عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

الكلمات القصار للإمام علي علیه السلام – الأول

الكلمات القصار للإمام علي علیه السلام – الأول

- كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب.

اللبون من الإبل والشاء هي ذات اللبن قل وكثر.

وابن اللبون فصیل الناقه قبل أن یقوى ظهره للركوب، یصلح ضرعها للحلیب، ظهر بالرفع اسم “ل” العاملة عمل لیس على مذهب الحجازیین، خبرها محذوف، التقدیر لا ظهر صالحا للركوب، لا ضرع صالحا للحلیب، الفعل المضارع هنا منصوب بأن ‌مضمره بعد الفاء لوقوعها بعد النفي المحض مثل ما أعرف دارك فأزورك أي‌ كي أزورك.

والمراد بالفتنة هنا الباطل، المعنى إذا رأیت باطلا فلا تدخل فيه، احذر من أهله أن یخدعوك ویستغلوك في أغراضهم ومآربهم..

وسكت الإمام في حكمته‌ هذه عن الحق وأهله، لیس معنى سكوته عنه وعنهم أنه ینهى عن الدخول في‌ شأن المحقین ومناصرتهم، انه یساوی بینهم وبین المبطلین..كل ألف كل لأن مثل هذا الكلام یقتصر فيه على دلالة المنطوق دون المفهوم..هذا الى ‌أن كلمات الإمام ووصایاه بنصرة الحق وأهله تجاوزت حد الإحصاء، من ذلك‌ قوله لولدیه الحسن والحسین “كونا للظالم خصم، للمظلوم عون” .

كما جاء في الرسالة ٤٦، ذمه للذین لم یحاربوا معه الناكثین بأنهم لم ینصروا الحق، لم یخذلوا الباطل .

وخفي المعنى المراد من هذه الحكمة على كثیر من الشارحین، خبطوا فيه، فهموا منه أن الإمام أمرنا بأن نسكت أیام الفتنة، نعتزل إذا رأینا باطلا یتبعه ‌قوم ویعارضه آخرون، حتى ان بعض الشارحین قال “أراد الإمام أن یكون‌ الإنسان أیام الفتنة ضعیفا غیر مستكثر من المال”!.

ولا أعرف السبب الموجب ‌لحشر المال هنا ! وحاشا لله وللإمام الذي أوقف نفسه للحق، ضحى بها في‌ سبیله أن یأمر بالفرار من جهاد الباطل والفساد.

وبعد، فكلنا نحن أبناء الهیئة العلمیة الدینیة ـ نحفظ هذه الحكمة عن ظهر قلب تماما كما نحفظ سورة الإخلاص، نرویها ونوصي به، لكن ما لها في ‌أعمالنا وأعمال معظمنا من نصیب..فهذا یؤید زعیما طاغیة ویقول أرید أن‌ أعیش، ذاك یوقع عریضة مسمومة ملغومة إرضاء لشهوة رئیس ومتزعم، آخر یزیف ویحرف بوحي الشركات ومكاتب الاستخبارات، رابع إمعة یستجیب ‌لكل ناعق وشاهق.. وهنا یكمن السر في أننا نسیر من ضعف الى ضعف، یكثر فينا أهل الجهل والدجل.

۲-  أزرى بنفسه من استشعر الطمع، رضی بالذل من‌ كشف عن ضره، هانت علیه نفسه من أمر علیه لسانه.

الطمع ضد القناعة، لكن كثر استعماله ضد المروءة والورع حتى صار حقیقة فيه، أما حكمه فيقاس بآثاره ونتائجه، ان خیرا فخیر، ان شرا فشر.

وقول الإمام من استشعر الطمع معناه من اتخذه دینا له ودیدنا بحیث لا یلتزم ‌بشی‌ء إلا على أساس منفعته الخاصة.

ومن كان كذلك فقد حقر نفسه بنفسه، لأن الإنسان یقاس بأهدافه وأمانیه.

ومن كانت همته بطنه كانت قیمته ما یخرج‌ منها كما قال الإمام.

وقد یبتلى الإنسان بمرض وفقر وغیرهما من الآفات.

وما من شك ان ‌المرض بلاء، الفقر مصیبة، لكن الكشف والإعلان عنهما وعن أیة آفة فضیحة.

وقدیما قیلا لشكوى لغیر الله ذل.. وأیة جدوى من الشكوى الى ‌الناس ما دامت لا تدفع ضر، لا تجلب نفع، تسوء المحب، تسر المبغض؟

وأیضا لا جدوى من أمر المبتلى وحثه على الصبر وكتمان العله إلا إذا كان ذا عقل ‌رزین، لأن الصبر على قدر العقل.

والشكوى من مقوله الكلام وصفاته، لذا عقبها الإمام بالإشاره الى اللسان، مر الحدیث عنه في شرح الخطبة ۹٤ فقرة “السكوت” وغیره.

وقال مجرب‌ حكیم یتنازع لسانك عقلك وهواك، فإن غلب الأول فهو لك، ان غلب ‌الثانی فهو علیك، فلا تطلق لسانك حتى تعلم ان كلامه لك لا علیك.

۳- البخل عار والجبن منقصه والفقر یخرس الفطن عن‌ حجته والمقل غریب في بلدته والعجز آفة، الصبر شجاعة والزهد ثروة والورع جنة.

البخل یخطط لصاحبه منهجا یسیر علیه في تفكیره وسلوكه، لا یحید عنه ‌بحال، هذا المنهج یرفض بطبعه التعاون على الخیر ومصلحة الفرد والجماعة، یهدي الى القسوة وعدم الاكتراث بالناس ومشاكلهم.. ومن لا یهتم بهموم الناس‌ فلیس منهم ولا من الانسانیة في شی‌ء.

ونعطف على ذلك ما جاء في الآثار من‌ أن البخیل یعیش في الدنیا عیش الفقراء، یحاسب في الآخرة حساب الأغنیاء، انه كالخنزیر لا ینتفع به إلا بعد موته حیث تنهشه الكلاب، ان البخل یفسد الرأي، یمنع صاحبه عن رؤیة الحقیقة، لأنه ینظر الى الأشیاء من خلال ذاته ‌الشحیحة الشاحبة.

واذا كان الإمساك رذیلة فالبذل والتضحیة فضیلة في كل زمان ومكان، لكن‌ إطعام الطعام قد بلغ الغایة والنهایة من التقدیس عند القدامى، بخاصة العرب‌ الذین اعتبروه سببا رئیسیا من أسباب السیادة والقیادة، ملأوا الدنیا في المدیح ‌والثناء نظما ونثرا على صاحب الخوان، كنوا عنه بجبان الكلب وكثیر الرماد والنیران.. ووضع الجاحظ كتابا في البخلاء، أفرد الكثیر من المؤلفين بابا طویلا في كتبهم لذم البخل والبخلاء، مدح الجود والأجواد.

والسر العسر والمعیشة الضنكى في ذاك العصر حیث الجائعون من كل بلد بالآلاف ‌أو بالمئات..هذا، الى ان المسافرین كانوا یسیرون أیاما وأشهرا على الأقدام‌ أو على الحیوان، لا مطاعم وفنادق، فلا بدع اذا كان لإطعام الطعام شأنه‌ و وزنه، من هنا ساوى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم بینه وبین السلام في قوله (أفضل‌الأعمال إفشاء السلام، إطعام الطعام).

حتى الماء كان لباذله أجر وفضل على قدر عطش الظمآن ولهفته، لتعذر الوصول الى مجرى الماء ومصدره..أما الآن، قد غیر العلم الأرض ومن علیها وخطا بالبشریة خطوات یسرت لها العسیر، قربت لها البعید، حققت الكثیر من مطالبه، أما الآن فلم یعد لإطعام الطعام ونحوه ذاك الوزن والأثر الذی كان ‌له من قبل.. ولیس معنى هذا ان الكرم قد تحول عن طبیعته ونزل عن مرتبته، إنما یعنی ان مظاهر الكرم قد تغیرت وانتقلت من التعاون الفردی الى التعاون ‌الاجتماعی، من إطعام الرغیف الى بناء دار للأیتام، مستشفي للمعوزین، مدارس للمتعلمین، من سقی الظمآن الى ري الأراضي، تحویل الصحراء الجرداء الى جنات وعیون، معنى هذا أن معنى الكرم قد عم واتسع بعد أن ‌كان ضیقا ومحدود، ان اسم الكریم قد تطور الى اسم المصلح والمنقذ.

(والجبن منقصة) لأن الجبان یرى المنكر فيتعامى عنه، یسمع دعوه الجهاد في سبیل الله والحق فيصد عنه، إذا شكا الیه مظلوم أدار له ظهره، إذا أراد أن یتكلم خاف من النقد.. وهكذا یسلبه الخوف ما یملك من طاقات، یعیش حبیسا بین جدران الهواجس والأوهام بلا شخصیة وإرادة، لا زهرة أو ثمرة إلا الهدیر والثرثرة.. وهل علمت وسمعت أن للجبان شأنا وتاریخا؟.

(والفقر یخرس الفطن عن حجته) لأن الفقر یضغط على العقل، یسد أمامه منافذ الرؤیه..اللهم إلا إذا كان للفقیر هدف أعلى یضحي بحیاته من أجله، ینسى معه نفسه وبؤسه، كطلب العلم والحریة لوطنه، كما حدث لكثیر من ‌الفقراء المناضلین الأحرار.

وتقدم الكلام عن الفقر مرات ویأتی أیضا.

(والمقل غریب في بلدته) ومثله قول الإمام “الغنى في الغربة وطن، الفقر في الوطن غربة” لأن من شأن الوطن أن یسهل لك العسیر، یستجیب ‌لحاجتك وأمنیتك، المال قاضي الحاجات، الفقر أصل الویلات، من هنا كان الفقر غربة في الوطن، الغنى وطنا في الغربة.

(والعجز آفة) وكلمة العجز تعم وتشمل وباء الفقر والمرض والجهل، هذه ‌الأوباء الثلاثة آفة الإنسانیة بكامله، منها تنبع القبائح والرذائل، بخاصة الفقر فإنه السبب القریب والبعید لأكثر الآفات والمشكلات.

(والصبر شجاعة) وجهاد.

وحین یتحدث الإمام عن الصبر وفوائده فإنه‌ یتحدث عن علم وتجربة، فلقد رأى وشاهد صبر رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم والصحابة على ‌الأذى والتنكیل في سبیل الإسلام، ثباتهم علیه مستهینین بكل شی‌ء، هذا الصبر هو الأصل والأساس لحیاة الإسلام وانتشاره، على صخرته تحطم الكفر والشرك، لو لا هذا الصبر والثبات ما كانت الهجرة ولا بدر وأحد والأحزاب، بالتالي ما كان للإسلام عین ولا أثر.

(والزهد ثروة، الورع جنة) المراد بالزهد التورع عن الحرام، بالورع‌ الكف عنه، علیه یكون العطف للبیان والتفسیر، المعنى أن العفيف النزیه في ‌غنى عن الناس، أمان من شرهم، لأنه بعفته ونزاهته یرضى ویقنع بالمیسور، یكف أذاه عن الآخرین، القناعة كنز، كف الأذى حصن وصیانة.

وتقدم ‌الكلام عن ذلك مرارا وتكرارا مفصلا ومجملا.انظر شرح الخطبة ۱۸۹ فقرة “التقوى”.

٤ - نعم القرین الرضى، والعلم وراثة كریمة، والآداب حلل ‌مجددة، والفكر مرآة صافية.

(نعم القرین الرضى) علیك أن تسعى جهدك للرزق، لا تتكل على القدر، إذا سعیت ونلت من الحلال دون ما أملت فارض بما تیسر ولا ترفضه وتتبرم ‌به.

وقدیما قیل لا یترك المیسور بالمعسور، كیف والحرمان أقل منه، بعض ‌الشر أهون من بعض؟خذ ما تیسر، انتظر الفرصة الى ما هو أفضل، لا تتعجل الشی‌ء قبل أوانه، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها.. ولا أظن مخلوقا حقق ‌كل ما ینشد من سعادة إلا من روض نفسه على التسلیم والرضا بما لا سبیل الى ‌سواه، لا یقول لشی‌ء لم یكن لیته كان، لما كان لیته لم یكن.

والرضا بمنطق الواقع هو الذي عناه الإمام، أثنى علیه بقوله “نعم القرین ‌الرض” لأنه یحرر صاحبه من الحیرة والقلق، التبرم والسخط بلا جدوى.

وبالاختصار ان تعاسة الإنسان قد تأتی من داخله لا من خارجه، من صنع یده ‌لا من صنع القدر، لأنه یرفض الانسجام مع ظروفه الخاصة التي تمسه في الصمیم، تؤثر علیه وعلى شؤونه، لا یجني من معاندتها إلا الآهات والحسرات.. ورأیت ‌من الشباب الجامعي من یأنف ویحتقر بعض الأعمال، لأنهاـ بزعمه ـ عیب یمس ‌بكرامته، یطمح الى وظائف الأغوات وأبناء الذوات، فيبحث ویلهث وراء كل متزعم حتى اذا یئس عاد الى ما استنكف عنه من قبل، طلبه بلهفه.. ولكن بعد فوات الفرصة التي لا سبیل الى مردها..فقعد كسیحا خاسر، لأنه ‌أراد القفز أكثر مما تستطیع عضلاته.

وهكذا قضت حكمة الخالق جل وعلا أن یعاقب بالحرمان من استنكف عن ‌رزقه المكتوب.

وأیضا رأیت كثیرا من الشباب الجامعي یستسلمون لمنطق الواقع، لا یأنفون‌ من وظیفة كاتب بسیط، بعضهم من حملة الدكتوراه، مع الصبر والأیام صار أحدهم مدیرا عام، آخر استاذا جامعي، رئیسا لمصلحة، قاضیا مرموقا.. ولا سرـ فيما أعتقد ـ إلا الرضا والصبر الذي هو من مظاهر الحمد والشكر، فأنجز لهم سبحانه قوله ووعده لئن شكرتم لأزیدنكم (ابراهيم:٧) . حمدا لله وشكرا.

(والعلم وراثة كریمة) قال ابن أبي الحدید في شرحه “كل عالم یأخذ العلم من استاذه فكأنه ورث العلم عنه” وتبعه ابن میثم في هذا التفسیر وقال “العلم ‌وراثة عن العلماء” وقال شارح ثالث “أخطأ الاثنان، الحق في التفسیر ان‌ العلم یؤخذ بلا عوض تماما كالإرث”.. ولو تنبه هؤلاء الشارحون لقول الإمام ‌في الحكمة رقم ۱٤۷ لأراحوا واستراحوا من هذا التكلف والتعسف.

قال الإمام ‌في هذه الحكمة من جملة ما قال (العلم یكسب الانسان جمیل الأحدوثة بعد وفاته) وهذا بالذات هو مراد الإمام بقوله (والعلم وراثة كریمة) فإن كلام ‌الإمام یفسر بعضه بعض، لأن مصدره واحد.. وكلنا یعلم ان الناس یذكرون ‌الانسان بعد وفاته بأفعاله وصفاته، ان العلم من الصفات الجلي .

(والآداب حلل مجددة) الحلل المجددة كنایة عن البهجة والزینة الدائمة، المراد بالآداب هنا الصفات الحمیدة عند العقل والعقلاء، كالبلاغة والذكاء وحسن ‌السلوك، ما إلى ذاك من الفضائل الشخصیة والاجتماعیة..نقول هذا مع العلم ‌ان تحدید المفاهیم ومعاني الألفاظ من أدق الأشیاء وأصعبها.. ولكن هذا ما فهمناه‌ من سیاق الكلام، منطق الواقع، فإن كان هذا ما أراده الإمام من كلامه‌ هنا فذاك، إلا فإن الإمام لا یرفض المعنى الذي فهمناه لأنه حق في نفسه ومن‌ حیث هو.

(والفكر مرآة صافية) المراد بالفكر هنا القوة المدركة العاقلة التي اذا أعملها الإنسان بعیدا عن الهوى والمحاكاة دلت على الحق والصواب، كنى الإمام عن ‌هذه الدلالة الصادقة بالمرآة الصافية التي تعكس الشی‌ء كما هو في واقعه.

وأخذنا هذا التفسیر من قول الإمام في الرساله ۳۰ “من تفكر أبصر” وقوله في ‌الحكمة ۱۱۳ “لا علم كالتفكیر” أي ان العلم بلا تفكیر أكثر خطورة من التفكیر الذي لا یدعمه علم، كما قال كونفوشیوس.

٥-  صدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حبالة المودة، والاحتمال قبر العیوب (أو) والمسالمة خباء العیوب، ومن ‌رضي عن نفسه كثر الساخط علیه.

(صدر العاقل صندوق سره) بعض الحاجات لا یستقیم قضاؤها إلا بالكتمان، من الجهل والحمق إفشاؤها وإذاعتها.. وكان النبي صلى الله علیه وآله وسلم إذا أراد غزوا ورى.

ومن ضاق بسره فلا یلومن من أفشاه.

والحق خاص بصاحبه، على كل إنسان ‌أن یحترم هذا الحق ویقدسه، یحرم التجسس علیه.. ولكن الغرب قد انتهك ‌هذا الحق، اخترع للتجسس على الشعوب والبیوت والأفراد آلات مذهلة شدیدة الدقة، قد هددت حریة الإنسان وأصبحت حیاته وأسراره مشاعا للذین یملكون‌هذه الآلات، یبیعونها كالسلعة لمن یدفع الثمن، فتحوا بنوكا وحوانیت لبیعها علانیة وعلى علم من السلطة التی تصون الأمن الحریات.

وهكذا حولوا العلم من العمل لصالح الإنسان وخدمته الى الإضرار به والاعتداء علیه والقضاء على حریته، فرضوا علیه لونا جدیدا من الضغط لا نظیر له حتى ‌في عصور الجهل والتخلف.

(والبشاشة حبالة المودة) اذا خرجت الابتسامة من القلب دخلت في القلب‌ تماما ككلمة الصدق والإخلاص، أما ابتسامة المكر فهي وكلمة النفاق سواء، تخرج ‌من الحناجر ولا تتجاوز الآذان.

(والاحتمال قبر العیوب) المراد بالاحتمال هنا الصبر على كلمة تافهة وحركة نابیة من زوجة وولد وجار وأي سفيه، المراد بقبر العیوب أن هذا الصبر فضیلة تشفع في بعض العیوب، تسترها ـ على الأقل ـ وأیة جدوى من إظهار الغیظ والغضب إلا البغضاء والشحناء.

(ومن رضي عن نفسه كثر الساخط علیه).

كثرة الادعاء تدل على كثرة العیوب، من استطال على الناس بما فيه ويزور یدعیه فقد فتح علیه أبواب ‌الذم والطعن والسخریة والاستهزاء والمقت والكراهیة.. والعالم حقا یتواضع ویتوقع ‌الخطأ من نفسه، الدعي اللصیق بأهل العلم یرى نفسه مصدر الحق والصواب.. ولاحظت من تتبعي لأقوال العلماء وآرائهم ان العالم بحق یعرض رأیه بحذر، أما الضعیف في معرفته فيؤكد أقواله جازما بأنها الحق الذی لا ریب فيه، ان‌غیرها هراء وهباء.

والسر أن القوي بعلمه یعتمد على العقل، الضعیف یثق ‌بعاطفته، یقول بوحي منه، یظن أنه یقول بإملاء العقل والوجدان. وهذاهو الجهل المركب.

٦ - الصدقة دواء منجح، وأعمال العباد في عاجلهم نصب‌ أعینهم في آجلهم.

المراد بالصدقة هنا كل معونة تسد حاجة من حاجات الحیاة خاصة كانت كإغاثة الملهوف، أم عامة كبناء میتم یأوی المشردین، أم مصنعا ینتج الغذاء والكساء والدواء للمحتاجین.

وأي دواء أكثر نفعا من خدمة الإنسان وسد حاجاته؟

ولیست هذه الصدقة والمعونة تجیب دعوة المضطر وكفى، بل هي أیضا دواء وخلاص من عذاب الحریق لمن ضحى وأعان یوم الحساب والجزاء.

ویأتي قریبا قول الإمام (من كفارة الذنوب العظام إغاثة الملهوف، التنفيس‌عن المكروب).

هذا إذا كان الملهوف والمكروب واحد، فكیف بإغاثة الأجیال ‌والألوف؟

(واعمال العباد في عاجلهم الخ)..من عمل في دنیاه لمنفعة الآخر یجد ثواب عمله مجسما نصب عینیه في آخرته.

۷- اعجبوا لهذا الإنسان ینظر بشحم، یتكلم بلحم، یسمع بعظم، یتنفس من خرم.

المراد بالشحم هنا غیر اللحم كالجلد الشفاف الذي یغطي شبكة العین ونحوه، أما العظم فالمراد به الغضروف، هو عظم طري .

أشار الإمام الى أربعة أعضاء البصر واللسان والسمع والأنف.

وللعین مهمتان ‌الأولى انها نافذة الى القلب تتسرب الیه منها ما تراه في الخارج.المهمة الثانیة انها مرآة تعكس في كثیر من الأحیان ما هو مودع في القلب من حب وبغض، فطنه وبلاده، خیر وشر، معنى هذا ان العین تعطي القلب وتأخذ منه، تؤثر فيه، یؤثر فيه.

وأیضا معنى هذا ان كل ما في العین لا بد أن یكون ‌رقیقا شفافا یحكي عما وراءه، نقیا صافيا ینعكس فيه ما تقع علیه العین، من ‌البداهة أن في اللحم غلظة وكثافة، ان كان اللحم أقل كثافة من العظم، الشحم أخف وأرق من اللحم، هو أشبه ب (النیلون) .

أما اللسان فهو أكثر الأعضاء حركة وقبضا وبسطا..تجري حركته بسرعه بلا تعب وكلال عند الكلام والشراب والطعام، عند ابتلاع الریق وقذفه، بل یتحرك عند السكوت وترك الطعام والشراب..فاستدعى ذلك أن یكون لحمار طبابل بلا عظم وعصب، أن یكون في الفم بمنزلة الصدر للقلب صونا له من‌العوارض الخارجیة.

وأما الأذن فهي الأداة اللاقطة للصوت، الصوت یحمله الهواء، لا یدخل ‌الى الأذن إلا بعد انكسار حدته، فجعلها سبحانه عضوا لینا لا لحما مسترخی، لا عظما صلبا بل عظما طریا متماسكا.

أما التنفس في الإنسان فيقول أهل الاختصاص أن له عضلات كثیرة، أهمها الأنف، به یستغني عن الفم لاستنشاق الهواء، قد جعل سبحانه تجویفه بقدرالحاجة، لو كان أوسع مما علیه لدخل الى الجوف من الهواء أكثر من المطلوب، أضیق لدخل دون القدر اللازم، أیضا جعل التجویف مستطیلا لینحصر فيه‌ الهواء وتنكسر حدته قبل أن یصل الى الدماغ، إلا صدمه بقوته وأوقفه عن‌الحركة.

فسبحان الذي خلق فسوى، قدر فهدى.

۸-  إذا أقبلت الدنیا على أحد أعارته محاسن غیره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.

المراد بإقبال الدنیا على الإنسان أن ینال منها ما یغبط علیه ویحسد، المراد بإعارته محاسن غیره أن یرفع فوق منزلته، كمن ساد، ما هو بأهل للسیادة.

ولیس من الضروري أن تنسب الیه فضائل الآخرین، كما توهم الشارحون، بل‌ قد یكون ذلك، قد لا یكون، المعیار أن یقدر بأكثر من ثمنه.

والمراد بسلبته محاسن نفسه أن تبخس أشیاؤه، یبهظ حقه ومقامه.

والأمثلة على ذلك‌ لا تحصى كثره، منها ان یؤلف شهیر كتاب، فيقبل علیه الناس ویشتروه بأغلى ‌الأثمان، یكیلوا له المدیح بلا حساب، یستشهدوا بكلماته كدلیل على الحق!.

ولو نسب هذا الكتاب بالذات الى مغمور مجهول لأعرضوا عنه.. وربما سخروا منه.

وفي الخطبة ۱۰۷ أوضح الإمام السبب الموجب وبینه بقوله (فهو عبد لها ـ أي للدنیا ـ ولمن في یده شی‌ء منها حیثما زالت زال الیه، حیثما أقبلت أقبل‌علیه).

انه یقبل ویدبر بوحي من دنیاه ومصلحته، هو یظن أنه ما فعل‌ وما ترك إلا بإملاء الحق والعدل.

۹-  خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا علیكم، إن‌عشتم حنوا إلیكم.

فرق بعید بین النفاق وحسن المعاشرة، فالنفاق أن تضمر البغض وتظهر الحب، أما حسن المعاشرة فهي أن تحسن ولا تسی‌ء، تحب ولا تكره، تعین ولا تخذل.. وبهذا تكون محبوبا عند الناس یبكون علیك ان مت، یحنون علی كان غبت.

قال سبحانه ﴿وقولوا للناس حسنا﴾ ـ۸۳ البقرة.

وقدیما قیل أحبب لغیرك ما تحب لنفسك.. ولا خیر فيمن لا یألف ولا یؤلف.

ومن أقوال ‌الإمام أسوأ الناس حالا من لم یثق بأحد لسوء ظنه، لم یثق به أحد لسوء فعله. وقال القریب من قربته الأخلاق، الغریب من لم یكن له حبیب.  وتقدم ذلك في الرسالة ۳۰ .

۱۰-  إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة علیه.

علمتني التجربة وتكرارها أشیاء، منها أن من فر الى الله وقرع بابه مخلصا أغاثه وشمله بعنایته، منها أن من شكر القلیل من فضله تعالى زاده أضعاف، من رفضه وتبرم به طلبا للكثیر عاقبه بالحرمان، ان من أبى إلا القصاص بیده‌ ممن أساء الیه تركه سبحانه وشأنه یشفي غیظه من عدوه ان استطاع، ان من‌عفا عن حقه الخاص لوجه الله كان له ناصر، عوض علیه أضعافا مضاعفه.

ویأتي قول الإمام أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.  وقوله أول عوض ‌الحلیم من حلمه ان الناس انصاره على الجاهل.

۱۱-  أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، أعجز منه من ضیع من ظفر به منهم.

قالوا في تعریف الصدیق وصفاته وأكثرو.

والوصف الداخل في ماهیته أو اللازم لها هو أن الصدیق حقا وواقعا یرفض الشائعات عن صدیقه حتى ولو كان‌على جهل بمصدره. وهذا الصدیق ثروة وعده في الدین والدنی، قال تعالى ‌حكایة عن أهل النار فما لنا من شافعین ولا صدیق حمیم ( الشعراء ١٠١) .

وقیل لحكیم قدیم ما أفضل ما یقتنیه الإنسان؟ فقال (الصدیق المخلص) .

وإذا كان الإخوان أفضل قوة وثروة یقتنیها الإنسان فمن العجز أن تعیش بلا أصدقاء، ان ضیعت واحدا منهم بعد الظفر به فأنت أخسر الفاشلین، كما قال الإمام.

وقال بعض الشارحین للصداقة طرق وأسباب، عد منه (الملاقاة بالبشر والطلاقة).

والحق ان السبب الوحید للصداقة هو التوافق في الطباع حتى الطیورعلى أشكالها تقع.

واشتهر عن نبي الرحمة صلى الله علیه وآله وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منه ائتلف، ما تناكر منها اختلف.

وتقدم الكلام عن الصداقة في الرسالة ۳۰ وفيها یقول الإمام ولا تضیعن حق أخیك اتكالا على ما بینك وبینه.

وبعد، فلا متعه أعذب وأطیب من حدیث تنفض به عن قلبك غبار الآلام ‌والأشجان أمام صدیق یصغي الیك بروح زاكیة تطمئن الیه، عاطفة دافئة تلجأ الیها.. ومن فقد متعه الإحساس بالصداقة فقد حرمه الله أجمل ما في الحیاة، ان كان بیته مترفا ومزخرفا.

۱۲-  إذا وصلت إلیكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.

المراد بأطراف النعم أوائلها والقلیل منه، بأقصاها نموها وزیادته، المعنى ‌ان الله سبحانه إذا أحدث لك نعمة فاحفظها وعظمها بالشكر والتدبیر، من أي نوع كانت وتكون، ان حقرتها وقصرت في حفظها وشكرها سلبها الله منك، حرمك من غیره. وتقدم في الرسالة ٦۸ قول الإمام (واستصلح كل نعمه أنعمها الله علیك، لا تضیعن نعمه من نعم الله عندك) .

وقد من سبحانه على المسلمین بدولة كریمة فلم یشكروها بالجهاد والإخلاص ‌وأضاعوها بالخلافات واتباع الشهوات، فسیموا الخسف جزاء وفاقا.

۱۳-  من ضیعه الأقرب أتیح له الأبعد.

لا تیأس إذا أصابك شر من الأقارب والأرحام فأبواب الخیر والنجاح عند الله‌لا یبلغها الإحصاء، فإن أغلق دونك باب منها فتح الله علیك ما هو خیر وأجدى.. ومن توكل علیه كفاه حتى ولو كاد له أهل السموات والأرض ومن بینهن.

۱٤-  ما كل مفتون یعاتب.

المراد بالمفتون هنا من فعل ما لا ینبغي فعله، المعنى اذا رأیت شذوذا من‌ إنسان فلا تبادر الى لومه وعتابه قبل أن تعرف السبب الموجب، فابحث ‌وانظر، فإن كان السبب مشروعا كمن أكل من المیتة وسرق رغیفا لسد الجوعة فهو معذور إذا انحصر سبب الحیاة بذلك، كان جاهلا بلا تقصیر، ان ‌كان لمجرد الهوى واللامبالاة بالدین والقیم فهو مأزور، علیك أن ترشده بالحسنى.. اللهم إلا مع الیأس من صلاحه وإصلاحه كابن عمر وابن وقاص وابن مسیلمة حیث أحجموا عن بیعة الإمام، لم ینصروا حق، یخذلوا باطلا.

  ١٥- تذل الامور للمقادیر حتى یكون الحتف في التدبیر.

یحذر الإمام بهذا من المخبآت والمفاجآت التي لا تراها العیون، لا تومى‌ء إلیها القرائن من قریب وبعید، یحذر كل إنسان من ذلك كي یحتاط ویحترس.. على ان الوقایة من الهلاك قد تكون هي السبب الموجب له، كالطبیب یصف ‌نوعا من الدواء لمریضه بقصد الشفاء، فيقضي علیه، یتحصن الجیش من‌عدوه في مكان ملغوم، یفر من الجهاد طلبا للسلامة فيقع فيما هو أدهى وأمر.

۱٦- سئل علیه السلام عن قول الرسول صلى الله علیه وسلم (غیروا الشیب ولا تشبهوا بالیهود) فقال علیه السلام إنما قال صلى الله علیه وآله ذلك والدین قل فأما الآن ‌وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار.

الدین قل أي لم ینتشر بین الناس ویكثر أتباعه.

والنطاق الحزام. والجران ‌مقدم البعیر یضرب به الأرض إذا استراح، كان النبي صلى الله علیه وآله وسلم قد أمر الشیوخ‌ من أصحابه أن یستروا الشیب عن العدو بالخضاب لیظهروا أمامه في هیئة الأقویاء.

فقال الإمام ذاك حیث كان الإسلام ضعیفا بقلة أتباعه، أما الیوم وقد ظهر على الدین كله فلم یبق لهذا الحكم من موضوع، فمن شاء فلیترك الخضاب، من ‌شاء فلیخضب.

وبهذا القصد ألغى عمر سهم المؤلفة قلوبهم.

وتسألأ لا یتنافي هذا مع الحدیث المشهور عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم حلال‌ محمد حلال الى یوم القیامة، حرامه حرام الى یوم القیامة؟.

الجوابان الأحكام الشرعیة الإسلامیة على نوعین الأول منهما یرتبط بطبیعة الإنسان ‌وفطرته من حیث هو إنسان، هذا النوع من الأحكام لا یتغیر ولا یتبدل تماما كنظام الكون والأفلاك في حركاتها الدائبة، لو اختل شی‌ء منه لانهار الكون ‌بما فيه.  وهذا النوع هو المقصود بالحدیث المشهور.

والنوع الثاني یرتبط بالحیاة الاجتماعیة، هذا تتغیر أحكامه تبعا لتغیر المجتمع من حال الى حال حیث یتغیر موضوع الحكم وسببه الموجب، خضاب الشیب وعدم خضابه من هذا النوع ‌وتقدم الكلام عن ذلك في شرح الخطبة ۱۷٤ فقرة (التحلیل والتحریم بین الإسلام ‌والمسیحیة) .

۱۷-  خذلوا الحق ولم ینصروا الباطل.

ضمیر الجماعة في خذلوا ولم ینصروا یعود الى الذین لم یبایعوا الإمام، لم ‌یحاربوا ضده ولا معه كابن وقاص وابن عمر.

قال ابن أبي الحدید یدل هذا القول من الإمام أنه راض عنهم. أما میثم فقال یجري هذا الكلام مجرى‌ العذر عنهم.

أما نحن فلا نرى ذما أوجع وأقذع من هذا..كیف وقد تهیأت لهم الأسباب ‌الكافية الوافية لمناصره الحق وخذلان الباطل؟ ومع هذا تجاهلوا وأحجموا.. وفي الخطبة ۲۹ وبخ الإمام المتقاعسین عن القتال معه وقرعهم بقوله (لا یدرك ‌الحق إلا بالجد.. ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟).

وقال سبحانه ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفي‌ء الى أمر الله﴾ (الحجرات : ٩) .

وقال الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم الساكت عن الحق شیطان أخرس..الى كثیر من الآیات والروایات.

۱۸-  من جرى في عنان أمله عثر بأجله.

كل الأعمال بالآمال، لو لا الأمل لبطل العمل. والمذموم هو أن تطلق العنان‌لأملك في الدنیا وحطامه، تزاحم الآخرین، تعلن الحرب من أجلها غیر مكترث بواجب وحرام، لا بدین وشریعة.

ومن كان هذا شأنه نسی الموت ‌وما بعده، اختطفه على حین غرة، ذهب به الى خالقه بلا زاد واستعداد.

۱۹-  أقیلوا ذوي المروءات عثراتهم فما یعثر منهم عاثر إلا وید الله بیده یرفعه.

المراد بذوی المروءات كل من یأنف من القبیح، ینزه نفسه عما یشین، یتغافل عن زلل الاخوان، قال بعض السلف رأیت المعاصي مذلة ، فتركتها مروءة.أما العثرات فالمراد بها بعض الهفوات والسقطات التي لا یخلو منها إلا من‌عصم ربك، المعنى تجاهلوا هفوة من كریم.. وأي الرجال المهذب؟.

ولا یقیم ‌الحد من كان لله علیه حد، كما قال الإمام أمیر المؤمنین، قال السید المسیح من كان منكم بریئا فلیرمها بحجر.یرید الزانیة. (وید الله بیده یرفعه) أي انه تعالى یتداركه برحمته، ذلك بأن یهیى‌ء له ‌أسباب التكفيرعن هفوته وعثرته بالتوبة وبأیة فضیلة من الفضائل إن‌ الحسنات یذهبن السیئات (هود ١١٤) .

۲۰-  قرنت الهیبة بالخیبة، الحیاء بالحرمان، والفرصة تمرمر السحاب فانتهزوا فرص الخیر.

الخوف من الله حتم، هو مقام الربانیین، الخوف من القول والفعل بلا علم ‌حسن وجمیل، هو من صفات العلماء والمتقین، كل خوف ما عدا هذین فهو جبن وخور.

فأقدم على ما یطمئن الیه قلبك، ان قال الناس وقالوا.. وان أحجمت خوفا من قیلهم وقالهم عشت حیاتك سلبیا فاشلا..على أنك لا تسلم من ألسنة الناس‌ وان حذرت منها ومنهم.. وأحمد الله سبحانه الذي عافاني من هذا الداء، لو شاء لفعل. وتقدم الكلام عن ذلك في الحكمة رقم ۲ عند شرح قوله (الجبن‌ منقصة). (والحیاء بالحرمان).

الحیاء من فعل ما لا یقره عقل ولا دین، تأباه ‌الكرامة والمروءة هو من الدین في الصمیم، سنة من سنن الأنبیاء والمرسلین، خلق من خلق الأباة والسراة، أما الحیاء من الحلال، بخاصة ما ینفع الناس ‌فهو عجز وخوف، خنوع واستكانة، خلق من خلق الضعفاء والجبناء.

وهذا النوع من الخوف هو مراد الإمام، من أقواله (تكلموا تعرفو) ومن الأمثال العامة (لا ینجب أولادا من یستحي من زوجته) . وبهذه المناسبة نشیر الى ما قیل في تفسیر هذا الحدیث (مما ادرك الناس‌ من كلام النبوه إذا لم تستح فافعل ما شئت).  قیل في تفسیره إذا لم تستح من الله والناس فافعل ما بدا لك من حلال وحرام، حسن وقبیح.

وهذا المعنى‌ معروف بین الناس. وقیل معناه إذا لم یكن في الفعل ما تستحي منه فافعله، لا بأس علیك. وكل من المعنیین صحیح یتحمله لفظ الحدیث.

أما فرص الخیر فإنها تمر من السحاب، كما قال الإمام، اغتنامها سعادة وكرامة، فواتها حسرة وندامة. ولا أرى مثیلا لمن أضاع الفرصة إلا منكر الجمیل. هذا أخذ ولم یشكر، ذاك رفض ما یستوجب الشكر، كل مقصر. وتقدم الكلام عن ذلك في الرسالة ۳۰  .

۲۱-  لنا حق فإن أعطیناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال ‌السرى.

الراكب اعجاز الإبل هو الردیف أي الراكب خلف الراكب.  والسرى: سیر اللیل، المراد به هنا طول الأمد.

ولا خلاف بین أحد في ان الإمام كان یرى أنه‌ أحق بالخلافة من جمیع الصحابة دون استثناء، انه احتج لحقه هذا بالحسنى، أقواله في النهج وغیر النهج صریحة في ذلك.

وقال هن: ان أعطي هذا الحق‌عن رضا وطیب نفس فذاك، إن زاحمه علیه مزاحم صبر ولا یثیر حربا حتى‌ ولو جاء ردیف، بل ورابع، طال الأمد سنوات وسنوات..لا لشی‌ء إلاحرصا على مصلحة الاسلام والمسلمین، خوفا من الفتنة وانشقاق الكلمة وهذا ما حدث بالفعل.

وقیل: یجوز أن یكون مراد الإمام انه اذا لم یحصل على حقه في الخلافة ركب الصعاب من أجله.

وهذا المعنى قریب من دلالة اللفظ، بعید عن الواقع، لأن الإمام ما زاد شیئا عن النقاش والجدال بالتي هی أحسن.

أما تفسیر الشریف‌ الرضي بالذل فأبعد من بعید، لأن الله ورسوله یأبى الذلة لأهل البیت.

۲۲-  من أبطأ به عمله لم یسرع به نسبه.

لیست الفضیلة بالمال والأنساب، بل بالعلم والعمل، ولا فرق بین أعمى بصر یعتمد على عصب، أعمى بصیرة یعتمد على عظام المقابر وصدق الله العظیم: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ ـ۱۳ الحجرات.

۲۳- من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس‌عن المكروب.

التنفيس عن المكروب عطف تفسیر على إغاثة الملهوف.

والصدقة عامة وخاصة كما أشرنا في شرح الحكمه ٦ وكلام الإمام هنا عن الخاصة، من أمثلة الملهوف‌ مریض لا یملك أجره الطبیب وثمن الدواء، ذو عیال وأطفال یعجز عن قوتهم‌ ونفقتهم، مدین لا سبیل له الى الوفاء، مظلوم لا یجد المعین على ظالمه إلا الله.

ولكل واحد من هؤلاء ومن الیه كبد حرى لاهفة تائهة لا تدري ما الحیل هو الوسیلة ؟فمن رد لهفته، رحم حیرتها صفح الله تعالى العظیمات من سیئاته وكان في‌ عونه دنیا وآخره.

وفي الحدیث: من لا یرحم لا یرحم.

وقال الإمام : كما تدین تدان، كما تزرع تحصد.

۲٤-  یا ابن آدم إذا رأیت ربك سبحانه یتابع علیك نعمه ‌وأنت تعصیه فاحذره.

تكرر هذا المعنى في كلام الإمام بأسالیب شتى، أیضا یأتي قوله: (كم من‌ مستدرج بالإحسان الیه، مغرور بالستر علیه).

والقصد الأول والأخیر التحذیر من معصیة الله والركون الى الدنیا وزینتها.

وتسأل: لقد رأینا الكثیر یزدادون طغیانا كلما ازدادوا مالا وجاه، مع هذا یمضون بلا مؤاخذه.. ولا یتفق هذا مع التخویف من العقوبة؟.

الجواب: المراد هنا التحذیر من عذاب الآخرة، هي أشد وأخزى من آلام ‌الدنیا وضرباتها.

قال سبحانه: انما یؤخرهم لیوم تشخص فيه الأبصار٤۲ابراهیم.

وبكلمة: ان الله یمهل ولا یهمل.

۲٥-  ما أضمر أحد شیئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

للتعبیرعما في النفس العدید من الوسائل، منها اللفظ والكتابة والإشارة، منها الرقص والرسم والألحان، منها نظرات العین، ابتسام الفم وصفحات ‌الوجه والعبوس والدموع، حتى المینی جوب وشعر الخنافس بل والصمت أیضا بعض ‌الأحیان من وسائل التعبیر.. وبالأولى فلتات اللسان.

وقال أدیب شهیر: یستحیل إخفاء الحقیقة، لأن قانون الفعل یقابله قانون ‌رد الفعل، ان هذا القانون یطبق في المجال النفسي كما یطبق في المجال المیكانیكي، علیه فإن فعل الإخفاء یصطدم برد فعله، هو الإظهار بأسلوب وبآخر، بالتالي من وضع ستارا على الواقع هتكه رد فعله لا محالة.

۲٦- إمش بدائك ما مشى بك.

اذا أحسست بفتور وألم فلا تسرع الى الطبیب، تخلد الى الفراش، بل ‌اصبر وتجلد ما استطعت وامض في عملك، فربما كان الحادث طارئا لا یلبث أن ‌یزول، متى عجزت عن الحركة فاخلد الى الراحة وخفف الطعام، لا تلجأ الى الطبیب إلا عند الضرورة.. ومعنى هذا ان الإمام لا یشیر باستعمال الدواء إلا للمضطر الذي لا یجد وسیلة الى الشفاء إلا به، لأن الدواء ان أفاد من جهه أضر من‌ جهة ثانیة.

وتقدم قوله في الرساله ۳۰: (ربما كان الدواء داء).

وفي مستدرك‌ النهج، عن الإمام انه قال: لا یتداوى المرء حتى یغلب مرضه صحته.

وقرأت‌عن المعمرین أن أكثرهم لا یعرف طبیبا ولا دواء.

وقال بعض الشارحین: أوصى الإمام في حكمته هذه بالصبر على كل مكروه‌ ما دام الصبر ممكنا! والرضا بمنطق الواقع حسن، لكن بعد الجهاد وإفراغ‌ الوسع.

۲۷-  أفضل الزهد إخفاء الزهد.

في الخطبة ۷۹ حدد الإمام الزهد بقوله: (الزهادة قصر الأمل، الشكرعند النعم، التورع عن المحارم).

وفي الخطبة ۳۲ قسم الناس إلى أصناف، منهم من طلب الدنیا فنفرت منه، بعد الیأس تحلى باسم القناعة، تزین بلباس ‌الزهادة.

وإذا عطفنا قوله هن: أفضل الزهد إخفاء الزهد، عطفناه على ماتقدم نتج معنا أن الزاهد حقا وصدقا هو الذي أرادته الدنیا فأعرض عنه، اذا أخفي ذلك عن الناس فقد أضاف فضلا الى فضل، زاده الله أجرا على أجر.

أما طریق الإخفاء فهو أن یلبس للناس المألوف لأمثاله، لا یتحدث عن‌ زهده، ان حضر مائدة فيها ما لذ وطاب، أكل كأحد الحاضرین دون أن ‌یشعروا أنه من الزاهدین.

۲۸-  إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى.

المراد بالإدبار هنا مضی الأیام من العمر، بإقبال الموت أنه آت في أجله‌ لا یتقدم علیه، لا یتأخر عنه، المعنى أنت مسرع الى الموت فاستعد له. وفي الرسالة ۳۰ (من كانت مطیته اللیل والنهار یسار به وان كان واقف، یقطع‌ المسافه وان كان مقیم).

۲۹-  الحذر الحذر، فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر.

الى متى تتمادى في غیك أیها العاصي ـ أتظن أنك مهمل ومغفول عنك، مغفور لك؟ كل، انه تعالى یمهل ولا یهمل، ما سكت عنك إلا امتحان الك، رحمة بك عسى أن تثوب إلى رشدك وعقلك. وتقدم مثله مرار، آخرها في الحكمة ٢٤ .

يتبع .........

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الفرق بين علوم القرآن والتفسير
وتسلّط‌ ارباب‌ السوء
اليقين والقناعة والصبر والشکر
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)
أقوال أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment