عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

ألاِیمان وعلامات المؤمن

ألاِیمان وعلامات المؤمن

أصل الاِیمان : الاذعان إلى الحقِّ على سبیل التصدیق له والیقین. ولکنه صار اسماً لشریعة سیدنا محمد صلى الله علیه وآله وسلم (1)
واختلفوا فی مسمى الاِیمان فی العرف الشرعی، فقد ذهب المعتزلة والخوارج والزیدیة وأهل الحدیث إلى أنّ الاِیمان اسم لاَفعال القلوب والجوارح مع الاقرار باللسان . وأنّ الاِیمان یتناول طاعة الله ومعرفته مع ما جعل الله تعالى علیه دلیلاً عقلیاً أو نقلیاً فی الکتاب والسُنّة المطهّرة . وأنّ الاخلال بواحد من هذه الاُمور کفرٌ .
وذهب أبو حنیفة والاَشعری إلى أنّ الاِیمان یحصل بالقلب واللسان معاً. وهناک فریق ثالث یرى أنّ الاِیمان عبارة عن الاعتقاد بالقلب فقط . وتبلور عنه اتجاه یحصر الاِیمان فی نطاق ضیق هو معرفة الله بالقلب حتى أنّ من عرف الله ثم جحد بلسانه ومات قبل أن یقرّ به فهو مؤمن کامل الاِیمان .
وبالمقابل برز فریق رابع یرى أنّ الاِیمان ـ حصراً ـ هو الاِقرار باللسان فقط .
وتبلور عنه إتجاه یرى أنّ الاِیمان هو إقرار باللسان ولکن بشرط حصول المعرفة فی القلب (2)
ولکن التدبر فی آیات القرآن الکریم یکشف حقیقة أُخرى للاِیمان بعیدة عن کلِّ ما تقدم ، وهی أنّ الاِیمان لیس مجرد العلم بالشیء والجزم بکونه حقاً ، لاَنَّ الذین تبین لهم الهدى لم یردعهم ذلک عن الارتداد على أدبارهم ولم یمنعهم من الکفر والصد عن سبیل الله ومشاققة الرسول کما فی قوله تعالى : ( إنَّ الَّذین ارتَدُّوا على ادبارِهم مِنْ بَعدِ ما تَبینَ لهَمُ الهُدى... إنَّ الَّذینَ کَفَرُوا وصَدَّوا عَن سَبِیلِ اللهِ وشَاقُّوا الرسُولَ مِن بَعدِ ما تَبیَنَ لهُم الهُدى) (3) ومنهم من أضله الله على علم )(4)
فالعلم إذن لا یکفی وحده فی المقام ما لم یکن هناک نوع التزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحیث تترتب علیه آثاره ولو فی الجملة
ومن هنا یظهر بطلان ما قیل : أنّ الاِیمان هو العمل ، وذلک لاَنّ العمل یجامع النفاق ، فالمنافق له عمل ، وربما کان ممن ظهر له الحق ظهوراًعلمیاً، ولا إیمان له على أی حال(5)
وفی هذا الخصوص ، وردت أحادیث کثیرة عن أهل البیت علیهم السلام تعکس التصور الاِیمانی الصحیح وفق نظرة شمولیة ترى أنّ الاِیمان هو عقد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالارکان .
سُئل أمیر المؤمنین علیه السلام عن الاِیمان ، فقال : « الاِیمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان ، وعمل بالاَرکان »(6)
وقال الاِمام الباقر علیه السلام فی معرض تفریقه بین الاِسلام والاِیمان : «الاِیمان إقرار وعمل والاِسلام إقرار بلا عمل » (7)
ویؤکد الاِمام الصادق علیه السلام على قاعدة التلازم بین القول والعمل فی تحقق مفهوم الاِیمان ، فیقول : « لیس الاِیمان بالتحلی ولا بالتمنی ، ولکن الاِیمان ما خلص فی القلوب وصدّقته الاَعمال » (8). وعن سلام الجعفی قال : سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الاِیمان فقال : « الاِیمان أن یطاع الله فلا یعصى »(9)
ویتضح من خلال تلک الاَحادیث ونظائرها أنّ أهل البیت علیهم السلام قد رفضوا کون الاِیمان مجرد إقرار باللسان ، أو اعتقاد بالقلب ، أو بهما معاً ؛ لاَنه فهم سطحی قاصر ، إذ هکذا إیمان لا روح فیه ولا حیاة ، ما لم یقترن بالطاعة المطلقة لله وتنفیذ ما أمر والنهی عما زجر کل ذلک فی دائرة الوعی والسلوک والعمل .
هذا ، وتبلغ دائرة الاِیمان أقصى إتساع لها فی جواب الاِمام الصادق علیه السلام على سؤال عجلان أبی صالح عندما سأله عن حدود الاِیمان ، فقال علیه السلام : « شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، والاِقرار بما جاء به من عند الله ، وصلاة الخمس ، وأداء الزکاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البیت ، وولایة ولیّنا ، وعداوة عدّونا ، والدخول مع الصادقین » (10)
وهکذا نجد أنّ مفهوم الاِیمان فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام یتجاوز دائرة الاعتقاد المنسلخ عن السلوک ، ویرتکز على رؤیة موحدة ومترابطة تذهب إلى أنّ الاعتقاد القلبی متقدم رتبیاً على الاِقرار اللفظی ، ولا بدَّ من أن یتجسد هذا الاعتقاد وذلک الاِقرار إلى سلوک سوی . ثم إنّ کلّ تفکیک بین الاِیمان وبین العمل یفتح الباب على مصراعیه أمام النفاق والمظاهر الخادعة والدعاوى الباطلة . وعلى هذا الاَساس قال الاِمام الصادق علیه السلام : «الکفر إقرارٌ من العبد فلا یُکلف بعد إقراره ببیّنة ، والاِیمان دعوى لایجوز إلا ببیّنة وبینته عمله ونیته »(11)
فالاِمام علیه السلام فی هذا الحدیث یضع میزاناً دقیقاً للاِیمان یرتکز فی أحد کفتیه على الباطن الذی تعکسه نیة الفرد وانعقاد قلبه على الاِیمان ، وفی الکفة الاُخرى یرتکز على الظاهر الذی یتمثل بعمله وسلوکه السوی الذین یکونا کمرآة صافیة لتلک النیة .
ومن هنا یؤکد الاَئمة علیهم السلام على أنّ الاِیمان کل لا یتجزأ ، ویرتکز على ثلاث مقومات : الاعتقاد والاِقرار والعمل .
تأمل جیداً فی العبارة الاَخیرة من الحدیث «... ولا یکون الاِیمان إلاّ هکذا » فهی خیر شاهد على النظرة الشمولیة غیر التجزیئیة للاِیمان التی تتبناها مدرسة أهل البیت علیهم السلام .
ولم تنطلق تلک النظرة من فراغ ، أو جرّاء التأثر بالمدارس الکلامیة ، وإنما هی ربانیة التلقی نبویة التوجیه ، قال الرسول صلى الله علیه وآله وسلم : « الاِیمان والعمل شریکان فی قرن ، لا یقبل الله تعالى أحدهما إلاّ بصاحبه » (12)
ثم أنّ هذه النظرة الشمولیة للاِیمان ـ بمقوماتها الثلاثة ـ تستقی من منابع قرآنیة صافیة ، یقول العلاّمة الراغب الاصفهانی : «والاِیمان یُستعمل تارة اسماً للشریعة التی جاء بها محمد علیه الصلاة والسلام وعلى ذلک : (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالصَّابِئِینَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِینَ أَشْرَکُوا إِنَّ اللَّهَ یَفْصِلُ بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ) (13) وتارةً یستعمل على سبیل المدح ویُراد
به إذعانُ النَّفس للحقِّ على سبیل التصدیق وذلک باجتماع ثلاثة أشیاء : تحقیقٌ بالقلب ، وإقرار باللِّسان ، وعمل بحسب ذلک بالجوارح ، وعلى هذا قوله : (والَّذینَ آمنُوا باللهِ ورُسُلهِ أولئکَ هُمُ الصِدِّیقُونَ ) (14)
وإن قال قائل : إنَّ الله سبحانه قال : ( والَّذینَ آمنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أولئِکَ أصحابُ الجَنَّةِ ) (15) والعطف دلیل التغایر ، ومعنى هذا أنَّ العمل لیس جزءاً فی مفهوم الاِیمان . قلنا فی جوابه : المراد بالاِیمان هنا مجرَّد التصدیق تماماً کقوله تعالى حکایة عن أخوة یوسف : ( وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو کُنَّا صادقین ) (16)أمّا أکمل الاِیمان فهو أن یعمل حامله بموجب إیمانه، ویؤثره على میوله وأهوائه ویتجشم الصعاب من أجله لا لشیء إلاّ طاعة لاَمر الله (17)
وصفوة القول إنّ الاِیمان برنامج حیاة کامل ، لا مجرد نیة تُعقد بالقلب ، أو کلمة تقال باللِّسان بلا رصید من العمل الایجابی المثمر .
ونخلص إلى القول بأنّ للایمان مرتبتین ، تعنی الاُولى منهما : التصدیق بقول «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» وهذا هو الحد الاَدنى من الایمان ، وهو الایمان بمعناه الاَعم الذی یصدق على کل من دخل فی دین الاِسلام مقراً بالله وبنبوة سیدنا محمد صلى الله علیه وآله وسلم
فیما یراد بالمرتبة الثانیة من الاِیمان ما هو فوق التصدیق من الاقرار باللسان والعمل بالارکان ، أی التزام مبادىء الشریعة الاِسلامیة وأحکامها، من أداء الواجبات والعمل بالطاعات وتجنب المنکرات والشبهات ، وهذا هو الایمان الممدوح فی القرآن والسُنّة .
وهذه المرتبة الاخیرة من الایمان هی التی ستکون محل الاهتمام فی هذا الکتاب ، دون المرتبة الاُولى .
إنَّ حقیقة الاِیمان فی هذا الوجود هی أکبر وأکرم الحقائق . لم تدرکها النفوس عن طریق دائرة الحس الضیقة ، فلیست هی بحقیقة مادیة تُدرک بالحواس المعروفة ولکن هی حقیقة معنویة علویة تدرکها القلوب السلیمة، فتأخذ النفوس من أقطارها ، وتظهر ثمارها الطیبة نظافة فی الشعور ورفعةً فی الاَخلاق وإستقامة فی السلوک .
تلک الحقیقة التی تتجسد فی نفوس المؤمنین من خلال مظاهر عدیدة، یمکن الاشارة إلى أبرزها اهتداءً بقبس من نور النبوة وحماة منهجها ، وهی :
أولاً : التسلیم لله تعالى والرِّضا بقضائه : یقول الرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم : «إنَّ لکلِّ شیء حقیقةً وما بلغ عبد حقیقة الاِیمان حتى یعلم أنَّ ما أصابه لم یکن لیخطئه وما أخطأه لم یکن لیصیبه » (18)
فالمؤمن حقاً هو الواثق بالله تعالى وحکمته المستسلم لقضائه ، والمتقبل لما یجیء به قدر الله فی اطمئنان أیاً کان .
روى الصدوق رحمه الله بسنده عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم أنه لقی فی بعض أسفاره رکب فقال : « ما أنتم ؟ قالوا : نحن مؤمنون ، قال : فما حقیقة إیمانکم ؟ قالوا: الرّضا بقضاء الله والتسلیم لاَمر الله والتفویض إلى الله تعالى فقال : علماء حکماء کادوا أن یکونوا من الحکمة أنبیاء ، فإن کنتم صادقین فلا تبنوا ما لا تسکنون ، ولا تجمعوا ما لا تأکلون واتّقوا الله الذی إلیه ترجعون»(19)
فالرِّضا بقضاء الله والتسلیم لاَمره من أعلى مظاهر الاِیمان وهما من أبرز الخصال التی یتصف بها الاَنبیاء ، ومن یتمسک بها یرتقی إلى قمة الهرم الاِیمانی ویکون قد حصل على لباب العلم وجوهر الحکمة .
وفی هذا الصدد قیل لاَبی عبدالله علیه السلام بأی شیء یعلم المؤمن أنّه مؤمن؟ قال علیه السلام : « بالتسلیم لله والرِّضا بما ورد علیه من سرور أو سخط»(20)
ثانیاً : الحب فی الله والبغض فی الله : وهو من أبرز المظاهر العاطفیة التی تعکس حقیقة الاِیمان ، فحینما یؤثر الاِنسان ـ على ما یحبه ویهواه ـ مایحبه الله تعالى ویرضاه ، وحینما یکون غضبه لله لا لمصلحته الخاصة ، فلا شک أنّ هذا الشعور العاطفی العالی یکون مصداقاً جلیاً على عمق إیمانه ومصداقیته. ولذا ورد عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم : « لا یجد العبد حقیقة الاِیمان حتى یغضب لله ، ویرضى لله ، فإذا فعل ذلک فقد استحق حقیقة الاِیمان »(21). وعن الاِمام الصادق علیه السلام : « لا یبلغ أحدکم حقیقة الاِیمان حتى یحب أبعد الخلق منه فی الله ، ویبغض أقرب الخلق منه فی الله » (22)
ثالثاً : التمسک المطلق بالحق : یقول أمیر المؤمنین علیه السلام : « إنَّ من حقیقة الاِیمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّک على الباطل وإن نفعک » (23)
إنَّ ترجیح کفة الحق الضار على کفة الباطل النافع ما هی إلاّ مظهراً من مظاهر قوة الاِیمان الراسخ فی أعماق النفس المؤمنة .
رابعاً : حب أهل البیت علیهم السلام هو أحد الحقائق الهامة التی تمیز الاِیمان الصادق عن الزائف ، عن زر بن حبیش قال : رأیت أمیر المؤمنین علیه السلام على المنبر فسمعته یقول : « والذی فلق الحبة وبرء النسمة ، أنه لعهد النبی صلى الله علیه وآله وسلم إلی أنه لا یحبک إلاّ مؤمن ولا یبغضک إلاّ منافق»(24)
وعن جابر بن عبدالله بن حزام الاَنصاری قال کنا عند رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ذات یوم جماعة من الاَنصار فقال لنا : « یا معشر الاَنصار بوروا أولادکم بحب علی بن أبی طالب فمن أحبه فاعلموا أنه لرشدة ومن أبغضه فاعلموا أنه لغیة » (25)
وعن أبی الزبیر المکی قال : رأیت جابراً متوکئاً على عصاه وهو یدور فی سکک الاَنصار ومجالسهم وهو یقول : «علی خیر البشر فمن أبى فقد کفر ، یا معاشر الاَنصار أدبوا أولادکم على حب علی فمن أبى فانظروا فی شأن أُمه» (26)
وأورد الثعلبی فی تفسیره ونقله عنه الزمخشری فی الکشّاف ، والقرطبی المالکی فی الجامع لاَحکام القرآن ، والفخر الرازی فی التفسیر الکبیر قوله صلى الله علیه وآله وسلم : « من مات على حب آل محمد مات شهیداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستکمل الاِیمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملک الموت بالجنة ثم منکر ونکیر ، ألا ومن مات على حب آل محمد یزّف إلى الجنة کما تزف العروس إلى بیت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له فی قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائکة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السُنّة والجماعة .
ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء یوم القیامة مکتوباً على عینیه آیس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات کافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم یشم رائحة الجنة » (27)
فالاِمام علی علیه السلام وأهل بیته رمز الاِیمان وعلامة الطهر وعلیه فمن أحبهم فقد وجد فی قلبه حقیقة الاِیمان ، فهم مصابیح الدجى وأعلام الهدى من أحبهم ذاق طعم الاِیمان قال أبو عبدالله علیه السلام : « إنّه لا یجد عبد حقیقة الاِیمان حتى یعلم أنّ ما لآخرنا لاَوّلنا » (28)
ولا یکفی الحب المجرّد بل لا بدَّ من الاتّباع وتحمل تبعات هذا الحب، عن أبی عبدالله علیه السلام قال : « إنّا لا نعدُّ الرجل مؤمناً حتى یکون بجمیع أمرنا متّبعاً مریداً » (29). وعن الاِمام الباقر علیه السلام : « لا یبلغ أحدکم حقیقة الاِیمان حتى یکون فیه ثلاث خصال : حتى یکون الموت أحبّ إلیه من الحیاة ، والفقر أحبّ إلیه من الغنى ، والمرض أحبّ إلیه من الصحة . قلنا : ومن یکون کذا ؟! قال : کلّکم ! ثم قال : أیّما أحبُّ إلى أحدکم یموت فی حبّنا أو یعیش فی بغضنا ؟ فقلت : نموت والله فی حبّکم ؟ قال : وکذلک الفقر... » قلتُ : إی والله (30)
فالمقیاس النبوی الدقیق لمعرفة حقیقة الاِیمان إذن هو حب أهل البیت علیهم السلام والتزام طاعتهم ، والتبرّی من أعدائهم ، وقد عرفنا من خلال بعض ما مرَّ أنه المقیاس السلیم الذی یتم به الکشف عن حقیقة الاِیمان الکامل .
ویمکن تصویر الاِیمان والکفر ـ بدلیل ما تقدم ـ بمیزان ذی کفتین : کفة بیضاء نقیة تشتمل على حب أهل البیت علیهم السلام ؛ وهی کفة الاِیمان الصادق ، واُخرى سوداء مظلمة من بغضهم علیهم السلام ؛ وهی لیس إلاّ الکفر والنفاق والمروق من الدین .
خامساً : التدبر والنظرة الواعیة : قد تظهر حقیقة إیمان الاِنسان من خلال نظرته الفاحصة الواعیة لمن حوله ، فحینما یرى الناس منهمکین فی إعمار دنیاهم وتخریب دینهم ، فیأثرون الفانی على الباقی ، یدرک ـ حینئذٍ ـ أنّ هؤلاء عقلاء فی دنیاهم حمقاء فی دینهم . فهذه النظرة وذلک الاِدراک یکشفان عن وصول الاِنسان لحقیقة الاِیمان الواعی . ومن هنا قال الرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم لاَبی ذر الغفاری رحمه الله : « یا أبا ذرّ لا تصیب حقیقة الاِیمان حتى ترى الناس کلّهم حمقاء فی دینهم ، عقلاء فی دنیاهم » (31). وقد ورد عن الاِمام الصادق علیه السلام ما یشیر إلى ذلک بقوله : « لن تکونوا مؤمنین حتى تعدّوا البلاء نعمة والرَّخاء مصیبة » (32)
ولا تکفی ـ بطبیعة الحال ـ النظرة الواعیة فی تحقق الاِیمان الکامل بل لا بدَّ من موقف معاکس ومخالف لما علیه عامة الناس وهو إیثار الباقی على الفانی والعزوف عن الدنیا الفانیة..
لقی رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یوماً حارثة.. فقال له : « کیف أصبحت یا حارثة ؟ فقال : أصبحت یا رسول الله مؤمناً حقاً ، قال صلى الله علیه وآله وسلم : إنَّ لکلِّ إیمان حقیقة ، فما حقیقة إیمانک ؟ قال : عزفت نفسی عن الدنیا ، وأسهرت لیلی وأظمأت نهاری فکأنی بعرش ربی وقد قرب للحساب وکأنی بأهل الجنة فیها یتراودون ، وأهل النار فیها یعذّبون .
فقال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : أنت مؤمن نور الله الاِیمان فی قلبک ، فاثبت ثبتک الله » (33)
سادساً : السلوک العبادی السوی : قد تبرز حقیقة الاِیمان فی سلوک عبادی سویّ ، من خلال العمل بأوامر الله واجتناب نواهیه والنصیحة لاَهل بیت رسوله صلى الله علیه وآله وسلم . وفی هذا الصدد قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : « من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدى زکاة ماله وخزن لسانه وکفَّ غضبه واستغفر لذنبه وأدّى النصیحة لاَهل بیت رسوله فقد استکمل حقائق الاِیمان وأبواب الجنة مفتحة له » (34). وقد تظهر حقیقة إیمان العبد فی ضبطه لجوارحه وخاصة لسانه ، فقد ورد عن الرسول صلى الله علیه وآله وسلم قوله : « لا یعرف عبدٌ حقیقة الاِیمان حتى یخزن من لسانه » (35)
سابعاً : الموقف الاجتماعی : وقد تظهر حقیقة الاِیمان فی موقف إجتماعی مشرّف کأن ینفق المؤمن على ذوی الفاقة على الرغم من ضیق ذات یده ، أو أن ینصف الناس من نفسه فلا یُسیء لهم ولا یظلمهم ، أو یبذل علمه للجاهل منهم . کل موقف من هذا القبیل قد یأخذ بید المؤمن إلى مراقی الصعود فی درجات الاِیمان ، ویشکّل بمفرده حقیقة من حقائقه الناصعة ، یقول الرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم : « ثلاث من الاِیمان : الاِنفاق من الاِقتار ، وبذل السلام للعالم ، والانصاف من نفسک »(36)
ثامناً : حالة الخوف والرجاء : قد تتمثل حقیقة الاِیمان فی الجانب النفسی عندما یکون المؤمن فی حالة نفسیة بین الخوف والرجاء عاملاً
وفق مقتضیاتهما . قال أبو عبدالله الصادق علیه السلام : « لا یکون المؤمن مؤمناً حتى یکون خائفاً راجیاً ، ولا یکون خائفاً راجیاً حتى یکون عاملاً لما یخاف ویرجو » (37)
المصادر :
1- الذریعة إلى مکارم الشریعة ، للراغب الاصفهانی : 100 مکتبة الکلیات الازهریة ـ مصر ه 1393 هـ ط1
2- التفسیر الکبیر ، للفخر الرازی 1 : 23 ، 25 الجزء الثانی .
3- سورة محمد 47 : 25 و 32 .
4- کما فی سورة الجاثیة 45 : 33 ( وأضله الله على علم ) .
5- تفسیر المیزان ، للعلاّمة الطباطبائی 18 : 259 مؤسسة الاَعلمی ـ بیروت 1393 هـ ط2 .
6- نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 508/حکم 227 .
7- تحف العقول : 297 .
8- تحف العقول : 370 .
9- اُصول الکافی 2 : 33/3 کتاب الاِیمان والکفر .
10- اُصول الکافی 2 : 18/2 کتاب الاِیمان والکفر .
11- اُصول الکافی 2 : 40/8 کتاب الاِیمان والکفر .
12- معانی الاخبار : 186 باب الاِیمان والاِسلام .
13- سورة الحج 22 : 17 .
14- مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الاصفهانی : 26 المکتبة المرتضویة . والآیة من سورة الحدید ه 57 : 17 .
15- سورة البقرة 2 : 82 .
16- سورة یوسف 12 : 17 .
17- فی ظلال الصحیفة السجادیة ، للشیخ محمد جواد مغنیة : 181 .
18- کنز العمال 1 : 25/12 .
19- معانی الاخبار ، للصدوق : 187 باب معنى الاِسلام والاِیمان .
20- اُصول الکافی 2 : 62/12 کتاب الاِیمان والکفر .
21- کنز العمال 1 : 42/99 .
22- تحف العقول : 369 .
23- الخصال ، للشیخ الصدوق : 53 .
24- الارشاد ، للشیخ المفید : 25 .
25- الارشاد ، للمفید : 27 . وبوروا بمعنى : اختبروا .
26- أمالی الصدوق : 71 .
27- الکشاف 3 : 467 . وانظر التفسیر الکبیر 27 : 165 ـ 166 . والجامع لاَحکام القرآن 16 : ه 23 .
28- الاختصاص ، للشیخ المفید : 268 .
29- اُصول الکافی 2 : 78/13 کتاب الاِیمان والکفر .
30- معانی الاخبار : 189 .
31- مکارم الاَخلاق ، للطبرسی : 465 .
32- تحف العقول : 377 .
33- تحف العقول : 377 .
34- أمالی الصدوق : 273 .
35- اُصول الکافی 2 : 114/7 کتاب الاِیمان والکفر .
36- کنز العمال 1 : 44/88 .
37- اُصول الکافی 2 : 71 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :
بعض مصادر حديث ( لا فتى إلا علي .... )
مسألة عدالة الصحابة باختصار
الآيات النافية لاِمكان الرؤية
إجتهاد عمر في آيات الخمر
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...

 
user comment