثمّ خرج إلى المسجد، فلمّا رأوه قالوا: ها هو ذا! وخفضت رؤوسُهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يَصِلْ إليه رجل منهم، فأخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله قبضةً من التراب فحصبَهم بها ( أي رماهم بها ) وقال: شاهَتِ الوجوه! ( أي قَبُحَت ). فما أصاب رجلاً منهم إلاّ قُتل يومَ بدر. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 63:1 ـ عنه: بحار الأنوار 60:18 / ح 19 ).
• في بعض الروايات.. أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله يومَ بدر كفّاً من التراب ـ ويقال: حصىً وتراباً ـ ورمى به في وجوه القوم، فتفرّق الحصى في وجوه المشركين، فلم يُصِبْ من ذلك أحداً إلاّ قُتِل أو أُسِر! وفيه نزل قوله تعالى:  وما رَمَيَت إذْ رَمَيتَ ولكنّ اللهَ رمى . ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 70:1 ـ عنه: بحار الأنوار للشّيخ المجلسيّ 67:18 / ح 21، والآية في سورة الأنفال:17 ).
• حكى الحكم بن العاص مِشْيةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله مستهزئاً! فقال صلّى الله عليه وآله: كذلك فَلْتكُنْ! فكان يرتعش حتّى مات.
• وأخيراً ـ أيّها الإخوة الأكارم ـ مع جملة من الفضائل الفريدة والكرامات الباهرة والمنح الإلهيّة الخاصّة التي وهبها اللهُ تعالى لرسوله محمّد صلّى الله عليه وآله ما فضّله على جميع خَلْقِه عامّة، وعلى أنبيائه ورسله خاصة، جاء ذلك في احتجاجٍ جرى بين أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ويهوديّ معترضٍ على تفضيل النبيّ صلّى الله عليه وآله.. فكان هذا الحوار:
• رُوي عن موسى بن جعفر عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام أنّ يهوديّاً من يهود الشّام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء عليهم السّلام وعرف دلائلهم، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وفيهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وابن عبّاس وأبو معبد الجُهَني، فقال: يا أمّة محمّد، ما تركتم لنبيّ درجة ولا لمرسلٍ فضيلة إلاّ نحلتموها نبيّكم، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه ؟ فكاع القوم عنه. (1)
فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: نعم، ما أعطى الله عزّوجلّ نبيّاً درجةً ولا مرسلاً فضيلةً إلاّ وقد جمعها لمحمّد صلّى الله عليه وآله، وزاد محمّداً صلّى الله عليه وآله على الأنبياء أضعافاً مضاعفة.
فقال له اليهوديّ: فهل أنت مجيبي ؟ قال له: نعم، سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلّى الله عليه وآله ما يقرّ الله به أعينَ المؤمنين، ويكون فيه إزالةٌ الشكِّ الشاكّين في فضائله، إنّه صلّى الله عليه وآله كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال: « ولا فخر »، وأنا أذكر لك فضائله غير مُزرٍ بالأنبياء (2)ولا متنقّص لهم، ولكن شكراً لله عزّوجلّ على ما أعطى محمّداً صلّى الله عليه وآله مثل ما أعطاهم، وما زاده الله وما فضّله عليهم.
قال له اليهوديّ: إنّي أسألك فأعدّ له جواباً، قال له عليّ عليه السّلام: هات، قال له اليهوديّ: هذا آدم عليه السّلام أسجد اللهُ له ملائكته، فهل فعل بمحمّد شيئاً من هذا ؟ فقال له عليّ عليه السّلام: لقد كان ذلك، ولئن أسجد الله لآدم ملائكته فإنّ سجودهم لم يكن سجود طاعة وأنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّوجلّ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة، ورحمةً من الله له، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي أفضل من هذا، إنّ الله عزّوجلّ صلّى عليه في جبروته (3)، والملائكة بأجمعها، وتعبّد المؤمنين بالصلاة عليه، فهذه زيادة له يا يهوديّ.
قال له اليهوديّ: فإنّ آدم عليه السّلام تاب الله عليه من بعد خطيئته.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله نزل فيه ما هو أكبر من هذا من غير ذنب أتى، قال الله عزّوجلّ:  ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر  (4)، إنّ محمّداً غير مُوافٍ القيامة بوِزر، ولا مطلوب فيها بذنب.
قال له اليهوديّ: فإنّ إدريس عليه السّلام رفعه الله عزّوجلّ مكاناً عليّاً، وأطعمه من تحف الجنّة بعد وفاته.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ الله جلّ ثناؤه قال فيه:  ورفَعْنا لك ذِكْرَك  (5)، فكفى بهذا من الله رفعةً، ولئن أُطعم إدريسَ من تحف الجنّة بعد وفاته فإنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله اُطعم في الدنيا في حياته بينما يتضوّر جوعاً(6)، فأتاه جبرئيل عليه السّلام بجام من الجنّة فيه تحفة، فهلّل الجام، وهلّلت التحفة في يده وسبّحا وكبّرا وحمّدا، فناولها أهلَ بيته ففعل الجام مثل ذلك، فهمّ أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرئيل عليه السّلام، فقال له: كُلْها فإنّها تحفة من الجنّة أتحفك الله بها، وإنّها لا تصلح إلاّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ. فأكل صلّى الله عليه وآله وأكلنا معه، وإنّي لأجد حلاوتها ساعتي هذه.
قال له اليهوديّ: فهذا نوح عليه السّلام صبر في ذات الله عزّوجلّ، وأعذر قومه إذ كُذّب.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله صبر في ذات الله وأعذر قومه إذ كُذّب وشُرِّد وحُصب بالحصى، وعلاه أبو لهب بسلا شاة (7)، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شقّ الجبال، وانته إلى أمر محمّد صلّى الله عليه وآله. فأتاه فقال له: إنّي قد أُمرت لك بالطاعة، فإنْ أمرتَ أطبقتُ عليهم الجبال فأهلكتهم بها. قال صلّى الله عليه وآله إنّما بُعثت رحمةً، ربِّ اهدِ أُمّتي فإنّهم لا يعلمون . ويحك يا يهوديّ، إنّ نوحاً لمّا شاهد غرق قومه رقّ عليهم رقّة القرابة، وأظهر عليهم شفقة فقال:  ربِّ إنّ ابني من أهلي  (8)، فقال الله تبارك اسمه:  إنّه ليس من أهلك إنّه عملٌ غير صالح  (9)، أراد جلّ ذكره أن يسلّيه بذلك. ومحمّد صلّى الله عليه وآله لمّا علنت من قومه المعاندة (10) شهر عليهم سيف النقمة، ولم تدركه فيهم رقّة القرابة، ولم ينظر إليهم بعينِ مِقَة.
قال له اليهودي: فإنّ نوحاً دعا ربّه فهطل له السّماء بماء منهمر (11).
قال له عليه السّلام: لقد كان كذلك، وكانت دعوته دعوة غضب، ومحمّد صلّى الله عليه وآله هطلت له السّماء بماء منهمر رحمة، إنّه صلّى الله عليه وآله لمّا هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة فقالوا له: يا رسول الله احتبس القطر، واصفرّ العُود، وتَهافَت الوَرَق (12). فرفع يده المباركة حتّى رُئي بياض إبطيه، وما تُرى في السّماء سحابة، فما برح حتّى سقاهم الله، حتّى أنّ الشاب المعجب بشبابه لَتهمّه نفسه في الرجوع إلى منزله، فما يقدر من شدّة السيل، فدام أسبوعاً فأتوه في الجمعة الثانية فقالوا: يا رسول الله لقد تهدّمت الجُدُر، واحتبس الرَّكب والسَّفر! فضحك صلّى الله عليه وآله وقال: « هذه سرعةُ مَلالة ابن آدم ». ثمّ قال: « اللّهمّ حوالَينا ولا عَلَينا، اللّهم في أصول الشِّيح ومراتع البقع ». فرُئي حوالي المدينة المطر يقطر قطراً؛ وما يقع في المدينة قطرة لكرامته على الله عزّوجلّ.
قال له اليهودي: فإنّ هذا هود قد انتصر الله له من أعدائه بالريح، فهل فعل بمحمّد صلّى الله عليه وآله شيئاً من هذا ؟ قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ الله عزّوجلّ ذِكْرُه انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق إذ أرسل عليهم ريحاً تذرو الحصى، وجنوداً لم يروها، فزاد الله تبارك وتعالى محمّداً صلّى الله عليه وآله على هود بثمانية آلاف مَلَك، وفضّله على هود بأنّ ريح عاد ريح سخط، وريح محمّد صلّى الله عليه وآله ريح رحمة، قال الله تبارك وتعالى:  يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم اذ جاءكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها  (13).
قال له اليهودي: فإنّ هذا صالحاً أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة.
قال عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من ذلك، إنّ ناقة صالح لم تكلّم صالحاً، ولم تناطقه، ولم تشهد له بالنبوّة، ومحمّد صلّى الله عليه وآله بينما نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا ثمّ رغا (14)، فأنطقه الله عزّوجلّ فقال: يا رسول الله، إنّ فلاناً استعملني حتّى كبرت ويريد نحري، فأنا أستعيذ بك منه. فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى صاحبه فاستوهبه منه فوهبه له وخلاّه. ولقد كنّا معه فإذا نحن بأعرابيّ معه ناقة له يسوقها، وقد استسلم للقطع لما زُوّر عليه (15) من الشهود، فنطقت له الناقة فقالت: يا رسول الله، إنّ فلاناً منّي بريء، وإن الشهود يشهدون عليه بالزور، وإنّ سارقي فلان اليهوديّ.
قال له اليهودي: فإنّ هذا إبراهيم قد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى، وأحاطت دلالته بعلم الإيمان به.
قال له عليه السّلام: لقد كان كذلك، وأُعطي محمّد صلّى الله عليه وآله أفضل من ذلك، قد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى، وأحاطت دلالته بعلم الإيمان به، وتيقّظ إبراهيم عليه السّلام وهو ابن خمس عشرة سنة، ومحمّد صلّى الله عليه وآله كان ابن سبع سنين، قدم تجّارٌ من النصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصفا والمروة، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ونعته وخبر مبعثه وآياته صلّى الله عليه وآله، فقالوا له: يا غلام، ما اسمك ؟ قال: محمّد، قالوا: ما اسم أبيك ؟ قال: عبدالله، قالوا: ما اسم هذه ؟ وأشاروا بأيديهم إلى الأرض، قال: الأرض. قالوا: فما اسم هذه ؟ وأشاروا بايديهم إلى السماء، قال: السماء، قالوا: فمن ربّهما ؟ قال: الله. ثمّ انتهرهم وقال: أتشكّكونني في الله عزّوجلّ ؟! ويحك يا يهودي! لقد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله عزّوجلّ مع كفر قومه، إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام، ويعبدون الأوثان، وهو يقول: لا إله إلاّ الله.
قال اليهودي: فإنّ إبراهيم حُجِب عن نمرود بحجب ثلاثة (16).
فقال عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله حُجب عمّن أراد قتله بحجب خمسة. فثلاثة بثلاثة، واثنان فضل، قال الله عزّوجلّ وهو يصف أمر محمّد صلّى الله عليه وآله فقال: وجعَلْنا من بين أيديهم سَدّاً  فهذا الحجاب الأوّل،  ومن خَلفِهم سدّاً  فهذا الحجاب الثاني، فأغشَيناهم فهم لا يُبصرون  (17) فهذا الحجاب الثالث، ثمّ قال:  وإذا قَرأتَ القرآنَ جعَلْنا بينَك وبينَ الّذين لا يُؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً  (18)، فهذا الحجاب الرابع، ثمّ قال:  فهيَ إلى الأذقانِ فهُم مُقمَحون  (19)، فهذه حجب خمسة.
قال اليهودي: فإنّ إبراهيم عليه السّلام قد بُهِت الذي كفر ببرهان نبوّته.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أتاه مكذِّبٌ بالبعث بعد الموت، وهو أُبيّ بن خلف الجُمحي معه عظم نخر ففركه (20)، ثمّ قال: يا محمّد، مَن يحيي العظام وهي رميم ؟ فأنطق الله محمّداً بمحكم آياته، وبهته ببرهان نبوّته فقال  يُحييها الّذي أنشأها أوّلَ مرّةٍ وهو بكلِّ خَلْق عليم  (21)، فانصرف مبهوتاً.
قال له اليهودي: فإنّ هذا إبراهيم جذّ أصنام قومه (22) غضباً لله عزّوجلّ.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله قد نكّس عن الكعبة ثلاثمئة وستيّن صنماً، ونفاها من جزيرة العرب، وأذلّ مَن عَبَدها بالسيف.
قال له اليهودي: فإنّ هذا إبراهيم قد أضجع ولده وتَلَّه للجبين (23).
فقال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ولقد أُعطي إبراهيم بعد الاضجاع الفداء، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُصيب بأفجع منه فجيعة، إنّه وقف صلّى الله عليه وآله على عمّه حمزة أسد الله وأسد رسوله وناصر دينه، وقد فُرّق بين روحه وجسده فلم يبيّن عليه حرقة، ولم يفض عليه عبرة، ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عزّوجلّ بصبره، ويستسلم لأمره في جميع الفعال، وقال صلّى الله عليه وآله: لولا أن تحزن صفيّة لتركته حتّى يُحشر من بطون السباع وحواصل الطير، ولولا أن يكون سنّة بعدي لفعلتُ ذلك.
قال له اليهوديّ: فإنّ إبراهيم عليه السّلام قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر، فجعل الله عزّوجلّ النار عليه برداً وسلاماً، فهل فعل بمحمّد شيئاً من ذلك ؟
قال له عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله لمّا نزل بخيبر سَمّته الخيبريّة فصيّر الله السمّ في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، فالسمّ يحرق إذا استقرّ في الجوف، كما أنّ النّار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا يعقوب عليه السّلام أُعظِم في الخير نَصيبُه، إذ جُعل الأسباط من سُلالة صُلبه، ومريم ابنة عمران من بناته.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أعظم في الخير نصيباً منه، إذ جُعل فاطمة سيّدة نساء العالمين من بناته، والحسن والحسين من حفدته.
قال له اليهوديّ: فإنّ يعقوب قد صبر على فراق ولده حتّى كاد يحرض من الحزن. (24)
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، وكان حزن يعقوب عليه السّلام حزناً بعده تلاقٍ، ومحمّد صلّى الله عليه وآله قُبض ولده إبراهيم قرّة عينه في حياة منه، وخصّه بالاختبار ليعظّم له الادّخار، فقال صلّى الله عليه وآله: « تحزن النفس ويجزع القلب، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول ما يُسخط الربّ »، في كلّ ذلك يؤثر الرضى عن الله عزّ ذِكره، والاستسلام له في جميع الفعال.
فقال له اليهوديّ: فإنّ هذا يوسف قاسى مرارة الفُرقة، وحُبس في السجن توقّياً للمعصية، فأُلقي في الجبّ وحيداً.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله قاسى مرارة الغربة، وفارق الأهل والأولاد والمال مهاجراً من حرم الله تعالى وأمنه، فلمّا رأى الله عزّوجلّ كآبته واستشعاره الحزن (25)، أراه تبارك وتعالى اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف عليه السّلام في تأويلها، وأبان للعالمين صدق تحقيقها، فقال:  لقد صدَقَ اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقّ لَتدخلُنّ المسجد الحرامَ إن شاء اللهُ آمِنين محلّقين رؤوسَكم ومُقصّرين لا تخافون  (26). ولئن كان يوسف عليه السّلام حُبس في السجن فلقد حُبس رسول الله صلّى الله عليه وآله نفسه في الشِّعب ثلاث سنين، وقطع منه أقاربه وذوو الرحم، وألجأوه إلى أضيق المضيق، فلقد كادهم الله عزّ ذكره له كيداً مستبيتاً إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه. ولئن كان يوسف عليه السّلام ألقي في الجُبّ فلقد حَبَس محمّد صلّى الله عليه وآله نفسه مخافة عدوّه في الغار حتّى قال لصاحبه:  لا تحزنْ إنّ الله معنا  (27)، ومدحه الله بذلك في كتابه.
فقال له اليهوديّ: فهذا موسى بن عمران عليه السّلام آتاه الله التوراة التي فيها حكمه.
قال له عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل منه، أُعطي محمّد صلّى الله عليه وآله سورة البقرة والمائدة بالإنجيل، وطواسين وطه ونصف المفصّل والحواميم بالتوراة، وأعطي نصف المفصّل والتسابيح بالزبور؛ وأعطي سورة بني إسرائيل وبراءة بصحف إبراهيم عليه السّلام وصحف موسى عليه السّلام، وزاد الله عزّ ذكره محمّداً صلّى الله عليه وآله السبع الطوال (28)، وفاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وأعطي الكتاب والحكمة.
قال له اليهوديّ: فإنّ موسى عليه السّلام ناجاه الله عزّوجلّ على طور سيناء.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ولقد أوحى الله عزّوجلّ إلى محمّد صلّى الله عليه وآله عند سدرة المنتهى، فمقامه في السماء محمود، وعند منتهى العرش مذكور.
قال له اليهوديّ: فلقد ألقى الله على موسى عليه السّلام محبّة منه.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ولقد أعطى الله محمّداً صلّى الله عليه وآله ما هو أفضل منه، لقد ألقى الله عزّوجلّ عليه محبّة منه، فمن هذا الذي يشركه في هذا الاسم إذ تمّ من الله عزّوجلّ به الشهادة، فلا تتمّ الشهادة إلاّ أن يُقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله، يُنادى به على المنابر، فلا يُرفَع صوت بذكر الله عزّوجلّ إلاّ رُفع بذكر محمّد صلّى الله عليه وآله معه.
قال له اليهوديّ: فلقد أوحى الله إلى أمّ موسى لفضل منزلة موسى عليه السّلام عند الله عزّوجلّ.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ولقد لطف الله جلّ ثناؤه لأمّ محمّد صلّى الله عليه وآله بأن أوصل إليها اسمه حتّى قالت:

أشهد والعالمون أنّ محمّداً رسول الله منتظرُ

وشهد الملائكة على الأنبياء أنّهم أثبتوه في الأسفار (29)، وبلطف من الله عزّوجلّ ساقه إليها، ووصل (30) إليها اسمه لفضل منزلته عنده حتّى رأت في المنام أنّه قيل لها: إنّ ما في بطنك سيّد، فإذا ولدتِه فسمّيه محمّداً، فاشتقّ الله له اسماً من أسمائه، فالله محمود (31)، وهذا محمّد.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا موسى بن عمران عليه السّلام قد أرسله الله إلى فرعون وأراه الآية الكبرى.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد أرسله إلى فراعنة شتّى، مثل أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة، وأبي البختري، والنضر بن الحارث، وأُبيّ بن خلف، ومنبّه ونبيه ابني الحجّاج، وإلى الخمسة المستهزئين: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهريّ، والأسود بن المطّلب، والحارث ابن الطلاطلة (32)، فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتّى تبيّن لهم أنّه الحقّ.
قال له اليهوديّ: لقد انتقم الله لموسى عليه السّلام من فرعون.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ولقد انتقم الله جلّ اسمه لمحمد صلّى الله عليه وآله من الفراعنة، فأمّا المستهزئون فقد قال الله عزّوجلّ:  إنّا كفيناك المستهزئين  (33)، فقتَلَ الله خمستهم، كلّ واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأمّا الوليد بن المغيرة فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه ووضعه في الطريق فأصابه شظيّة منه فانقطع أكحله حتّى أدماه فمات وهو يقول: قتلني ربُّ محمّد.
وأمّا العاص بن وائل فإنّه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده (34) تحته حجر فسقط فتقطّع قطعة قطعة فمات، وهو يقول: قتلني ربُّ محمّد.
وأمّا الأسود بن عبد يغوث فإنّه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظلّ بشجرة فأتاه جبرئيل عليه السّلام فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع عنّي هذا، فقال: ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلاّ نفسك، فقتله وهو يقول: قتلني ربُّ محمّد.
وأمّا الأسود بن المطّلب فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله دعا عليه أن يُعمي الله بصره، وأن يثكله ولده، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتّى صار إلى موضع فأتاه جبرئيل عليه السّلام بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي وبقي حتّى أثكله الله ولده.
وأمّا الحارث بن الطلاطلة فإنّه خرج من بيته في السموم (35) فتحوّل حبشيّاً، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث، فغضبوا عليه فقتلوه، وهو يقول: قتلني ربّ محمّد.
وروي أنّ الأسود بن الحارث أكل حوتاً مالحاً فأصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتّى انشقّ بطنه فمات، وهو يقول: قتلني ربّ محمّد. كلّ ذلك في ساعة واحدة، وذلك أنّهم كانوا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقالوا له: يا محمّد ننتظر بك إلى الظهر، فإن رجعت عن قولك وإلاّ قتلناك. فدخل النبيّ صلّى الله عليه وآله منزله فأغلق عليه بابه مغتمّاً لقولهم، فأتاه جبرئيل عليه عن الله ساعته(36) فقال له: يا محمّد السّلام يقرأ عليك السّلام، وهو يقول:  اصدَعْ بما تُؤمَرُ وأعرِضْ عن المشركين  (37)، يعني أظهِرْ أمرك لأهل مكّة، وادعْهم إلى الإيمان.
قال: يا جبرئيل، كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال له:  إنّا كفيناك المستهزئين  (38).
قال: يا جبرئيل، كانوا الساعة بين يديّ، قال: قد كُفِيتَهم. فأظهر أمره عند ذلك، وأمّا بقيّتهم من الفراعنة (39) فقُتلوا يوم بدر بالسيف، وهزم الله الجمع وولّوا الدبر.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا موسى بن عمران عليه السّلام قد أُعطي العصا فكانت تتحوّل ثعباناً.
قال له عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ رجلاً كان يطالب أبا جهل بن هشام بدَين ثمن جزور قد اشتراه، فاشتغل عنه وجلس يشرب، فطلبه الرجل فلم يقدر عليه، فقال له بعض المستهزئين: من تطلب ؟ قال: عمرو بن هشام ـ يعني أبا جهل ـ لي عليه دين، قال: فأدلّك على من يستخرج الحقوق ؟ قال: نعم. فدلّه على النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكان أبو جهل يقول: ليت لمحمّد إليّ حاجة فأسخر به وأردّه. فأتى الرجلُ النبيَّ صلّى الله عليه وآله فقال له: يا محمّد، بلغني أنّ بينك وبين عمرو بن هشام حسن (40)، وأنا أستشفع بك إليه. فقام معه رسول الله صلّى الله عليه وآله فأتى بابه فقال له: قم يا أبا جهل فأدّ إلى الرجل حقّه. وإنّما كَنّاه أبا جهل (41) ذلك اليوم، فقام مسرعاً حتّى أدّى إليه حقّه، فلمّا رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه: فعلتَ ذلك فَرَقا من محمّد (42)، قال: وَيْحكم اعذروني، إنّه لما أقبل رأيت عن يمينه رجالاً بأيديهم حراب تتلألأ، وعن يساره ثعبانان (43) تصطكّ أسنانهما، وتلمع النيران من أبصارهما، لو امتنعتُ لم آمن أن يبعجوا (44) بالحراب بطني، ويقضمني الثعبانان. هذا أكبر ممّا أُعطي موسى عليه السّلام، ثعبان بثعبان موسى عليه السّلام، وزاد الله محمّداً صلّى الله عليه وآله ثعباناً وثمانية أملاك معهم الحراب، ولقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يؤذي قريشاً بالدعاء، فقام يوماً فسفّه أحلامهم(45) وعاب دينهم، وشتم أصنامهم، وضلّل آباءهم، فاغتمّوا من ذلك غمّاً شديداً، فقال أبو جهل: واللهِ لَلموتُ خير لنا من الحياة، فليس فيكم معاشرَ قريش أحد يقتل محمّداً فيُقتَل به ؟ فقالوا له: لا، قال: فأنا أقتله، فإن شاءت بنو عبدالمطّلب قتلوني به، وإلاّ تركوني، قالوا: إنّك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي معروفاً لا تزال تُذكر به، قال: إنّه كثير السجود حول الكعبة، فإذا جاء وسجد أخذتُ حجراً فشدخته به. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله فطاف بالبيت أُسبوعاً ثمّ صلّى وأطال السجود، فأخذ أبو جهل حجراً فأتاه من قِبل رأسه، فلمّا أن قرب منه أقبل فحل من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله فاغراً فاه (46) نحوه، فلمّا أن رآه أبو جهل فزع منه. وارتعدت يده، وطرح الحجر فشدخ رجله، فرجع مدمّى متغيّر اللون يفيض عرقاً، فقال له أصحابه: ما رأينا كاليوم (47)، قال: وَيْحكم اعذروني، فإنّه أقبل من عنده فحل فاغراً فاه فكاد يبلعني، فرميتُ بالحجر فشدخت رجلي.
قال له اليهوديّ: فإنّ موسى عليه السّلام قد أُعطيَ اليد البيضاء، فهل فُعل بمحمّد شيء من هذا ؟
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ نوراً كان يضيء عن يمينه حيثما جلس، وعن يساره أينما جلس، وكان يراه الناس كلّهم.
قال له اليهوديّ: فإنّ موسى عليه السّلام قد ضُرِب له في البحر طريق، فهل فُعل بمحمّد شيء من هذا ؟
فقال له علي عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا. خرجنا معه إلى حُنَين فإذا نحن بوادٍ يشخب (48)، فقدرّناه فإذا هو أربع عشرة قامة، فقالوا: يا رسول الله، العدوّ من ورائنا، والوادي أمامنا، كما قال أصحاب موسى: إنّا لَمُدرَكون، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ قال: « اللّهم إنّك جعلتَ لكلّ مرسل دلالة، فأرني قدرتك »، وركب صلوات الله عليه وآله فعبرت الخيل لا تندى (49) حوافرها، والإبل لا تندى أخفافها، فرجعنا فكان فتحنا.
قال له اليهوديّ: فإنّ موسى عليه السّلام قد أُعطي الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عيناً.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله لمّا نزل الحديبيّة وحاصره أهل مكّة قد أُعطي أفضل من ذلك (50)، وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه الظماء وأصابهم ذلك حتّى التقت خواصر الخيل، فذكروا له ذلك، فدعا بركوة يمانيّة، ثمّ نصب يده المباركة فيها فتفجّرت من بين أصابعه عيون الماء، فصدرنا (51) وصدرت الخيل رواء وملأنا كلّ مزادة (52) وسقاء، ولقد كنّا معه بالحديبيّة وإذا ثَمّ قليب (53) جافّة، فأخرج صلّى الله عليه وآله سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب فقال له: اذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافّة فاغرسه فيها. ففعل ذلك فتفجّرت منه اثنتا عشرة عيناً من تحت السهم، ولقد كان يوم الميضأة (54) عبرة وعلامة للمنكرين لنبوّته، كحجر موسى عليه السّلام حيث دعا بالميضأة فنصب يده فيها، ففاضت بالماء وارتفع حتّى توضّأ منه ثمانية آلاف رجل، وشربوا حاجتهم، وسقوا دوابّهم، وحملوا ما أرادوا.
قال له اليهوديّ: فإنّ موسى عليه السّلام قد أُعطي المنّ والسلوى، فهل فعل بمحمّد نظير هذا ؟.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ الله عزّوجلّ أحلّ له الغنائم ولأمّته، ولم تحلّ لأحد قبله، فهذا أفضل من المنّ والسلوى، ثمّ زاده أن جعل النيّة له ولأمّته عملاً صالحاً (55)، ولم يجعل لأحد من الأمم ذلك قبله، فإذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كُتبت له حسنة، وإنْ عَمِلها كُتبت له عشر.
قال له اليهوديّ: فإنّ موسى عليه السّلام قد ظَلّل عليه الغمام.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، وقد فعل ذلك لموسى عليه السّلام في التيه، وأعطي محمّد صلّى الله عليه وآله أفضل من هذا، إنّ الغمامة كانت تظلّله من يوم وُلد إلى يوم قُبض في حضره وأسفاره، فهذا أفضل ممّا أُعطي موسى عليه السّلام.
قال له اليهوديّ: فهذا داود عليه السّلام قد ألان الله عزّوجلّ له الحديد (56)، فعمل منه الدروع.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد أُعطي ما هو أفضل منه، إنّه ليّن اللهُ عزّوجلّ له الصمَّ الصخور الصلاب، وجعلها غاراً (57)، ولقد غارت الصخرة تحت يده ببيت المقدس ليّنةً حتّى صارت كهيئة العجين، قد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا داود عليه السّلام بكى على خطيئته حتّى سارت الجبال معه لخوفه.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّه كان إذا قام إلى الصلاة سُمع لصدره وجوفه أزيزٌ كأزيز المِرجَل على الأثافيّ من شدّة البكاء، وقد آمنه الله عزّوجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه، ويكون إماماً لمن اقتدى به، ولقد قام صلّى الله عليه وآله عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه، يقوم الليل أجمع حتّى عُوتب في ذلك فقال الله عزّوجلّ:  طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى  (58)، بل لتسعد به. ولقد كان يبكي حتّى يُغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله، أليس الله عزّوجلّ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال: بلى، أفلا أكون عبداً شكوراً. ولئن سارت الجبال وسبّحت معه لقد عمل محمّد صلّى الله عليه وآله ما هو أفضل من هذا، إذ كنّا معه على جبل حِراء إذ تحرّك الجبل فقال له: قُرَّ فليس عليك(59) إلاّ نبيّ وصدّيق شهيد. فقرّ الجبل مجيباً لأمره، ومنتهياً إلى طاعته، ولقد مررنا معه بجبل وإذا الدموع تخرج من بعضه، فقال له (60): ما يبكيك يا جبل ؟ فقال: يا رسول الله، كان المسيح مرّ بي وهو يخوّف الناس بنار (61) وَقودُها الناس والحجارة، فأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة، قال له: لا تخف، تلك حجارة (62) الكبريت. فقرّ الجبل وسكن وهدأ وأجاب لقوله.
قال له اليهودي: فإنّ هذا سليمان عليه السّلام أُعطي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
فقال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّه هبط إليه مَلَك لم يهبط إلى الأرض قبله وهو ميكائيل.
فقال له: يا محمّد، عِشْ مَلِكاً منعّماً، وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك، وتسير (63) معك جبالها ذهباً وفضّة، لا ينقص لك فيما ادُّخِر لك (64) في الآخرة شيء. فأومأ إلى جبرئيل عليه السّلام ـ وكان خليلَه من الملائكة ـ فأشار إليه أن تواضع، فقال: بل أعيش نبيّاً عبداً؛ آكل يوماً، ولا آكل يومين، وألحق بإخواني من الأنبياء من قبلي. فزاده الله تعالى الكوثر، وأعطاه الشفاعة، وذلك أعظم من مُلك الدنيا من أوّلها إلى آخرها سبعين مرّة، ووعده المقام المحمود، فإذا كان يومُ القيامة أقعده الله تعالى على العرش، فهذا أفضل ممّا أُعطي سليمان بن داود عليه السّلام.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا سليمان عليه السّلام قد سُخّرت له الرياح فسارت به في بلاده، غدوُّها شهر ورَواحها شهر.
فقال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعُرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتّى انتهى إلى ساق العرش، فدنا بالعلم فتدلّى، فدُلي له من الجنّة رفرف أخضر، وغشيَ النورُ بصره، فرأى عظمةَ ربّه عزّوجلّ بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان قابَ قوسين بينها وبينه أو أدنى، فأوحى (65) إلى عبده ما أوحى، فكان فيما أوحى إليه الآية الّتي في سورة البقرة قوله:  للهِ ما في السماواتِ وما في الأرضِ وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تُخْفوه يُحاسِبْكم بهِ اللهُ فيغفرُ لمَن يشاء ويُعذّبُ مَن يشاءُ واللهُ على كلّ شيءٍ قدير ، وكانت الآية قد عُرضت على الأنبياء من لدن آدم عليه السّلام إلى أن بعث الله تبارك اسمه محمّداً، وعُرضت على الأُمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وعرضها على أمّته فقبلوها، فلمّا رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنّهم لا يطيقونها، فلمّا أن صار إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه، فقال:  آمَنَ الرسولُ بما أُنزِلَ إليه مِن ربِّه ، فأجاب صلّى الله عليه وآله مجيباً عنه وعن أُمّته فقال:  والمؤمنونَ كلٌّ آمنَ باللهِ وملائكتِه وكُتبهِ ورُسلِه لا نُفرِّقُ بين أحدٍ من رُسِله ، فقال جلّ ذكره: لهم الجنّة والمغفرة علَيّ إن فعلوا ذلك، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: أمّا إذ فعلتَ(66) بنا ذلك فـ  غفرانَك ربَّنا وإليك المصير ، يعني المرجع في الآخرة، قال:فأجابه الله جل ثناؤه: وقد فعلتُ ذلك بك وبأُمّتك. ثم قال عزّوجلّ: أمّا إذ قبلت (67) الآية بتشديدها وعِظم ما فيها وقد عرضتُها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلَتْها أُمّتك، فحقّ علَيّ أن أرفعها عن أُمّتك، فقال:  لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وُسْعَها لها ما كسَبتْ  من خير  وعليها ما اكتسَبَتْ  من شرّ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله، لمّا سمع ذلك: أمّا إذ فعلتَ ذلك بي وبأُمّتي فزدني، قال: سل، قال:  ربّنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطَأنْا ، قال الله عزّوجلّ: لستُ أُؤاخذ أُمّتك بالنسيان والخطأ لكرامتك علَيّ، وكانت الأُمم السالفة إذا نَسُوا ما ذُكّروا به فُتحت عليهم أبواب العذاب، وقد رفعتُ ذلك عن أُمّتك، وكانت الأُمم السالفة إذا أخطأوا أُخذوا بالخطأ وعُوقبوا عليه، وقد رفعت ذلك عن أُمّتك لكرامتك علَيّ.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: اللّهمّ إذ أعطيتني ذلك فزدني، فقال الله تعالى له: سل، قال:  ربّنا ولا تَحملْ علينا إصراً كما حملتَه على الّذين مِن قَبلِنا  يعني بالإصر الشدائدَ الّتي كانت على من كان قبلنا، فأجابه الله إلى ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعتُ عن أمّتك الآصار الّتي كانت على الأُمم السالفة، كنتُ لا أقبل صلاتهم إلاّ في بقاع من الأرض معلومة (68) اخترتها لهم وإن بَعُدتْ، وقد جعلت الأرض كلّها لأُمّتك مسجداً وطهوراً، فهذه من الآصار الّتي كانت على الأُمم قبلك فرفعتُها عن أُمّتك، وكانت الأُمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم، وقد جعلت الماء لأُمّتك طهوراً، فهذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتُها عن أُمّتك، وكانت الأُمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس، فمَن قبلتُ ذلك منه أرسلتُ عليه ناراً فأكلَتْه، فرجع مسروراً، ومن لم أقبل ذلك منه رجع مثبوراً (69)، وقد جعلت قربان أُمّتك في بطون فقرائها ومساكينها، فمن قبلتُ ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافاً مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه رفعتُ عنه عقوبات الدنيا، وقد رفعتُ ذلك عن أمّتك وهي من الآصار الّتي كانت على من كان قبلك، وكانت الأُمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي من الشدائد الّتي كانت عليهم، فرفعتها عن أُمّتك، وفرضت عليهم صلاتهم في أطراف الليل والنهار، في أوقات نشاطهم، وكانت الأُمم السالفة قد فرضتُ عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتاً، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم، فرفعتها عن أُمّتك، وجعلتها خمساً في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة، وجعلتُ لهم أجر خمسين صلاة، وكانت الأُمم السالفة حسنتهم بحسنة، وسيّئتهم بسيّئة، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم، فرفعتها عن أُمّتك، وجعلت الحسنة بعشرة والسيّئة بواحدة، وكانت الأُمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثمّ لم يعملها لم تُكتب له، وإن عملها كُتبت له حسنة، وإنّ أُمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كُتبت له عشراً، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها عن أُمّتك، وكانت الأُمم السالفة إذا همّ أحدهم بسيّئة ثمّ لم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه سيّئة، وإنّ أمّتك إذا همّ أحدهم بسيّئة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار الّتي كانت عليهم، فرفعتُ ذلك عن أُمّتك، وكانت الأُمم السالفة إذا أذنبوا كُتبت ذنوبهم على أبوابهم، وجعلتُ توبتهم من الذنوب أن حرّمت عليهم بعد التوبة أحبَّ الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أُمّتك، وجعلتُ ذنوبهم فيما بيني وبينهم، وجعلت عليهم ستوراً كثيفة، وقبلت توبتهم بلا عقوبة، ولا أُعاقبهم بأن أُحرّم عليهم أحبّ الطعام إليهم، وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مئة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثمّ لا أقبل توبته دون أن أُعاقبه في الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم، فرفعتها عن أُمّتك، وإنّ الرجل من أُمّتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مئة سنة ثمّ يتوب ويندم طرفة عين فأغفر له ذلك كلّه.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: اللّهم إذ أعطيتَني ذلك كلّه فزدني، قال: سل، قال:  ربَّنا ولا تُحمّلْنا ما لا طاقةَ لنا به ، قال تبارك اسمه: قد فعلتُ ذلك بأُمّتك، وقد رفعت عنهم عِظم بلايا الأمم، وذلك حُكمي في جميع الأمم أن لا أُكلّف خَلْقاً فوق طاقتهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله:  واعفُ عنّا واغفرْ لنا وارحمْنا أنت مولانا ، قال الله عزّوجلّ: قد فعلتُ ذلك بتائبي أُمّتك، ثمّ قال صلّى الله عليه وآله:  فانصُرْنا على القومِ الكافرين  (70)، قال الله عزّ اسمه: إنّ أُمّتك في الأرض كالشامة(71) البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، وهم القاهرون، يَستخدمون ولا يُستخدمون لكرامتك علَيّ، وحقّ علَيّ أن أُظهر دينك على الأديان حتّى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلاّ دينك، أو يؤدّون إلى أهل دينك الجزية.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا سليمان عليه السّلام سُخّرت له الشياطين، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ولقد أُعطي محمّد صلّى الله عليه وآله أفضل من هذا، إنّ الشياطين سُخّرت لسليمان عليه السّلام وهي مقيمة على كفرها، وقد سُخّرت لنبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله الشياطين بالإيمان، فأقبل إليه الجنّ التسعة من أشرافهم من جن نصيبين واليمن من بني عمرو بن عامر (72) من الأحجّة (73)، منهم شضاه، ومضاه، والهملكان، والمرزبان، والمازمان، ونضاه، وهاصب، وهاضب (74)، وعمرو، وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم:  وإذ صَرَفْنا إليك نفراً من الجنّ  وهم التسعة  يستمعون القرآن  (75)، فأقبل إليه الجنّ والنبيّ صلّى الله عليه وآله ببطن النخل، فاعتذروا بأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحجّ والجهاد ونصحِ المسلمين، فاعتذروا بأنّهم قالوا على الله شططاً، وهذا أفضل ممّا أُعطي سليمان عليه السّلام، سبحان من سخّرها لنبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله بعد أن كانت تتمرّد وتزعم أنّ لله ولداً، فلقد شمل مبعثُه من الجنّ والإنس ما لا يُحصى.
قال له اليهوديّ: فهذا يحيى بن زكريّا عليه السّلام يقال: إنّه أُوتي الحكم صبيّاً، والحلم والفهم، وإنّه كان يبكي من غير ذنب، وكان يواصل الصوم.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ يحيى بن زكريّا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهليّة، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أُوتي الحكم والفهم صبيّاً بين عَبَدة الأوثان، وحزب الشيطان، ولم يرغب لهم في صنم قطّ، ولم ينشط لأعيادهم ولم يُرَ منه كذب قطّ صلّى الله عليه وآله.
وكان أميناً صدوقاً حليماً، وكان يواصل صوم الأُسبوع والأقلّ والأكثر، فيقال له في ذلك فيقول: « إنّي لستُ كأحدكم، إنّي أظلّ عند ربّي فيطعمني ويسقيني »، وكان يبكي صلّى الله عليه وآله حتّى يبتلّ مصلاّه، خشيةً من الله عزّوجلّ من غير جرم.
قال له اليهوديّ: فإنّ هذا عيسى ابن مريم عليه السّلام يزعمون أنّه تكلّم في المهد صبيّاً.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله سقط من بطن أُمّه واضعاً يده اليسرى على الأرض، ورافعاً يده اليمنى إلى السماء، يحرّك شفتيه بالتوحيد، وبدا مِن فِيه نور رأى أهلُ مكّة منه قصور بُصرى (76) من الشام وما يليها، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من إصطخر وما يليها، ولقد أضاءت الدنيا ليلةَ وُلِد النبيّ صلّى الله عليه وآله حتّى فزعت الجنّ والإنس والشياطين، وقالوا: حدث في الأرض حدث! ولقد رُئيت الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبّح وتقدّس، وتضطرب النجوم وتتساقط، علامةً لميلاده، ولقد همّ إبليس بالظعن في السماء لمّا رأى من الأعاجيب في تلك الليلة، وكان له مقعد في السماء الثالثة، والشياطين يسترقون السمع، فلمّا رأوا الأعاجيب أرادوا أن يسترقوا السمع فإذا هم قد حُجبوا من السماوات كلّها، ورُموا بالشهب دلالة لنبوّته صلّى الله عليه وآله.
قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى يزعمون أنّه قد أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله عزّوجلّ.
فقال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أبرأ ذا العاهة من عاهته، فبينما هو جالس صلّى الله عليه وآله إذ سأل عن رجل من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله إنّه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه (77)، فأتاه صلّى الله عليه وآله فإذا هو كهيئة الفرخ من شدّة البلاء، فقال: قد كنتَ تدعو في صحّتك دعاء ؟ قال: نعم، كنت أقول: يا ربّ أيّما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فعجّلْها لي في الدنيا.
فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: ألا قلت:  اللّهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار ، فقالها (78) فكأنّما نُشط من عقال، وقام صحيحاً وخرج معنا ـ ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطّع من الجذام، فشكا إليه صلّى الله عليه وآله فأخذ قدحاً من ماء فتفل فيه، ثمّ قال: امسح به جسدك، ففعل فبرئ حتّى لم يوجد فيه شيء. ولقد أُتي النبيّ بأعرابيّ (79) أبرص فتفل مِن فيه عليه، فما قام من عنده إلاّ صحيحاً. ولئن زعمتَ أنّ عيسى عليه السّلام أبرأ ذوي العاهات من عاهاتهم، فإنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله بينما هو في بعض أصحابه إذا هو بامرأة فقالت: يا رسول الله، إنّ ابني قد أشرف على حياض الموت، كلمّا أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب، فقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وقمنا معه، فلمّا أتيناه قال له: جانب (80) يا عدوّ الله وليّ الله، فأنا رسول الله، فجانبه الشيطان فقام صحيحاً وهو معنا في عسكرنا. ولئن زعمت أنّ عيسى عليه السّلام أبرأ العميان، فإنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله قد فعل ما هو أكثر من ذلك (81)، إنّ قتادة بن رِبْعي كان رجلاً صبيحاً، فلماآ أن كان يوم أُحد أصابته طعنة في عينه، فبدرت (82) حدقته فأخذها بيده، ثمّ أتى بها النبيِّ صلّى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني، فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله من يده، ثمّ وضعها مكانها، فلم تكن تُعرف إلاّ بفضل حسنها، وفضل ضوئها على العين الأخرى.
ولقد جُرح عبدالله بن عتيك وبانت يده يوم ابن أبي الحقيق، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله ليلاً، فمسح عليه يده (83)، فلم تكن تُعرف من اليد الأخرى.
ولقد أصاب محمّدَ بن مسلمة يوم كعب بن الأشرف مثلُ ذلك في عينه ويده، فمسحه رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم تستبينا.
ولقد أصاب عبدالله بن أنيس مثلُ ذلك في عينه فمسحها فما عُرفت من الأُخرى، فهذه كلّها دلالة لنبوّته صلّى الله عليه وآله.
قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى يزعمون أنّه قد أحيى الموتى بإذن الله.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان ذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله سبّحت في يده تسعُ حصيّات، تُسمع نغماتها في جمودها ولا روح فيها، لتمام حجّة نبوّته، ولقد كلّمته الموتى من بعد موتهم، واستغاثوه ممّا خافوا من تبعته (84). ولقد صلّى بأصحابه ذات يوم فقال: ما ها هنا من بني النجّار أحد، وصاحبهم محتبس على باب الجنّة بثلاثة دراهم لفلان اليهوديّ، وكان شهيداً.
ولئن زعمتَ أنّ عيسى عليه السّلام كلّم الموتى، فلقد كان لمحمّد صلّى الله عليه وآله ما هو أعجب من هذا، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا نزل بالطائف وحاصر أهلها بعثوا إليه بشاة مسلوخة مطليّة بسمّ (85)، فنطق الذراع منها، فقالت: يا رسول الله لا تأكلني فإنّي مسمومة، فلو كلّمته البهيمة وهي حيّة لكانت من أعظم حجج الله عزّ ذكره على المنكرين لنبوّته، فكيف وقد كلّمته من بعد ذبح وسلخ وشيّ (86) ؟! ولقد كان صلّى الله عليه وآله يدعو بالشجرة فتجيبه، وتكلّمه البهيمة وتكلّمه السباع، وتشهد له بالنبوّة، وتحذّرهم عصيانه، فهذا أكثر ممّا أُعطي عيسى عليه السّلام.
قال له اليهوديّ: إنّ عيسى يزعمون أنّه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله فعل ما هو أكثر من هذا (87)، إنّ عيسى عليه السّلام أنبأ قومه بما كان من وراء حائط، ومحمّد أنبأ عن مؤتة (88) وهو عنها غائب ووصف حربهم ومن استُشهد منهم، وبينهم مسيرة شهر.
وكان يأتيه الرجل يريد أن يسأله عن شيء فيقول صلّى الله عليه وآله: تقول أو أقول ؟ فيقول: بل قل يا رسول الله، فيقول: جئتَني في كذا وكذا، حتّى يفرغ من حاجته.
ولقد كان صلّى الله عليه وآله يخبر أهل مكّة بأسرارهم بمكّة حتّى لا يترك من أسرارهم (89) شيئاً منها ما كان بين صفوان بن أُميّة وبين عمير بن وهب، إذ أتاه عمير فقال: جئت في فكاك ابني، فقال له: كذبت، بل قلتَ لصفوان وقد اجتمعتم في الحطيم، وذكرتم قتلى بدر: واللهِ لَلموت خير لنا من البقاء (90) مع ما صنع محمّد بنا، وهل حياة بعد أهل القليب ؟! فقلت أنت: لولا عيالي ودَين علَيّ لأرحتك من محمّد، فقال صفوان: علَيّ أن أقضي دينك، وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنّ ما يصيبهنّ من خيرٍ أو شرّ، فقلت أنت: فاكتمها علَيّ، وجهّزني حتّى أذهب فأقتله. فجئت لتقتلني، فقال: صدقت يا رسول الله، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله. وأنّك رسول الله، وأشباه هذا ممّا لا يحصى.
قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى يزعمون أنّه خلق (91) من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله عزّوجلّ.
فقال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله قد فعل ما هو شبيه بهذا إذ أخذ(92) يوم حنين حجراً فسمعنا للحجر تسبيحاً وتقديساً، ثمّ قال للحجر: اِنفلقْ، فانفلق ثلاث فلق نسمع لكلّ فلقة تسبيحاً لا يُسمع للأُخرى.
ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته، ولكلّ غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس ثمّ قال لها: انشقّي نصفين، ثمّ قال لها: التزقي، فالتزقت، ثمّ قال لها: اشهدي لي بالنبوّة، فشهدت، ثمّ قال لها: ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديس، ففعلت، وكان موضعها بجنب (93) الجزّارين بمكّة.
قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى عليه السّلام يزعمون أنّه كان سيّاحاً.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله كانت سياحته في الجهاد، واستنفر في عشر سنين ما لا يُحصى من حاضر وبادٍ، وأفنى فئاماً من العرب من منعوت بالسيف، لا يداري بالكلام، ولا ينام إلاّ عن دم، ولا يسافر إلاّ وهو متجهّز لقتال عدوّه.
وقال له اليهوديّ: فإنّ عيسى عليه السّلام يزعمون أنّه كان زاهداً.
قال له عليّ عليه السّلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلّى الله عليه وآله أزهد الأنبياء عليهم السّلام، كان له ثلاث عشرة زوجة سوى من يطيف به من الإماء، ما رُفعت له مائدة قطّ وعليها طعام، وما أكل خبز بُرّ قطّ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قطّ، توفّي صلّى الله عليه وآله ودرعه مرهونة عند يهوديّ بأربعة دراهم، ما ترك صفراء ولا بيضاء، مع ما وُطّئ له من البلاد، ومُكّن له من غنائم العباد، ولقد كان يقسّم في اليوم الواحد ثلاث مئة ألف، وأربعمأئة ألف ويأتيه السائل بالعشيّ فيقول: والّذي بعث محمّداً بالحقّ، ما أمسى في آل محمّد صاع من شعير ولا صاع من برّ،ولا درهم ولا دينار.
وقال له اليهوديّ: فإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأشهد أنّه ما أعطى اللهُ نبيّاً درجةً ولا مرسلاً فضيلةً إلاّ وقد جمعها لمحمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وزاد محمّداً صلّى الله عليه وآله على الأنبياء صلوات الله عليهم أضعافَ درجات.
فقال ابن عبّاس لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أشهد يا أبا الحسن أنّك من الراسخين في العلم، فقال: وَيْحك وما لي لا أقول في نفس من استعظمه الله عزّوجلّ في عظمته جلّت (94) فقال:  وإنّك لَعلى خُلقٍ عظيم  (95).
( الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي 111 ـ 120، عنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 273:17 ـ 297 / ح 7 ).
 

1 ـ كاع عنه: جبن عنه وهابه.
2 ـ أزرى به وأزراه: عابه ووضع من حقه.
3 ـ الجبروت: صيغة مبالغة بمعنى القدرة والسلطة والعظمة.
4 ـ الفتح:2.
5 ـ الانشراح:4.
6 ـ أي يتلوّى من وجع الجوع.
7 ـ السلى: جلدة يكون فيها الولد في بطن أمه.
8 ـ هود:45.
9 ـ هود:46.
10 ـ في المصدر: لما غلبت عليه من قومه المعاندة.
11 ـ هطل المطر: نزل متتابعاً متفرقاً عظيم القطر. والمنهمر: الغزير، أي ماء شديد الانصباب سريع التهطال.
12 ـ أي تساقط.
13 ـ الاحزاب:9.
14 ـ رغا البعير: صوّت وضجّ.
15 ـ زوّر عليه: قال: عليه الزور.
16 ـ تقدّم تفسيرها في كتاب الاحتجاجات، راجع.
17 ـ يس:9.
18 ـ الاسراء:45.
19 ـ يس:8.
20 ـ نخر العظم: بلى وتفتت، فهو ناخر ونخر. فرك الشيء: حكه حتّى تفتّت.
21 ـ يس: 78 و 79.
22 ـ جذه: كسره فانكسر.
23 ـ تلّه: صرعه.
24 ـ أي حتى كاد يشرف على الهلاك من الحزن.
25 ـ الكآبة: الغمّ وسوء الحال والانكسار من الحزن. استشعر الخوف أي جعله شعار قلبه.
26 ـ الفتح: 27.
27 ـ التوبة:40.
28 ـ قال الطريحي في مجمع البحرين: المفصَّل سُمّي به لكثرة ما يقع فيه من فصول التسمية بين السور وقيل لقصر سوره، واختلف في أوّله فقيل من سورة ق، وقيل: من سورة محمد، وقيل: من سورة الفتح. وعن النووي: مفصّل القرآن من محمّد، وقصاره من الضحى إلى آخره، ومطولاته إلى عمّ، ومتوسطاته إلى الضحى. وفي الخبر: المفصّل ثمان وستون سورة، انتهى. أقول: والسبع الطوال على المشهور من البقرة إلى الأعراف، والسابعة سورة يونس، أو الأنفال وبراءة جميعاً، لأنّهما سورة عند بعض، والمراد هنا ما يبقى بعد إسقاط البقرة والمائدة وبراءة.
29 ـ الأسفار جمع السِّفر بالكسر فالسكون: التوراة.
30 ـ في المصدر: وأوصل.
31 ـ في المصدر: فالله المحمود.
32 ـ في المصدر: والحارث بن أبي الطلالة وكذا فيما يأتي، والموجود في مجمع البيان والسيرة لابن هشام أيضاً الحارث بن الطلاطلة، مثل المتن، وفي المحبر والمنمق للبغدادي الحارث بن قيس بن عدي الكعبي، ولعل ذلك نسبة إلى الاب والاول إلى الام.
33 ـ الحجر:95.
34 ـ أي فتدحرج.
35 ـ السموم: الريح الحارة.
36 ـ في المصدر: فأتاه جبرئيل من الله من ساعته، وفي كتاب الاحتجاجات: عن الله ساعته.
37 ـ الحجر:94.
38 ـ الحجر:95.
39 ـ في المصدر: وأما بقية الفراعنة.
40 ـ هكذا في الأصل وهو خبر ان واسمه: البين بمعنى الصداقة فليس بطرف وفيه: حسنا ظ وخشن خ ل وفي المصدر: حسن صداقة.
41 ـ في المصدر: وإنّما كنّاه بأبي جهل.
42 ـ أي خوفاً وفزعاً منه.
43 ـ في المصدر: ثعبانين.
44 ـ أي يشقوا.
45 ـ سفّه الرجل: نسَبَه إلى السفه. الأحلام: العقول.
46 ـ فغر فاه: فتحه.
47 ـ في المصدر: ما رأيناك كاليوم.
48 ـ أي يسيل.
49 ـ أي لا تبتل.
50 ـ في المصدر وكتاب الاحتجاجات: قد أُعطي ما هو أفضل من ذلك.
51 ـ صدر عن الماء: رجع عنه.
52 ـ المزادة: ما يوضع فيه الزاد.
53 ـ القليب: البئر. وقيل: البئر القديمة.
54 ـ الميضأة والميضاءة: الموضع يتوضأ فيه. المطهرة يتوضأ منها.
55 ـ في المصدر: ثم زاده أن جعل النية له ولأمّته بلا عمل عملاً صالحاً.
56 ـ في المصدر: قد ليّن الله له الحديد.
57 ـ واستظهر المصنف في الهامش أنه مصحّف هاراً: أي متصدّعاً.
58 ـ طه: 1 و 2.
59 ـ في المصدر: قُرَّ، فإنّه ليس عليك.
60 ـ في المصدر وكتاب الاحتجاجات: فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله.
61 ـ في المصدر: وهو يخوف الناس من نار.
62 ـ الحجارة خ ل.
63 ـ ويسير خ ل.
64 ـ في المصدر: ولا ينقص مما ادخر لك.
65 ـ في المصدر: فأوحى الله.
66 ـ إذا فعلت خ ل.
67 ـ إذا قبلت خ ل.
68 ـ في المصدر: إلا في بقاع معلومة من الأرض.
69 ـ المثبور: الخائب المصروف عن الخير.
70 ـ البقرة: 284 ـ 286.
71 ـ الشامة: الخال، بثرة سوداء في البدن.
72 ـ في المصدر: فأقبل إليه من الجن التسعة من أشرافهم، واحد من جن نصيبين، والثمان من بني عمرو بن عامر.
73 ـ من الاجنحة خ ل.
74 ـ في المصدر: وهاضب وهضب.
75 ـ الاحقاف:29.
76 ـ بصرى بالضم: من أعمال دمشق، وهي قصبة كورة حوران.
77 ـ في المصدر: الذي لا ريش عليه.
78 ـ في المصدر: فقالها الرجل.
79 ـ أعرابي خ ل، وفي المصدر: ولقد اتى النبيّ باعرابي.
80 ـ أي باعدْ عن ولي الله. والتثاؤب: فتح الفم واسعاً مسترخياً من غير قصد، أو هو التثاوب: رجع المأكول والمشروب بلا ريث.
81 ـ في المصدر: قد فعل أكبر من ذلك.
82 ـ في المصدر: فندرت، بالنون من ندر الشيء: سقط من جوف شيء فظهر، من موضعه: زال.
83 ـ في المصدر: وبانت يده يوم حنين فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله يمسح عليه يده. أقول: لعل ما في المتن أصوب.
84 ـ بيعته خ ل.
85 ـ مطبوخة بالسم خ ل.
86 ـ بالفتح: مصدر شوي اللحم يشويه: عرضه للنار حتّى نضج.
87 ـ في المصدر: ومحمد صلّى الله عليه وآله كان له أكثر من هذا.
88 ـ مؤتة بضم الميم وسكون الهمزة وفتح التاء: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، قُتل فيها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبها قبره.
89 ـ في المصدر: من سرائرهم.
90 ـ في المصدر: وقلتم: والله للموت أهون علينا من البقاء.
91 ـ كان يخلق خ ل.
92 ـ إذا أخذ خ ل، وهو الموجود في المصدر.
93 ـ في المصدر:حيث.
94 ـ في المصدر: فقال جلت عظمته.
95 ـ القلم:4.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

صلاة ألف ركعة
العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)

 
user comment