عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

أدلة خلافة أبي بكر

النصّ على إمامة أبي بكر مفقود باعتراف اهل السنة ، لكن فيه :
أولاً : إنّ إمامة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر كما نصّ عليه هو وغيره كشيخه العضد ، فإن كان الشرط إجماع أهل الحل والعقد فهذا غير حاصل ، وإن كان يكلفي بيعة الواحد فلما ذا دعوى الاجماع ؟
وثانياً : قد أشرنا سابقاً إلى خلاف الواقع في السقيفة بين أهلها ، والخلاف الواقف بين أهلها ومن كان في خارجها ... فأين الاجماع ؟
وثالثاً : إنّه لا خلاف في وفاة الصّديقة البتول وبضعة الرّسول من غير بيعة لأبي بكر ، فلابدّ وأن تكون قد بايعت عليّاً بالإمامة والخلافة ، وإلاّ فقد ماتت ميتة جاهلية والعياذ بالله ، وفاطمة الزّهراء عليها السلام ، معصومة بالكتاب والسنة المعتبرة ،وهي وبعلها أحبّ الناس إلى رسول الله صلّ الله عليه واله وسلّم .
ورابعاً : إنّه لا سبيل إلى إنكار وجود الخلاف بين أهل الحلّ والعقد حول إمامته ، وحتّى السّعد يعترف بذلك وهو في مقام دعوى الإجماع منهم ، فيقول :
( وإن كان من البعض تردّد وتوقّف ) فأورد كلام أنصار ، وخلاف أبي سفيان ، وتخلّف علي والزبير والمقداد وسلمان وأبي ذر ... وأشار إلى ما أخرج في البخاري وغيره من الكتب الصحيحة من أنّ بيعة علي (قد قطع الكلام هنا ولم يذكر الحديث ، فجاء في النسخ : « وقع في هذا الموضع من المصنف بياض مقدار ما يسع فيه كلمتان » ولا ندري هل البياض من المصنف حقاً أو من غيره ؟ وكيف كان فأنا وأنت ندري سبب الحذف !) عليه السلام كانت بعد وفاة الزهراء لستّة أشهر من وفاة النّبي ـ وانصراف وجوه الناس عنه ... وقد أشرت إلى موجز نصّ الحديث في بيعته قريباً .
( الثاني : إنّ المهاجرين والأنصار اتّفقوا على أنّ الإمامة لا تعدو أبابكر وعليّاً والعبّاس ، ثمّ إنّ عليّاً والعبّاس بايعا أبابكر وسلّما له الأمر ، فلو لم يكن على الحق لنازعاه ... فتعيّن أبوبكر ، للاتفاق على أنّها ليست لغيرهم ) .
هذا هو الوجه الثاني الذي استدل به في المتن ، أمّا في الشرح فقد جعل الأوّل هو العمدة ، وظاهره عدم الاعتماد على هذا الثاني الذي ذكره أيضاً شيخه القاضي العضد في ( المواقف ) ... وقد قلنا في جوابه :
إنه إن أريد ثبوت الاتفاق على إمامة أحد الثلاثة بعد موت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبل بيعة أبي بكر ، فهذا ممنوع ، لأن المسلمين أو أهل الحلّ والعقد منهم لم يجتمعوا حتى تعرف آراؤهم ، ومن اجتمع منهم في السقيفة كان بعضهم يرى أن سعد بن عبادة هو الحقيق بها ، فكيف يدعى وقوع الاجماع حينئذٍ على حقية أحد الثلاثة المذكورين ؟
على أنا لم نسمع أنّ أحداً ذكر العباس حينئذٍ .
وإن أريد ثبوت الإتفاق المذكور بعد بيعة أبي بكر ، فهو ينافي ما زعموه ـ في الوجه الأوّل وجعلوه العمدة ـ من الاجماع على بيعة أبي بكر خاصة ، إن اتفق زمن الأجماعين ، وإلاّ بطل الاجماع على حقيّة أحدهم سواء تقدم أم تأخّر ، لأنّ الاجماع على تعيين واحد هوالذي يجب اتباعه ، فيكون الحق مختصاً بأبي بكر ، ولم يصح جعل الاجماع على حقيّة أحد الثلاثة وجهاً ثانياً . ويحتمل بطلان الاجماع المتقدم وصحّة المتأخر مطلقاً ، وهو الأقرب .
قوله : ( ثمّ عليّاً والعبّاس بايعاً أبابكر وسلّما له الأمر ) .
قلت : قد أشرت إلى أنه متى بايع علي ؟ وكيف بايع ؟
قوله : ( فلو لم يكن على الحقّ لنازعاه ) .
إن أريد من المنازعة خصوص المحاربة ، فإنّه لم يكن له ناصر إلاّ أقل القليل ، وقد صرّح بقلّة ناصريه في غير واحد من خطبه وكلماته ورسائله ، وناهيك بالخطبة الشقشقية . وما ذكر السّعد من كثرة أعوانه وكون أكثر المهاجرين والأنصار والرؤساء معه مخالف للواقع كما عرفت . وإن أريد من المنازعة المعارضة بغير حرب فهذا ما قد فعله ، بل يكفي الامتناع عن البيعة منه ومن أهله وذويه وأتباعه تبعاً له ، بل توفّيت الزهراء الطاهرة ولم تبايعه ، وهي وعلي يعلمان بأنّ « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية » بل إنّه حملها ـ والحسنين ـ إلى وجوه الاصحاب مستنصراً فلم ينصروه ، كما رواه غير واحد من المؤرخين (1) وهذا ما ذكره معاوية في كتاب له معيّراً إيّاه به .
قوله : ( لأنّ ترك المنازعة يكون مخلاً بالعصمة ... ) .
قلت : ترك المنازعة إنما يكون مخلاً بالعصمة مع الاقتدار ، ولذا قام بالواجب أمام معاوية وما سكت عنه .
ثم لو سلّمنا أنّ الإمام عليه السلام ترك المنازعة مطلقاً في الأشهر الستة وبعدها ... فأيّ دلالة لذلك على تعيّن أبي بكر إماماً على الحق إذا لم يكن إماماً على الحق ؟ وهل هذا إلاّ تهافت ؟
لقد التفت السّعد إلى هذا الاعتراض ... وما كان جوابه إلاّ مصادرة .
هذا ، وممّا يؤكّد سقوط الوجهين المذكورين لجوء القوم إلى الاستدلال ببعض النصوص الموضوعة من قبل البكرية ، مع اعترافهم بعدم النص على إمامة أبى بكر مطلقاً ، وقد ذكرنا سابقاً أنها حتى لو تمت سنداً ودلالةً لا تكون حجة علينا .
( الثالث : قوله تعالى : ( وعدالله الذين آمنوا ... ) (2) ) .
أولاً : لقد قام الاجماع من أهل البيت عليهم السلام على أنّ المراد بهذه الآية هو الامام المهدي عليه السلام وأنصاره وأتباعه (3) وإجماع أهل البيت حجة بالأدلة القاطعة .
وثانياً : لو كانت هذه الآية دالة على خلافة أبي بكر لكانت خلافته مستندة إلى الله ، لكنّ خلافته ليست بنصب من الله بالإجماع . أما عندنا فواضح ، وأمّا عندهم فلأنّ الخلافة عندهم ليست بنصب من الله بل من الناس .
وثالثاً : لو كانت هذه الآية دالة على خلافة أبي بكر لكانت خلافته مستندة إلى الله ، لكنّ خلافته ليست بنصب من الله بالإجماع . أما عندنا فواضح ، وأمّا عندهم فلأنّ الخلافة عندهم ليست بنصب من الله بل من الناس .
وثالثاً : لو كانت هذه الآية دالة على خلافة أبي بكر ، لما عارض معارض ، لا من المهاجرين ولا من الأنصار ، مع أن الزّهراء توفيت ولم تبايعه ، وما أبوبكر ولم يبايعه سعد ومن معه ، وعلي عليه السلام طعن في تسميته « خليفة رسول الله » لكونه كذباً على الله ورسوله ، لأنّهما لم يستخلفاه ، بل إنّ مذهب القوم أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يستخلف أحداً ، وهذا ما نصّ عليه عمر أيضاً فيما رووه عنه (4) فليس أبوبكر وعمر وعثمان المراد بقوله تعالى : ( ليستخلفنّهم ) .
( الرابع : قوله تعالى : ( قل للمخلّفين من الأعراب ) (5) ... جعل الداعي مفترض الطاعة ، والمراد به عند أكثر المفسّرين : أبوبكر ... ) .
الاستدلال منهم بهذه الآية قديم جدّاً ، فقد تعرّض له شيخنا أبو جعفر الطوسي المتوفى سنة 460 وأجاب عنه بالتفصيل ، فليت السّعد لاحظ كلامه ولم يكرّر الاستدلال بها ، وحاصل كلامة رحمه الله : إن هذا الذي ذكروه غير صحيح من وجهين : أحدهما : إنّه غلط في التاريخ ووقت نزول الآية . والثاني : إنه غلط في التأويل ... (6) ... هذا أولاً .
وثانياً : إنّ أحاديث القوم أنفسهم في تفسير الآية مختلفة ، وكذا أقوال المفسرين ، وإن بعضهم كقتادة وسعيد بن جبير على أنّ الآية نزلت من أهل خيبر وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الداعي ... فراجع (7) .
وثالثاً : إنّ الذي فسّر الآية بأبي بكر وأن القوم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة هو « محمد بن شهاب الزّهري » وهذا الرجل مقدوح وانحرافه عن علي عليه السلام معروف .
ورابعاً : إنه يمكن أن يقال ـ بناء على تفسيرها بأبي بكر وعمر ـ بعدم وجود ما يدل على مدح للداعي ولاعلى إمامته فيها ... (8) .
وخامساً : إن الحق كون الداعي هو الامام أمير المؤمنين عليه السلام ...
كما ذكر شيخنا أبو جعفر (9) .
* ( الخامس : قوله صلّى الله عليه وسلّم : إقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر ) .
إستدلال السّعد وغيره بهذا الحديث دليل على أنّهم لم يروا أحداً من المحدثين ، ولا رووا حديثاً من أمر الدين ... لأنّه وإن كان أجلّ ما رووه في فضائل الشيخين ـ كما نص عليه الحاكم النيسابوري (10) ـ إلاّ أنّ كبار أئمّتهم والذين عليهم اعتمادهم في الجرح والتعديل ومعرفة الحديث ينصّون على أنه « باطل » ، « منكر » ، « موضوع » ، « غلط » .
فقد « أعلّه أبو حاتم ، وقال البزّار كابن حزم : لا يصح » (11) .
وقال الترمذي : « حديث غريب ، لا نعرفه إلاّ من حديث يحيى بن سلمة ابن كهيل ، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث » (12) .
وقال العقيلي : « حديث منكر لا أصل له من حديث مالك » (13) .
وقال النقاش : « هو واه » (14) .
وقال الذهبي مرة « هذا غلط » وأخرى : « واه » وثالثة : « واه جداً » (15) .
وقال الهيثمي : « فيه من لم أعرفهم » (16) .
وقال العبري الفرغاني : « موضوع » (17) .
وقال شيخ الاسلام الهروي : « باطل » (18) .
هذه كلمات أكابر القوم ... ومثلها عن غير من ذكر ... تجد ذلك كلّه في رسالة لنا مفردة في هذا الحديث مطبوعة * .
( السّادس : قول النبي : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ... ) .
وهذا الحديث كسابقه ... فإنّهم لم يرووه عن أحد من الصّحابة المشهورين ... وإنّما هو عن ( سفينة ) وهو أحد الموالي ، قيل : كان مولى رسول الله ، وقيل : مولى أم سلمة ... وهو مجهول حتى اسمه لم يعرف ، لأن سفيتة لقب له ، فقيل اسمه : مهران ، وقيل : رومان ، وقيل : نجران ، وقيل غير ذلك .
ثم إنّه لم يروه عنه إلاّ : « سعيد بن جمهان » الذي نصّ أكابرهم على أنّه لا يحتجّ به . فعن أبي حاتم « يكتب حديثه ولا يحتجّ به » وعن أحمد : « إنه سئل عنه ، فلم يرضه » وعن الساجي : « لا يتابع على حديثه » وعن البخاري : « في حديثه عجائب » وعن ابن معين : « روى عن سفينة أحاديث لا يرويه غيره » (19) . قلت : وهذا منها .
ثم إنّ هذا الحديث ممّا أعرض عنه البخاري ومسلم وغيرهما ، ولم يخرجه سوى الترمذي وأبي داود بالسند المذكور .
ويعارضه ما رووه عن حذيفة : « إن الخلافة تصير ملكاً عاضاً ثم ملكاً جبرية ثم تعود خلافة على منهاج النبوة » . وقد طبّق بعضهم هذه الخلافة الجديدة على منهاج النبوة على عمر بن عبدالعزيز ولمّا أبلغ بذلك سرّ به (20) ولذلك قال بعضهم بأن الخلفاء الراشدين خمسة (21) . إلاّ أنّ في حديث سعيد بن جمهان عن سفينة ـ عند أبي داود ـ أنّ بعضهم كان لا يرى علياً من الخلفاء الراشدين (22) !
وعلى الجملة فأحاديثهم وأقاويلهم في هذا الباب مختلفة ... إلاّ أنّ الذي يهوّن الخطب إعراض البخاري ومسلم وأمثالهما عنها ... بل الذي أخرجاه هما وسائر أصحاب السنن والمسانيد فاتفقوا عليه وهو الحق عندنا حديث « الاثنا عشر خليفة » المعتضد بالأحاديث الكثيرة الصحيحة ... وهذا الحديث ـ مهما حاول القوم تأويله وصرفه ـ يدل على ما نذهب إليه من القول بالأئمّة الاثني عشر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فهم خلفاؤه الراشدون ، وإن خلافتهم باقية إلى يوم يبعثون ... ومن هنا أورد أبو داود هذا الحديث في كتاب المهدي من ( سننه ) وجعله أول حديثٍ من أحاديثه .
نعم ، حاول الكثير منهم صرفه عن الدلالة على ذلك ... لكن المحقّقين منهم كالقاضي عياض وابن الجوزي وابن العربي المالكي وابن حجر العسقلاني ... يعترفون بالعجز عن تطبيقه على مذهبهم وتفسيره بمعنى يلتئم مع ما يقولون به ...
فظهر سقوط حديث سفينة ... وأن المعتمد في الباب ما أخرجه الشيخان وغيرهما .
( السّابع : قوله في مرضه الذي توفي فيه : ائتوني بكتاب وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا يختلف فيه إثنان . ثم قال : يأبي الله والمسلمون إلاّ أبابكر ) .
أخرج أحمد ومسلم عن يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد عن صالح ابن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : « قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرضه : أدعي لي أبابكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمّنٍ ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبي الله والمؤمنون إلاّ أبابكر » (23) .
هذا هوالحديث بسنده ومتنه .
أمّا سنداً فلم يروه البخاري ولا غيره من أرباب الصّحاح غير مسلم ، هذا أوّلاً .
وثانياً : فيه ( الزهري ) من مشاهير المنحرفين عن أمير المؤمنين ، ومن كبار المروّجين للأكاذيب ومقاصد السّلاطين .
وثالثاً : فيه ( عروة بن الزبير ) من أعلام أعداء آل الرّسول ، والمشيّدين لحكومة الغاصبين الفاسقين .
ورابعاً : إنّه لا يروى إلاّ عن عائشة ، وهي في مثل هذا الحديث متهمة ...
فالحديث موضوع قطعاً .
ومتنه أيضاً يدل على وضعه لوجوه :
الأول : إنّ أبابكر ممّن أمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج مع أسامة ، كما روى ذلك من الواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر (24) وقد لعن المتخلّف عنه (25) فكيف يدعوه مع أنّ كتابة الكتاب لم تكن موقوفة على حضوره ؟
والثّاني : إنّ أبابكر حضر عنده فأمره بالانصراف ولم يكتب شيئاً ... روى ذلك أبو جعفر الطبري وغيره عن ابن عباس حيث سئل : « أوصى رسول الله ؟ قال : لا . قلت : فكيف كان ذلك ؟ قال قال رسول الله : إبعثوا إلى عليّ فادعوه . فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر . فاجتمعوا عنده جميعاً فقال رسول الله : إنصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا ... » فانّه طلب عليّاً عليه السلام ليوصي اليه ، لكنّهم بعثوا إلى الرجلين ، فصرفهما ...
والثالث : إنّ هذا الحديث وضع ليقابل به حديث القرطاس الذي منع عمر ابن الخطّاب فيه عن كتابة الكتاب وقال كلمته المشهورة ، فلو صحّ فإنّ حديث القرطاس يتقدّم عليه الأمرين ، أحدهما : كونه متفقاً عليه . والآخر : أنّ النّبي إنما لم يكتب هناك في حق علي شيئاً عمر ، وفي هذا الحديث لم يكتب شيئاً في حق أبي بكر مع أنه ما منعه مانع !
( التّاسع : إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استخلفه في الصلاة التي هي أساس الشريعة ولم يعزله . ورواية العزل افتراء من الروافض ... ) .
أمّا أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استخلف أبابكر في الصّلاة ، فدعوى لا دليل عليها إلاّ من أحاديثهم وعن أسانيدهم خاصة ، ولا وجه لالزامنا بها ... هذا أولاً . وثانياً : فإنّ أسانيد هذا الحديث كلّها ساقطة عن الاعتبار بضعف رجالها ، مضافاً الى أنها جميعاً تنتهي إلى عائشه ، وهي في مثل هذه القضية ـ لكونها بنت أبي بكر ، ومناوئة لعلي عليه السلام ـ متهمة في النقل .
هذا من حيث السند .
وأمّا من حيث الدلالة ، فإنّها وان اشتملت على أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم إيّاه بالصلاة بالناس في موضعه ، لكنها جميعاً مشتملة على خروجه إلى المحراب وإمامته في تلك الصلاة بنفسه الشريفة .
فهذا ما جاء في نفس الأخبار المستدل بها على الاستخلاف ، وليست أخباراً أخرى ، كما ليست الصلاة صلاة أخرى ... ولا ريب في أنّ خروجه للصلاة بنفسه ـ بعد أمره أبابكر بالصلاة كما هو المفروض ـ عزل له عن ذلك .
فمن قال بأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عزله عن الصلاة فإنّما أراد هذا المعنى ، ولم يرد ورود في كتابٍ لأهل السنة مشتملة على لفظ العزل حتى يقال : ( ورواية العزل افتراء من الروافض ) .
وكأنّ السّعد قد تبع في هذا القول شيخه العضد حيث قال : « وما نقلوه فيه مختلق » ... ولم يشر أحد منهما ولا غيرهما تلك الرواية ومن رواها ؟
هذا ، ولم يتعرّض السّعد إلى دعوى صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خلف أبي بكر ، وظاهره القول بعدم صحة ذلك ، وفاقاً لكبار الحفاظ المحققين أمثال : ابن الجوزي وابن عبدالبر والنووي ... وهو ظاهر شيخه القاضي العضد ... وهذا هو الحلق ... فإنّ النّبي لا يصلي خلف أحدٍ من أفراد أمته ، وهو المستفاد من قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) وهو المصرّح به في كلام عدة من كبار الفقهاء كمالك بن أنس وأتباعه وآخرين ،
قالوا : بأنه لا يصح التقدّم بين يديه لا في الصلاة ولا في غيرها ، لا لعذرٍ ولا لغيره (26) .
وممّا يؤكّد كذب أصل خبر أمره أبابكر بالصلاة : كون أبي بكر (27) في ذلك الوقت في جيش أسامة في خارج المدينة ، الذي أصرّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على الخروج معه ولعن من تخلّف عنه (28) ... فإنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يعود ـ والحال هذه ـ فيستخلفه في الصّلاة .
وأيضاً : فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ملتزماً بالحضور للصّلاة بنفسه ، فقد صلّى بالنّاس حتى آخر يوم من حياته ، وفي مرضه ... إلاّ الصّلاة الأخيرة من عمره الشّريف ، حيث اشتدّ حاله فلم يحضر (29) ، وهذه هي الصلاة التي جاء أبوبكر ليصلّيها بالناس ، فلمّا علم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك خرج مع شدة حالته ، معتمداً على رجلين أحدهما علي عليه السلام (30) . فصلّى تلك الصلاة أيضاً بنفسه لأنّه لم يكن قد أمره بذلك ...
ولو فرض أنها كانت بأمره فقد عزله ...
ولو فرض أنّه أمره ولم يعزله ... فليس أبوبكر وحده الذي يكون قد صلّى بالناس بأمرٍ منه ، فقد استخلف رسول الله عليه وآله وسلّم في الصلاة بالناس حتى ابن ام مكتوم الأعمى ... ولم يدّع الخلافة ولا ادّعاها أحد له لذلك .
ولذا ترى بعضهم ـ كشارح المواقف ـ يضيف إلى دعوى الاستخلاف دعوى صلاته صلّى الله عليه وآله وسلّم خلفه ... لكنها دعوى باطلة ليس لها مستند معتبر ...
وأمّا خبر أنّ عليّاً عليه السلام قال لأبي بكر : « قدّمك رسول الله فلا نؤخرك ، رضيك لديننا فرضيناك لدنيانا » فليس في الكتب المعتبرة حتى عند أهل السنة ... نعم رواه بعضهم عن الحسن البصري مرسلاً (31) .
والخبر المرسل لا يحتج به ، لا سيّما والمرسل هو الحسن البصري المدّلس الكثير الإرسال المنحرف عن أمير المؤمنين عليه السلام ، مضافاً إلى تكذيب أخبار التواريخ والسّير هذا الخبر ونحوه ممّا وضعوه على لسان الامام عليه السلام .
هذا موجز الكلام في هذه القضية ، ولنا فيها رسالة مفردة حققناها فيها من جميع جوانبها ، فليرجع اليها من شاء .
( العاشر : لو كانت الإمامة حقاً لعلي غصبها أبوبكر ورضيت الجماعة بذلك ... ) .
هذا ليس إلاّ مجّرد استبعاد ، والأصل فيه هو حسن الظنّ بالأصحاب ، وقد عرفت أن السّعد نفسه يصرّح بأنّ كثيراً منهم قد حاد عن طريق الحق ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ... ولقد كان في علي عليه السلام ما يبعثهم على الحقد ، فإنّه قد قتل آباءهم وأقرباءهم في الحروب والغزوات ، وما يبعثهم على الحسد ، فإنّه كان أقرب الناس إلى رسول الله وافضلهم عنده وأحبّهم لديه ...
( وهذه الوجوه وإن كانت ظنّيات ... ) .
قد عرفت من كلامه أنّ العمدة عندهم هوالاجماع . وأنّه لا نصّ على خلافة أبي بكر مطلقاً ... لكنه مع ذلك يملأ كتابه بأشياء باطلة باعترافهم وأخرى غير ثابتة حتى عندهم ... ثم يقول : « إنّها باجتماعها ربما تفيد القطع لبعض المنصفين » !! وهذا ـ إن دلّ على شيء ـ فإنّما يدل على اضطراب القوم وتزلزلهم في اعتقادهم :
ثم يقول : ( ولو سلّم فلا أقل من صلوحها سنداً للاجماع وتأييداً ) ، لكنك عرفت حال الاجماع ... وعرفت حال ما اتّخذ سنداً ! .
من الأدلة والنصوص على إمامة الأمير
أقول : إنّ الأدلة العقليّة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والنصوص الدالة عليها من الكتاب والسنّة كثيرة جداً ... وقد أوردها أصحابنا الإمامية في كتبهم الكلاميّة عن الفريقين ... وإن الذي تعرّض له السّعد في كتابه لشيء يسير منها ، وقد يكون بعض ما لم يذكر أقوى سنداً ودلالة من بعض ما ذكر ... وعلى كلّ حال فإنّنا نتكلّم على ما جاء به في الجواب عن كلّ واحد من الوجوه التي تعرّض لها ، مقتصرين على كلامه ، مستندين إلى كتب أعلام مذهبه في إبطال مرامه ...
وقد ذكر قبل الورود في البحث أمرين :
أحدهما : إنّ الشيعة باثباتهم إمامة علي عليه السلام يقدحون فيمن عداه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّ معنى ذلك أن يكون قد خفيت تلك الأدلة على الكبار من الأنصار والمهاجرين .
والثاني : إنّ الشيعة يدّعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر .
ثم قال : ( ومن العجائب أنّ بعض المتأخّرين من التشغبين الذين لم يروا أحداً من المحدّثين ، ولا رووا حديثاً في أمر الدّين ملأوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار المطاعن ، في الصحابة الأخيار ، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسي ، كيف نصر الأباطيل ، وقرّر الأكاذيب ... ) .
أمّا القدح والطّعن في الصّحابة فنحن لسنا بصدد ذلك ، لكنّ البحث ـ لأجل إثبات أمر أو دفعه ـ قد ينجّر إلى ذكر أمور تؤدّي إلى الطعن والقدح ، لا في كلّ الصّحابة وإنّما في بعضهم ... ولذا اضطّر السّعد نفسه في أواخر الكتاب إلى الإشارة إلى بعض ما كان من الصّحابة ثم الاعتراف بأنّه : ( ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً ) .
نحن قد أوردنا سابقاً عن حال الصّحابة جملاً عن الكتاب والسنّة .
وأمّا الأخبار الواردة في هذا الباب فإنّها متواترةً قطعاً ، لا سيّما الوارد منها من طرقنا ... وتلك كتبنا تشهد بذلك ، بل لقد أقرّ غير واحد من علماء طائفته بتواتر بعض ما يحتجّ به أصحابنا ـ كما سترى ـ لكنّ السّعد يجهل ذلك كلّه أو يتجاهله ...
وأمّا ذكره المحقق العظيم الجامع بين العلوم العقلية والنقلية نصير الدين الطوسي وكتابه ( تجريد الاعتقاد ) بما ذكره فعدول عن النظر والحجاج إلى القذف والسباب والافتراء ، أو استعمال طريقة جهّال العامّة في التشنيع على المذاهب وسبّ أهلها ، وقلّما يستعمل ذلك إلاّ عند نفاد الحجة وقلّة الحيلة ... وكذلك حال السّعد في هذا الكتاب ، كما سترى أجوبته عمّا ذكره من الدليل والنص في هذا الباب .
المصادر :
1- الامامة والسياسة 13 ، شرح نهج البلاغة عن الجوهري .
2- سورة النور : 55 .
3- مجمع البيان في تفسير القرآن 7 / 152 .
4- الملل والنحل 1 / 23 ، السيرة الحلبية 3 / 207 وغيرهما من المصادر .
5- سورة الفتح : 16 .
6- التبيان في تفسير القرآن 9 / 324 / 326 .
7- الدر المنثور في التفسير المأثور 6 / 72 .
8- التبيان في تفسير القرآن 9 / 326 .
9- التبيان في تفسير القرآن 6 / 325 .
10- المستدرك 3 / 75 .
11- فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 2 / 56 .
12- صحيح الترمذي 5 / 672 .
13- الضعفاء الكبير 4 / 95 .
14- ميزان الاعتدال في نقد الرجال 2 / 142 .
15- ميزان الاعتدال 1 / 105 ، 141 تلخيص المستدرك 3 / 75 .
16- مجمع الزوائد 9 / 53 .
17- شرح المنهاج للبيضاوي . مخطوط .
18- الدر النضيد 97 .
19- تهذيب التهذيب 4 / 13 .
20- مسند أحمد 4 / 273 .
21- سنن أبي داود 2 / 263 كتاب السنّة .
22- سنن أبي داود 2 / 294 كتاب السنّتة .
23- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124 .
24- الملل النحل 1 / 29 ، شرح المواقف 8 / 376 .
25- تاريخ الطبري 2 / 439 .
26- فتح الباري : 3 / 139 ، نيل الأوطار 3 / 195 ، السيرة الحلبيّة 3 / 365 .
27- فتح الباري 8 / 124 .
28- الملل والنحل 1 / 29 ، شرح المواقف 8 / 376 .
29- صحيح البخاري ـ بشرح حجر ـ 2 / 137 باب : إنّما جعل الامام ليؤتّم به .
30- عمدة القاري 5 / 187 ، فتح الباري 2 / 123 ، الكواكب الدراري 5 / 52 .
31- الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 971 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحكومة البويهية والتشيع .
تاريخٌ يلازم الناشئة العراقية
ما المقصود بليلة الهرير؟
عید الاضحی المبارك
المحاولات اليهودية لعرقلة انتشار الإسلام
في رحاب نهج البلاغة (الإمام علي عليه السلام ...
لماذا هاجر الحسين (ع) من المدينة ؟
مکاتبات علي عليه السلام ومعاوية
نقش الخواتيم لدى الأئمة (عليهم السلام)
تعريف الإمامة و وجوب نصب الإمام

 
user comment