عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

التخطيط السياسي في السيرة النبوية

يتضمن هذا التخطيط مرحلتين من العمل السياسي التغييري تفصل بينهما الهجرة.
ففي المرحلة الاولى، حيث تبدأ الرسالة مسؤولياتها التغييرية في مكة، بدأ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)باعداد الطلائع المؤمنة لتحمل هذه المسؤولية والقيام بها، في سرية وخفأ، فلم يعلن النبي الرسالة اعلانا، وانما كان يتكتم بها،ولم يمارس عمله، الا في كتمان وحذر شديدين، حرصا على الرسالة التي لم تترسخ بعد في المجتمع الجاهلي،ولم تقطع بعد شوطا من الطريق الطويل، أن تتعرض لاذى المشركين ومعارضتهم، التي كان يقدر صاحب الرسالة أن تكون قوية وشديدة، وتحمل كل أحقاد الجاهلية وأضغانها.
فلم تكن الدعوة في هذه المرحلة من وجودها، تتحمل معارضة قوية، كتلك المعارضة التي أعلنتها قريش في وجه الرسالة الجديدة بعد اعلانها، وكان من الحكمة أن يتحفظ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)ما أمكنه التحفظ، من أن يعرض هذاالدين لضغط من جانب قريش، أو حرب من جانب اليهود.
وتوافر لهذا الدين خلال فترة سرية العمل العدد الكافي من الطلائع التي تحمل مسؤولية هذه الرسالة بجدارة وقوة، وفي ايمان واخلاص كبيرين. وكان محل اجتماع هذه الطليعة بقائدها خلال هذه الفترة في الغالب، دارأرقم بن أبي الارقم، الذي جعل من بيته مهدا لالتقأ النبي القائد (صلی الله عليه وآله وسلم)بطلائعه المؤمنين به، وفي هذه الدار كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يوجه أصحابه، ويوزع عليهم المسؤوليات في حدود ما تقتضيه المرحلة من عمل، ثم ينتشرون في مكة قاعدة الدعوة الاولى، ليمارسوا مهامهم ومسؤولياتهم.

اعلان الدعوة
واذ وجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)العدد الكافي الذي يضطلع بهذه المهمة، ويحمي الرسالة، ويدافع عنها، بدأ باعلان الدعوة في مكة بالتدريج، وبدأ بتسفيه قريش فيما يعملون من عبادة الاصنام وفي أعرافهم وتقاليدهم.
وقد أثار ذلك موجة من النقد العنيف في وجه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وأصحابه، وعرضهم لاذى قريش وتعذيبها. وكانت قريش قد لمحت في هذا الوقت، خطر هذه الرسالة على كيانها ووجودها، مما دعاها الى أن تقف بقوة في وجه الرسالة الجديدة، للقضأ عليها قبل أن تترسخ في مجتمع مكة.

سياسة اللا عنف
ولم يكن من الحكمة في هذه المرحلة، أن يرد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)الاذى بالمثل والقوة بالقوة، والعنف بالعنف، فقد كانت الرسالة لا تزال تقطع بدايات الطريق. ورغم أنها كانت قد قطعت شوط السرية في العمل، فانها لم تكن تقوى على مواجهة العنف بالعنف، وتصعيد المواجهة والحرب مع قريش.
ولم يجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بدا، من أن يردهم باللين ويتغاضى عما يصيبه من الاذى، ويأمر أصحابه بالصبر واللين والتغاضي.
وكانت هذه السياسة سياسة اللا عنف في مواجهة العنف الذي كانت تستعمله قريش تؤذي قريش وتربكهاأكثر من أي شيء آخر، وتقطع عليها سبيل العنف والمقاومة المسلحة. ورغم كل ذلك، فقد كانت قريش تصعدالمقاومة، وتعرض أصحاب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)للتعذيب والاذى أكثر من ذي قبل.
وقد بلغت هذه المواجهة قمتها في مقاطعة قريش للنبي (ص)، وأهل بيته وأصحابه فترة طويلة من الزمن، تحمل المسلمون خلالها كثيرا من الاذى والعنت.

التخطيط لاعداد قاعدة جديدة
وكل ذلك دعا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أن يخطط لاعداد قاعدة جديدة للدعوة، حتى اذا ما اشتدت الازمة، وتعرضت الرسالة لخطر جدي، ينتقل اليها ويجعلها قاعدة لعمله ومنطلقا للرسالة، فتوجه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)الى الطائف ليبشر فيها برسالته، وليجد فيها أنصارا وأعوانا، يهيئون المنطقة لتكون القاعدة الجديدة التي كانت تشغل تفكير النبي القائد (صلی الله عليه وآله وسلم)في هذه الفترة.
واذ لم يقدر للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أن يجد في هذه المنطقة غايته، وجه جمعا من أصحابه الى الحبشة، ليهيئوا هذه المنطقة،لتكون المنطلق الجديد للدعوة.
ولم تكن الغاية من هذه الهجرة، أن يريح النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أصحابه من أذى قريش وتعذيبهم، كما يحسب بعض المؤرخين لسيرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). فقد بعث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)جمعا من كبار أصحابه، وممن كانت تحميهم عشائرهم،ومكانتهم في مكة من ملاحقة قريش وأذاها، من أمثال جعفر بن أبي طالب وغيره، وأبقى في مكة آخرين من الضعفأ، الذين لم تكن تحميهم عشيرة أو مكانة.
وقد أدركت قريش ما كان يريده النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)من ورأ هذه الهجرة، فبعثت الى الحبشة نفرا منهم بهدايا يحملونهاالى ملك الحبشة، لاحباط المهمة التي بعث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أصحابه من أجلها.
ولم يترك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)الامر مع ذلك، فقد كانت فكرة الانتقال بالدعوة الى قاعدة جديدة تشغل تفكير النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقد وجد (صلی الله عليه وآله وسلم)أن مكة لا تصلح أن تكون القاعدة الحصينة التي تتطلبها الدعوة، ولابد لهذه الرسالة من قاعدة جديدة تتمتع بالحصانة الكافية، ولا تجد قريش اليها سبيلا. فمكة قد شعرت بالخطر بوضوح، وهي على وشك أن تنقض على الدعوة بكل قواها وامكاناتها.
وقد اتسعت رقعة نفوذ الاسلام، ووجد العدد الكافي من المؤمنين برسالته، والرصيد الكافي لاقامة المجتمع الاسلامي الذي كان يخطط له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، ضمن هذه المرحلة في صبر وحكمة. واذا كانت مكة لا تصلح أن تكون القاعدة المطلوبة، فلابد من التفكير في قاعدة جديدة ينتقل اليها القائد برسالته وعمله وأنصاره. فأخذ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يعرض نفسه للحجاج، الذين يأتون لحج بيت اللّه الحرام في موسم الحج من كل سنة.
ويعرض عليهم الرسالة بمفاهيمها، وأفكارها الجديدة، ويدعوهم الى الايمان بها.
ولم يكن الغرض من هذه المحاولة فقط، أن يكسب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أنصارا جددا للرسالة، وانما كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يبتغي أيضا من ورأ هذه المحاولة، أن يجد القاعدة الجديدة التي كان يفكر بها خارج مكة.

الهجرة
وقد قدر اللّه لرسوله بعد كل هذه المحاولات، أن يجد في حجاج يثرب وفي يثرب غايته التي كان ينشدها.
فانتقل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)الى يثرب برسالته وأصحابه بعد أن مهد لذلك، وفي يثرب أقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)المجتمع الاسلامي الذي يخطط له الاسلام ويحكمه. وهنا تبدأ المرحلة الثانية من حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وجهاده، وهي مرحلة تختلف كل الاختلاف عن المرحلة الاولى من حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وعمله. ففي هذه المرحلة تدخل الدعوة مرحلة تسلم الحكم،ويتسلم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)كقائد أول لهذه الدعوة زمام الحكم في المجتمع الجديد، بكل ما يرتبط بالحكم من شؤون القضأ والادارة والسياسة والمال والاقتصاد والجيش. ويدخل المدينة حاكما يقر له المجتمع بهذا الحق وينقاد له.
وكان هذا اعلانا بانتهأ فترة، وبدء مرحلة اخرى من العمل، واعلانا لطبيعة هذه الدعوة وأصالة الحاكمية فيهاورأيها في الحكم، وان (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون).
وقد كان هذا المعنى واضحا للمسلمين من المهاجرين والانصار، الذين أقاموا هذا المجتمع، فلم يستغرب أحدمنهم أن يقيم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)دولة،وأن يتولى في هذا المجتمع شؤون الحكم والادارة والسياسة والحرب.
وكان واضحا لغير المسلمين أيضا. فقد عرفوا من طبيعة هذه الرسالة، أنها رسالة حاكمة، وأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)اذا ماتحول الى المدينة فسيدخلها حاكما، ويتسلم فيها زمام الحكم والادارة والحرب والسلم والمال.

الموقف الجديد
وقد تغير شيء كثير من موقف هذا الدين تجاه أعدائه ومناوئيه.
فبينما كان الموقف في مكة يتسم بكثير من اللين والمرونة من جانب المسلمين، تحول الموقف في المدينة الى موقف القوة ورد العنف بالعنف والاعتدأ بمثله، وكان من الطبيعي جدا، أن ينطوي التخطيط النبوي على هذا التفكيك في المرحلة، من حيث موقف المسلمين ازأأ عدائهم ومناوئيهم. فقد كان المسلمون في مكة ضعفأ ولا يقوون على مواجهة الاعتدأ بمثله. وأي عنف في المواجهة من جانب المسلمين، كان يؤدي الى احتدام الصراع بين الرسالة الجديدة والجاهلية الحاقدة، والى القضأ على الطليعة المؤمنة التي كانت تحمل مسؤولية الرسالة في تلك المرحلة من حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وحينما تحول المسلمون الى المدينة، تغير الوضع وأصبح المسلمون يكونون قوة في الجزيرة العربية.
اذن فلابد أن يتغير الموقف من لين الى عنف، ومن ضعف الى قوة، ولابد أن يتكيف المسلمون مع الوضع الجديدالذي تتطلبه المرحلة.
فليس من رسالة الاسلام في شيء، استعمال العنف في الوصول الى غاياته وأهدافه، بل الاقناع هو الاداة المفضلة لهذه الرسالة في تحقيق الشخصية الاسلامية والمجتمع الاسلامي، الا أنه اذا قدر لهذا الدين أن يصطدم بعقبة من العقبات التي تضعها الجاهلية في طريق هذه الرسالة، وبمشكلة من المشاكل التي تسببها الجاهلية لهذاالدين، فان الدعوة لا تتردد في ازاحة هذه العقبة عن طريقها، وتذليل هذه المشكلة بكل ما لديها من قوة، وبكل ماتملك من عنف، فقد كانت الجاهلية تريد أن تزاحم كلمة اللّه، وحكمه وسلطانه في المجتمع، وتتحكم في مصيرالمجتمع وعلاقاته، وتأخذ بيدها زمام المبادرة في ذلك كله.
وأي لين أو مرونة في مواجهة العدو في هذه المرحلة، يؤدي من دون ريب الى فسح المجال له بمصادرة الغايات والاهداف التي يتوخاها هذا الدين في تحكيم كلمة اللّه، وتحكيم شريعته ودينه على وجه الارض.
ولذلك فقد كان الاسلام في هذه المرحلة جديا في مواجهة المشركين واليهود، وفي تفويت الفرص عليهم، وفي تصفية قواعدهم. فقد كانت مسألة الحكم صراعا بين الاسلام والجاهلية.
وكان لابد في هذا الصراع من شيء كثير من القوة، ومن الجدية ومن العنف أيضا، حينما كان الامر يتطلب العنف والجد.

التخطيط العسكري
وقد كانت الحروب التي خاضها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)في مواجهة قريش، والقبائل العربية الموالية لها في الجزيرة، آية في التخطيط العسكري، وقمة في القيادة. والتخطيط والادارة مسالتان جوهريتان في هذا الدين، والقيادة والحكم جزءان أصيلان من منهج هذا الدين.
فقد بدأ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يخطط للاستيلأ على الجزيرة، وتحكيم شريعة اللّه فيها منذ أن دخل المدينة، وكانت قريش تعتبر عقبة كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغاية، كما كان اليهود يعتبرون العقبة الثانية، وقد كان يلتف حول قريش بعض القبائل المحالفة لها.
فبدأ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بالعمل على تصفية قواعد العدو، وكانت مكة من أقوى هذه القواعد التي كانت تصمد في وجه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)

الحصار الاقتصادي
وللقضأ على صمود مكة وقوتها، بادر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بتهديد الطرق التجارية، التي كانت تربط مكة بالشام، والتي كانت تقع على ساحل البحر الاحمر. وقد كان هذا الطريق هو العصب الذي يمد مكة بكل ما تريده من متطلبات الحياة في ذلك الوقت، من سلاح وعتاد وتجارة، وقد كانت تجارة قريش تعتبر موردا ماديا ومعنويا لها في أوساط الجزيرة، فقد كانت القبائل العربية المحيطة بمكة، تقصد مكة بما لديها من مال وحاصلات زراعية ومواشي، لتشتري من مكة ما تحتاجه من سلاح وبضائع مستوردة من الشام.
وحين خطط النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)لتهديد هذا الطريق، وتهديد تجارة قريش، كان يعلم أنه قد وجه بذلك ضربة قوية لشخصية قريش، من الناحية المادية والمعنوية، وفعلا نفذ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)هذا التخطيط في حرب بدر، ونجح المخطط في تهديد تجارة قريش.
ولئن عادت قريش في عام مقبل لاستعادة مكانتها، واعادة الامن الى تجارتها، وأصيب المسلمون ببعض الخسارة في هذه الحرب (حرب احد)، فان الطريق لم يعد لقريش، ولم تسلم قريش على تجارتها، وانتكست اقتصاديا ومعنويا، كذلك حيث انقطعت عنها البضائع التي كانت تأتي بها تجارتها من الشام، وفقدت أسواق مكة مركزيتها التجارية.
ولئن لم ينتبه المسلمون يومذاك، الى أهمية العمل الذي قام به النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)من ناحية سياسية وعسكرية، وتأثيره الكبير في شل الحياة الاقتصادية لمكة، فقد عرفت أوروبا بعد قرون أهمية هذا العمل في احراج العدو، وارهاقه ومباشرة الضغط عليه اقتصاديا. وعرفت هذه العملية بعد ذلك ب (الحصار الاقتصادي)، واستعملها نابليون ضدبريطانيا، كما استعملت مرات اخرى من قبل القادة العسكريين في الحروب.

تصفية قواعد المشركين واليهود
وبعد أن تم للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)ارهاق العدو واذلاله، وبعد أن فشلت آخر محاولة للعدو في التجمع للقضأ على المعسكرالاسلامي في حرب (الاحزاب). بدأ بضرب قاعدة العدو، وتصفية ما تبقى له من النفوذ في الجزيرة، وسقطت القاعدة أمام الزحف الاسلامي.
وصفح النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)عن كل جرائم قريش وعدوانها في كرم ونبل،واستمر الزحف على سائر مراكز تجمع العدو في أطراف الجزيرة، وانهارت هذه المراكز واحدا بعد آخر، أمام الجيش الاسلامي الفاتح... واستسلمت الجزيرة للدين الجديد، وفرضت الدعوة سلطانها على أطراف الجزيرة.

تحصين القاعدة الاسلامية
وفي خلال هذه الاعمال، كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يعمل لتحصين المدينة، بتطهيرها من العناصر المخربة والمنافقين واليهود، الذين كانوا يكيدون للاسلام وللمسلمين.
فكان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يعمل في وقت واحد لضرب معاقل العدو وقواعده في الجزيرة، وبتحصين القاعدة الاسلامية في الجزيرة، وتطهيرها من المنافقين واليهود، ويمارس خلال هذه المهمة وتلك مسؤولياته الرسالية في الدعوة،وتربية الشخصية الاسلامية، وتكوين المجتمع الاسلامي، وترسيخ العقيدة الاسلامية في النفوس.
واستطاع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بعد هذا الشوط الطويل الذي قطعه في ثلاث وعشرين سنة بعد البعثة من اخضاع الجزيرة كلها لشريعة اللّه، والاستيلأ فيها على زمام الحكم، وادارة المجتمع بما في ذلك من شؤون الادارة والمال والجيش والقضأ.
وانقادت الجزيرة بكل أطرافها للدعوة، واستسلمت لها في انقياد، وانتظمت في مجتمع واحد يحكمه الاسلام.
هذا اجمال من تفصيل عن الجانب القيادي من حياة النبي (ص)، والتخطيط الذي امتد على مدى ربع قرن من حياته(صلی الله عليه وآله وسلم)
والذي يدرس السيرة النبوية، والاعمال التي قام بها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بامعان ودقة، في مكة وفي المدينة، يجد أنهاكانت تنتظم جميعا في مخطط واحد، وينتهي هذا المخطط الى تسلم الحكم في الجزيرة، وتحكيم شريعة اللّهفيها، واشاعة الدعوة الاسلامية وترسيخها في نفوس الناس... هذا ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)معصوم، يعصمه اللّه من الزلل، ويوحي اليه بامره وحكمه، ويسدده في كل خطوة وعمل.
كما يرى أن مسألة الحكم، كانت مسألة جوهرية في هذه الرسالة، وليست مسألة مؤقتة، أو أمرا هامشيا في هذاالدين.
وان هذا الدين لا تنتهي رسالته عند دعوة الناس وابلاغهم شريعة اللّه وأحكامه، وردعهم عن الخضوع للاوثان والعبادة لغير اللّه.
بل ان من صميم هذه الرسالة، أن يتولى المنهج الالهي الحكم في حياة الناس، وليس هذا الدين مجموعة من(الاقتراحات الطيبة) و (النصائح والمواعظ الدينية) التي تلقى على المنابر ويتلقاها الناس بالقبول، ويعرض على غيرهم من الناس في سلام، وانما هو منهج في التشريع ومشروع للتنفيذ، ومخطط للتحكيم، ودعوة ودولة،وقوة وصلابة في تحقيق ذلك كله.

الدعوة والدولة في هذا الدين
واذا كانت (الدعوة) قد سبقت (الدولة) في حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، فان ذلك لا يعني أن الدولة لم تكن حاجة أساسية في هذا الدين، او جأت عرضا وبالصدفة. فان كل شي ء في حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، يشهد بأن هذه الدعوة كانت ملتحمة بفكرة الدولة، وأن هذه الدعوة لم يتأت لها أن تغزو جزءا كبيرا من الارض، وأن تنشر النور والوعي في كل مكان،لولا أن كانت دولة تسندها.
وقد كان من ضمن المخطط الكبير، أن يسبق الدعوة وجود الدولة، وأن يسبق هذه الدولة تغيير نفسي عميق للناس، وبنأ للشخصية الاسلامية، على اسس عقائدية متينة، لتكون الدولة دولة عقائدية هادفة، ذات رسالة الهية في تاريخ هذا الانسان.
فلولا الدعوة لم تكن الدولة التي أقامها هذا الدين قادرة على تحقيق رسالة اللّه على وجه الارض، ولم تكن هذه الدولة ذات رسالة تغييرية في حياة الانسان، ولم تكن الا شيئا من هذه الحكومات التي تتعاقب على الحكم، ولاتترك في الحياة الاجتماعية غير هذا الصخب والضجيج والعبث بمصالح الناس.
فقد عاشت الدعوة في مكة ثلاثة عشر عاما من دون دولة، فلم يؤمن بها غير قلة في مكة، وعاشت هذه الفترة في أزمة ومحنة قاسية. ولم تنتقل الدعوة الى المدينة، حيث وجدت الفرصة الكافية لاقامة الدولة، حتى استجابت الجزيرة كلها للدعوة، وانطلقت رسل الدعوة الى خارج الجزيرة، ولم يمر عليها قرن، حتى انفتحت للدعوة أقطارواسعة في آسيا وافريقية وأوروبا أيضا.
وليس ذلك الا لهذا الالتحام الوثيق بين الدعوة والدولة في الاسلام، لان أمر الدولة والحاكمية من صميم هذا الدين وجوهره، وليس شيئا طارئا عليه، حصل صدفة في حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وبعده، دون أن يكون هناك مخطط واسع لتحقيق هذه الدولة.

بعد عصر الرسالة
وضوح الرؤية:
لم يختلف المسلمون في أمر كما اختلفوا في أمر الخلافة والحكم بعد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ولم تحدث فتنة بين المسلمين كما حدث بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم).
وقد ذهب المسلمون في هذه الفتنة، مذاهب شتى من الرأي والمعتقد، الا أن الذي يلفت النظر حقا في هذه الفتنة،التي لم تخمد جذوتها بعد، أن المسلمين مهما اختلفوا في شي ء، فلم يختلفوا في أصل وجوب اقامة الحكم الاسلامي بين المسلمين، ومبايعة حاكم من بين المسلمين، يحكم بينهم بكتاب اللّه وسنة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم)
وهو أمر عجيب حقا، ملفت للنظر، فقد كانت المسألة من الوضوح عند المسلمين حدا لا يقبل أدنى تشكيك. فلم يحدثنا التاريخ، أن واحدا من المسلمين كان يقول، أو يرى في السقيفة التي احتدم المسلمون فيها في أمر الخلافة،أن لا حاجة الى خليفة أو حاكم، وبوسع المسلمين أن يعيشوا كما كانوا يعيشون في الجاهلية من غير خلافة أوامامة اسلامية.
وفيما بعد هذا اليوم أيضا، لم يحدثنا تاريخ المذاهب والنحل أن حدث بين المسلمين خلاف في هذه المسألة.
واستمرت مسألة أصالة الحاكمية في الاسلام، ووجوب الالتفاف حول الحاكم الاسلامي ومبايعته وطاعته أمرالا يشك فيه أحد، وان كان الشك يراود المسلمين كثيرا، فيمن كانوا ينصبون أنفسهم أئمة وقيمين على المسلمين، وفي الشروط التي تؤهل أصحابها لتسلم الحكم فيما بين المسلمين(عدا فرقة واحدة من الخوارج تعرف بالنجدات، وقد اندثرت تأريخيا، ولا وجود لها اليوم، كانت ترى ان لا حاجة‌للمسلمين الى امام. راجع شرح المقاصد للتفتازاني: 5/ 235. )
ومهما كان من انحراف الاجهزة التي تولت الحكم على امتداد التاريخ الاسلامي، وبعدها عن الاصالة الاسلامية والمفاهيم والمقاييس الاسلامية في الحكم، فان المسلمين بقوا يؤمنون رغم كل هذه الانحرافات، ان الحاكمية لايجوز أن تنحرف عن هذا الدين، وحتى الحكام الذين كانوا يتناوبون على الحكم في اتجاه منحرف عن هذا الدين،كانوا يحكمون باسم هذا الدين، وكان الفقه الاسلامي هو القانون الذي يحق له أن يحكم حياة الناس في شؤونهم الفردية والاجتماعية، وعلاقاتهم الداخلية والخارجية.
ولا يعني ذلك تبرير هذا الانحراف في الحكم في عصور الخلافة الاسلامية، الا أن أصالة الحاكمية في هذا الدين كانت تحظ ى حتى سقوط الخلافة العثمانية بوضوح كامل لدى جمهور المسلمين، ولم يكن احد من المسلمين يفكر يومذاك، ان الدين شي ء والدولة شي ء غريب عن الدين، ولا يتصل به بسبب، وان من الجائز أن يحافظ المسلمون على دينهم بينما يحكمهم حاكم كافر، وينظم حياتهم قانون غريب عن تراث هذه الامة وفقهها.

التآمر على هذا الدين
ولم يختف هذا الوضوح، الا بعد جهد كبير بذله الاستعمار في تغيير ملامح هذا الدين لدى العامة من المسلمين،وتحويله الى دين يشبه المسيحية (التي تؤمن بها أوروبا وافريقية) يقنع من الارض بما تحيطه جدران الكنائس،ويقنع من حياة الناس بالساعات القليلة التي يقضيها الناس في هذه الكنائس من أيام الاحاد، ويقنع من الاسهام في الحياة الاجتماعية، بما تتطلبه التقاليد الاجتماعية حين يموت أحد ويجري تشييعه ودفنه.
وقد حاول الاستعمار أن يعط ي نفس الطابع للاسلام في نظر المسلمين، ويفقده أصالته وحيويته، واهتمامه الكبير بمسائل الحياة وشؤونها، ويفصل الدين عن الدولة وعن شؤون الحياة الاخرى.
ومنذ ذلك التاريخ أخذ هذا الوضوح بالاختفأ، وأخذ المسلمون في الغالب لا يعون من الدين الا هذه الطقوس التي تجري أحيانا عن ايمان واخلاص، وتجري أحيانا اخرى كعادات وتقاليد اجتماعية لابد من الاتيان بها. ولايستعيد المسلمون كيانهم وشخصيتهم على وجه الارض، ولا يمكن أن تنطلق هذه الدعوة في تحقيق رسالة اللّه،الا حينما يعي المسلمون حقيقة دينهم، وواقع هذه الرسالة، والا حينما ينبثق من هذا الوعي قوة اسلامية على وجه الارض، وكيان اجتماعي وسياسي ذو جذور وأبعاد رسالية وعقائدية.

موقف أهل البيت من مسألة الحكم
من نافلة القول أن نتحدث عن انحراف الاجهزة التي تولت الولاية والحاكمية في المسلمين، في فترات طويلة من خلافة المسلمين.
ففي العصر الاموي والعصر العباسي والعصور التي تلت هذا العصر، بلغ انحراف الخلافة الاسلامية، حدا لايصح ولا يمكن الدفاع عنها.
وقد تصدى أهل البیت (علیهم السلام)، لتصحيح هذا الوضع الشاذ في جهاز الحكم الاسلامي، وتعديل مسيرة الحكم الاسلامي. ولا نحتاج الى كثير من العناء والبحث، لنكتشف أبعاد الدور القيادي والتخطيط الهادف الذي كان يمارسه وينفذه أهل البيت (عليه السلام)في اعداد الامة، في حركة تغييرية واسعة، لرفض سلطان الباطل، والمطالبة باعادة الحكم الاسلامي الى مجراه الصحيح. وآية هذه الحركة الواعية في تاريخ أهل البيت (علیهم السلام)، للمطالبة بتقويم ما انحرف من مسيرة الحكم، ثورة الحسين من أهل البيت (علیهم السلام)

فهو (عليه السلام)كان يصرح معلنا أهداف حركته الكبرى:
(اني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب).
ويرفض بيعة يزيد بقوة واصرار، ويرفض أن يكون (يزيد بن معاوية) أهلا لامامة المسلمين، وهو من تعرفه الامة معاقرا للخمر، لاعبا للقمار، سفاكا للدمأ، محللا لما حرمه اللّه على عباده.
والائمة الذين تسلموا مسؤولية الامامة بعد الحسين (علیه السلام)، من أهل البيت، لم يختلف موقفهم من انحراف الحكومات المعاصرة لهم، الا بقدر ما يتعلق بضرورات المرحلة ومتطلباتها.
فقد كان أهل البيت (عليهم السلام)اذن يخططون لتقويم جهاز الحكم الاسلامي، وتعديل ما انحرف منه، وتسلم الحكم والولاية، والقيمومة على حياة المسلمين.
وليس من شك أن الاسلوب الذي كان يمارسه الامام الحسين (علیه السلام)،ضمن هذا المخطط، كان يختلف عن الاسلوب الذي كان يمارسه الامام الصادق من أهل البيت. غير أن اختلاف الاسلوب كان نابعا من اختلاف في مرحلة العمل، وملابسات الظرف الاجتماعي. ولا يصعب على القارئ أن يكتشف وحدة الهدف، والتخطيط والعمل، لتصحيح ما انحرف من خط الحكم الاسلامي، وممارسة الحاكمية في حياة الناس، بالصورة التي يرتضيها اللّه تعالى ضمن هذه الفترة التاريخية عند اهل البيت(علیهم السلام)
فقد عاش الائمة من أهل البيت (عليه السلام)الى عهد الامام الحسين (علیه السلام)، محنة انحراف الجهاز الذي يتولى الحكم بين المسلمين، فكان العمل منصبا على استعادة الحكم الى مجراه الاسلامي الصحيح.
ومنذ هذا العصر أي أواسط العصر الاموي تسرب الانحراف من الحكم الى جسم الامة، بصورة خطيرة، وأصبح الحاكمون يعملون لاسناد موقعهم السياسي، وتمييع المعارضة السياسية بكل ما يتأتى لهم من اشاعة الفحشأ والفساد والانحراف في صفوف المسلمين، ويستعينون ببعض من يهون عليهم أمر دينهم من العلمأفي تحريف هذا الدين وتشويه معالمه. وواجه أهل البيت (عليهم السلام)هذه الحالة بوعي وجهاد طويل، للمحافظة على الصورة الحقيقية لهذه الرسالة، وصيانتهامن التشويه والانحراف، والمحافظة على هذه الامة، وايجاد تغيير جذري عميق في جسم الامة، وتكوين طليعة واعية تعي هذا الدين وعيا صحيحا، لتكون نواة للمستقبل استعدادا لاعادة الحكم الى مجراه الصحيح، وتسلم الحاكمية في هذه الامة.
ولا تهم بعد ذلك مسألة التوقيت، ومتى يقوم الحكم على القواعد الصحيحة التي يريدها اللّه، وانما المهم التخطيط الواعي، والعمل المخلص للّه، والصبر والمثابرة، وضبط النفس والاعصاب في مراحل العمل الطويلة الشاقة.
وليس بوسعنا هنا أن نلخص الادوار التي اجتازها أهل البيت (علیهم السلام)، والتخطيط الواعي الذي وضعوه لمواجهة الواقع الاجتماعي وتعديله وتغييره في هذه الادوار، والعمل المكثف الذي قام به أهل بيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)في هذه الفترة في النطاق التربوي الخاص. ولا يسع صدر هذا الحديث لاكثر من هذا الحد، الا اننا نخرج على كل حال، من هذا الاستعراض السريع بنتيجة قاطعة، هي أن أهل البيت (علیهم السلام)، كانوا يعملون دائما لاعادة الحكم الاسلامي الى مجراه الصحيح، وارسأ هذا الحكم على قواعد صلبة من هذه الرسالة والمؤمنين بها.
وبعد، فقد أطلنا الحديث بعض الشي ء في هذا الجانب من مسألة ولاية الفقيه، واسترسلنا كثيرا مع تاريخ هذاالدين، وظهوره في الجزيرة العربية، والملابسات التي أحاطت ظهور هذا الدين، وتوسعه في الجزيرة، وعلى وجه الارض، ولم يكن هذا الاسترسال عفوا من الحديث، واسترسالا في التاريخ غير مقصود، وانما قصدت الى ذلك قصدا. فان كل غموض يلابس فكرة ولاية الفقيه في نظري، تعود جذوره الى غموض في فهم حق هذا الدين في الحكم، وأصالة الحاكمية فيه. واذا اكتسب هذا الجانب من القضية الوضوح الكافي، فان من السهولة بمكان أن نفهم سائر أطراف القضية.
المصدر :
الاجتهاد والتقليد و سلطات الفقيه / محمد مهدي الاصفي

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

صلاة ألف ركعة
العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)

 
user comment