عربي
Tuesday 16th of April 2024
0
نفر 0

الجدال اسوأ الافعال

الجدال اسوأ الافعال
قال تعالى " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن " (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه "(2)
قال تعالى " وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " (3)الشاهد أن كثيراً من المزاح - الآن - يختلط بالكذب والغيبة ، مثل هذه الحكايات التي تنتشر عن أهل الصعيد وهي غيبة لجميع الصعايدة ، وأخشى أن يأخذ حقه منك كل من سخرت منه يوم القيامة .
قال - صلى الله عليه وسلم - " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق"(4)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له .. ويل له "(5)
هذا بكلمة واحدة ، فما بالك من يستمر في المجلس الواحد لمدة ثلاث وأربع ساعات يكذب ، فاللهم استرنا واعف عنا وعن المسلمين .
واعلم ـ أخي ـ أنَّ السامع شريك القائل ، يقول الله تعالى " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا "(6)
فعليك أن تترك الكذب حتى في المزاح ، وتترك المراء وإن كنت صادقاً.
قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "(7)
وأنت تقلب الآن بصرك فلا تجد إلا الجدل ، أين العمل إخوتاه ؟!! هذا لعمر الله غضب من رب العالمين.
قال أهل العلم : الجدل والمراء يسبب أربعة أمراض قلبية :
أولاً : يفتن القلب.
ثانياً : ينبت الضغينة .
ثالثاً : يُقسي القلب.
رابعاً : يرقق الورع في المنطق والعمل.
قال خالد بن يزيد : إذا كان الرجل ممارياً لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. أهـ
وما أكثر ضحايا المراء ، وأتعس حالهم ، وقد شاهدناهم ـ والله ـ وعرفناهم ، ثم وصلوا الآن إلى درجة من الفراغ الإيماني والأمراض القلبية من العجب والكبر والغرور وحب النفس واحتقار الآخرين وازدرائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فما رأينا لجوجاً ممارياً يحب المراء والجدل إلا وسقط على جانبي الطريق فلم يصل، فلا ترى منهم أحداً .
انظر إلى هؤلاء تجدهم متساقطين على جانبي الدعوة يمنة ويسرة ، لا تجد لهم أخاً ولا صديقاً ولا حبيباً بعد إدمانهم المراء ، وما أجمل كلمة الحسن البصري حين قال : " إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم ، وبها يبتغى الشيطان زلته " ؛ ولذلك يقول الآجرى في كتابه القيم " أخلاق العلماء " : فالمؤمن يدارى ولا يمارى ، ينشر حكمة الله سبحانه ، فإن قبلت حمد الله ، وإن رُدت حمد الله .
فالمرء في سعة من أمره ، والمؤمن مقصوده القيام لله سبحانه بالحق ، والحق فقط.
قال عبد الرحمن بن أبى ليلى : ما ماريت أخي أبداً لأني إن ماريته إما أن أكذبه ، وإما أن أغضبه ، وأنا في سعة من الأمرين جميعاً.
ويحكى لنا خطيب أهل السنة ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ عن هذه الحادثة وقد مر بها شخصياً وفيها بيان لأثر الخصومة على العلاقات الأخوية وتكدير صفوها.
يقول : مر بي بشر بن عبد الله بن أبى بكرة فقال : ما يجلسك هاهنا ، فقلت : خصومة بيني وبين ابن عم لي فقال : إن لأبيك عندي يداً ، وإني أريد أن أجزيك بها ، وإني ـ والله ـ ما رأيت شيئاً أذهب للدين ، ولا أنقص للمروءة ، ولا أضيع للذة العبادة ولا أشغل للقلب عن الله من الخصومة .
قال : فقمت لأنصرف . فقال لي خصمي : مالك ، قلت : لا أخاصمك أبداً والله . فقال : عرفتَ أن الحق لي . فقال : لا ولكنى أكرم نفسي عن هذا . فقال لي : والله لا أطلب منك شيئاً هو لك ، ما بيننا هو لك.
يجب إنهاء المراء حالاً ، لا لأنَّ الكتب نطقت بهذا ، ولكنى أقول من واقع التجربة التي أكدت هذا ، وما زالت تؤكد لزوم التغاضي.
اهجروا المراء من الآن ، فدعك من المراء ، واترك الجدال نسأل الله لنا ولكم العافية.

إعدام الاختلاف

نريد أن نحكم على الاختلافات بالإعدام ، وهذا لا يتأتى إلا بشيئين :
الأول : معرفة أسباب الخلاف.
الثاني : استعمال أدب الخلاف.....
راعني قول بعض السلف : لو أن للخلاف صورةً لارتاعت لها القلوب ولهدت من هولها الجبال .

أما أسباب الخلاف فكثيرة فمن ذلك :

(1) الكبر

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إنَّ الرجل يحب أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً ، فقال : - صلى الله عليه وسلم - إنَّ الله جميلٌ يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس ".(8)
" بطر الحق " أي رده وعدم قبوله ، فترفض أن تقبل الحق فيحدث الخلاف ،قال تعالى : " َفمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُون " [يونس / 32] .
" غمط الناس " أي احتقارهم فتقول : من فلان حتى يعترض علىَّ ، فهنا تحدث الفرقة وينتج الخلاف.
مثال ذلك : أن أخاً حَدّث فقال : كنت جالساً في المسجد وأقرأ القرآن ، وقد أمسكته بيدي اليسرى واتكأت على اليمنى ، فجاء أخٌ صغير لا يتجاوز عمره الخامسة عشر، فقال لي: لو سمحت امسك المصحف بيدك اليمنى . يقول : فنظرت له فإذا هو غلام صغير ، فدار في نفسي أنَّ اليد اليسرى تستخدم لقضاء الحاجة ونحو ذلك ، فالأولى فعلاً أن أمسكه باليمنى ، لكن هذا غلام صغير ، وموقفي صار حرجاً . يقول : جلست أحدث نفسي، والمصحف بيدي اليُسرى ، وعندما أحاول نقله ليدي اليمنى أتراجع ، ثم في النهاية قلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ونقلت المصحف وقلت للأخ: جزاك الله خيراً.
فهو كان معتقداً أن الحق على خلاف صنيعه ، وإن كان فعله ليس بحرام ، وإنما غاية الأمر أنه خلاف الأولى ، وكاد يصده الكبر عن قبول هذه النصيحة .
ومن الطريف أن الأخ قال : فما لبثت خمس دقائق حتى نقلت المصحف مرة ثانية إلى يدي اليسرى . فنصحني الأخ الصغير مرة أخرى ، فقلت له : عندما تراني أصنع ذلك انقله بيدك في يدي اليمنى.
وهكذا انصرف الشيطان ، فانصاع الإنسان وقبل النصح.
إن رد الحق وعدم قبوله ، وغمط الناس واحتقارهم يؤدى لعدم القبول ،وكلاهما كبر ، نعوذ بالله من المتكبرين ، فعليك أن تتواضع ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " وإن الله أوحى إلى أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد ، ولا يبع أحدٌ على أحد ".(9)
تواضعوا فالمؤمنون أعزة على الكافرين ، أذلة على إخوانهم المؤمنين ، ولا تترفع عن قبول نصيحة من أي شخص كائناً من كان ،حتى إذا كان حليقاً أو مخالفاً لك في الاتجاه ، فما يدريك لعله أفضل منك ، فإنِّي أخاف أن يتسلل إليك ولو ذرة من كبر ، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.

(2) اختلاف وجهات النظر

اختلاف وجهات النظر ينبغي ألا يكون سبباً للاختلاف ، إذ هذا ليس عيباً ، بل إنَّ المجتهد يخطئ تارة ويصيب تارة ، وليس هناك عالم كل أقواله صحيحة ، فما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - .
في كتاب الرد الوافر لابن ناصر يقول : لقد أجمع العلماء على أنَّ فروع الشريعة المخطئ فيها مجتهد يثاب لا يكفر ولا يفسق .
فإذا كان كذلك والحالة هذه ، فعليك أن تتقدم بالنصيحة مشكوراً ، وتسوق دليلك مأجوراً ، وقد أوجب الله على المسلم أن ينزل عند الحق ، وإن جاء على يد أصغر إخوانه ، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.
ولقد أُخذ بقول الشيطان في قصته مع أبى هريرة عندما كان يأتي للسرقة ، وفي النهاية قال له : اتركني وأنصحك نصيحة ، ثم قال له : " إذا أويت إلى مضجعك فاقرأ آية الكرسي فإن قرأها مسلم في ليلة لن يقربه شيطان ".
فأخبر أبو هريرة - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : " صدقك وهو كذوب " .(10)
وصارت قراءة آية الكرسي عند النوم من السُّنة ، رغم أن الذي نصح بها هو الشيطان ، إذن علينا أن نأخذ بالحق ممن جاء به كائناً من كان ، فأنت أحق به وأهله.
والنصيحة في الله هي الأصل في هذه المسألة - كما سبق - فلا عليك خاصة إذا سيقت النصيحة في إطار من العاطفة النبيلة ، والروح الأخوية والود والعطف والحب والأدب.
انظر إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصلين أحدٌ العصر إلى في بنى قريظة "(11) ، فبعضهم كانت وجهة نظره الوقوف عند ظاهر اللفظ فلم يصلوا العصر إلا في ديار بنى قريظة ، فصلوا العصر بعد خروج وقته ، وبعضهم تأول هذا على أن النبي يحثهم على الإسراع فصلوا العصر في الطريق ، فما وبخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء ولا هؤلاء.
في صحيح الإمام البخاري يخبرنا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم الصائم ومنهم المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم(12)
فمن الأصول والثوابت التي ينبغي أن ننطلق منها لتكون لنا الريادة ويصبح القرن القادم هو قرن الإسلام ، أنَّ ما اختلف فيه السلف قَبْلنا وسعنا فيه الخلاف ، وما لم يختلفوا فيه لا يسعنا فيه الخلاف.

(3) الجهل والجُهَّال .

يقول الإمام الثقة سحنون (من أئمة المذهب المالكي ولد سنة 160 هـ) : يكون عند الرجل باب واحد من العلم فيظن أنَّ الحق كله فيه .
ومن أجود وأروع ما قيل في هذه المسألة قول الإمام على - رضي الله عنه - : العلم نقطة كثَّرها الجاهلون.
وقال أيضاً : لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.
فحين يتدخل الجهال ويتكلمون يحدث الخلاف ، والأصل أنَّ العلم نقطة ، كتاب الله وسنة رسول الله الصحيحة وفهم السلف ، هذه هي أصول العلم ، وما عدا ذلك فضلال وجهل وتفرق واختلاف .
قال تعالى : " فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم " [البقرة/137]

(4) النظرة الجزئية للإسلام.

تجد الإنسان عنده مسائل في العقيدة ، أو في الفقه أو في مصطلح الحديث فيقف عند هذا لا يتجاوزه ويظن أنَّ هذا هو الدين ، والإسلام أوسع وأرحب من ذلك.
القضية ـ إخوتاه ـ ليست في قراءة أو تحصيل كتاب كذا وكذا ، القضية أن تفهم الإسلام فهماً عميقاً مجملاً ، لا بد أن تحيط بالإسلام بعقائده وعباداته جملة.
لذلك كان السلف عندما يتكلمون في مسألة لا ينظرون إليها من خلال هذا المجهر الجزئي الهامشي ، وإنما يتكلمون بنظرة شاملة ، يقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين" [البقرة / 208] ، والسلم هنا الإسلام.
فالإسلام هرم ضخم لا بد أن تأخذه من جوانبه الأربعة ، ولن تحيط به هكذا حتى تنطلق من القمة حيث كان النبي وأصحابه ومن تابعهم بإحسان ، من حيث كان سلفنا الصالح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : فإذا ترك الناس بعض ما أنزل الله جهلاً أو هوى وقعت بينهم العداوة والبغضاء.
قال تعالى : "َمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ " [المائدة/14]
الصبر في طلب العلم ، لا بد أن تحيط بالإسلام جملة ، وتصبر في تحصيل علوم الإسلام السنوات الطوال ، قبل أن تتكلم لا بد أن تتعلم ، قبل أن تزعم أنك علمت لا بد من صبر طويل حتى يفتح الله عليك.
قال بعض السلف : العلم ثلاثة أشبار من أخذ الشبر الأول تكبر ، ومن أخذ الشبر الثاني تواضع ، ومن أخذ الشبر الثالث علم أنه جاهل ، فإياك أخي أن تكون أبا شبر.
يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ : كل يوم أزداد فيه علماً يظهر لي فيه مدى جهلي .
لذلك تعلم ، اطلب العلم ، وحاول أن تفهم ، واصبر على مُر الطلب ، يقول الإمام الشاطبي - في كلام في منتهى الخطورة ـ [في بيان الخلاف في الأمور الفرعية راجع في الحقيقة إلى الوفاق لاتفاق أطرافه على تحرى مقصود الشارع وهو واحد] ، يقول : " ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد حتى لم يصيروا شيعاً ، ولا تفرقوا فرقاً لأنَّهم مجتمعون على طلب قصد الشارع.
فاختلاف الطرق (للوصول إلى قصد الشارع المشرع) غير مؤثر كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة ، كرجل تقربه الصلاة ، وآخر يُقربه الصيام ، وآخر تقربه الصدقة ، إلى غير ذلك من العبادات ، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود ، وإن اختلفوا في أصناف التوجه.
فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحداً. (13)
وهذا يعنى أن الأئمة إذا اختلفوا في مسألة ، فماذا كان قصد كل واحد منهم ؟ لا شك أن قصدهم إصابة الحق ، فكلهم يبغي رضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا يكون في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الاختلاف ، لكن هذا لا يكون في مسائل العقيدة التي لا تقبل الخلاف.
فمثل هذه المسائل الخلافية يسعنا فيها الخلاف - اليوم - أما ما اتفقت فيه كلمتهم فلا يسوغ لنا الخلاف فيها.

(5) التعصب للأشخاص والآراء.

التعصب مذموم وحرام إلا أن يكون ذلك لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فلا يجوز أن تتعصب مطلقاً وعلى طول الخط لشخص من الأشخاص أو لرأى جماعة من الجماعات إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فالحق معهم أما غيرهم فلا.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات ، فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
فهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أبر هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً قال الله تعالى : " رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْه " [التوبة 100]
هؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز التعصب مطلقاً لشخص غير شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لجماعة غير صحابته رضوان الله عليهم .
إن مبدأ الهدى فتح عين البصيرة في أقوال من يُساء الظن بهم ، ومن يحسن الظن بهم على حد سواء ، إذ لا يجوز نصر المقالات والتعصب لها والتزام لوازمها لإحسان الظن بأربابها بحيث يرى مساوئهم محاسن ، ويسيء الظن بالخصوم فيرى محاسنهم مساوئ ، قال تعالى : " وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى " [المائدة/2]
فلا تغتر بأي اسم مهما كان ، ولكن في حدود الأدب والقيام بحقوق أهل العلم ، فإنَّ علماءنا ومشايخنا أحباءٌ إلينا ، ولكن القيام لله بالقسط أحب إلينا وأقرب .
فلا تتعصب لرأى إذ رأيي صواب يحتمل الخطأ ،ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب، فالتعصب ممقوت ، لا لشخص ولا لجماعة وإنَّما نتعصب لقال الله ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهم هؤلاء الأصحاب الذين زكاهم الله ، قال تعالى " فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [البقرة / 137]
السبب الثاني لإعدام الخلاف : استعمال أدب الخلاف .
قال تعالى : " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إحداهما على الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " [الحجرات / 9]
وهذا في حال اقتتال المؤمنين ولم ينف الله عنهم الإيمان ، ولم يفسق منهم أحداً.
وهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا واقتتلوا ولم ينف أحدٌ منهم عن الآخر اسم الإيمان ، بل لما سئل على بن أبى طالب - رضي الله عنه - عن الخوارج فقيل له : نكفرهم ، قال : لا فقيل : نفسقهم . قال : لا . قالوا : فمن هم ؟ قال - رضي الله عنه - : إخواننا بَغَوا علينا.
وجاءه آخر ينتقص من قدر أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ فقال له : اذهب مقبوحاً أتؤذي محبوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
نحتاج أن نستعمل أدب الخلاف ، ولكن كيف ؟ هذا ما نحن بصدده - إن شاء الله تعالى -
كثيراً ما أردد أن من أجمل وأمتع وألذ وأعظم وأحلى ما يملكه المسلم في هذه الدنيا الحب في الله ، وأضيف هنا أن أقول : إنَّ من أثمن وأغلى ما يملكه المسلم في هذه الدنيا بعد صلته بالله جل وعلا عَقْد الأخوة في الله ، اللهم اجعلنا إخوة متحابين ، وعُمَّنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا ، فإنْ كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات/ 10] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه "(14) وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يبع الرجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه "(15) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(16)
ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن ، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان ، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام ، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله وهي ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن ، وإن لم يحصل بينهما عهد مؤاخاة " [مجموع الفتاوى (11/100) ]
هذه أخوتنا ، هذه محبتنا ، نتقرب بها إلى الله كتقربنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج ، ووجوب التزامنا بها كوجوب الصلاة والزكاة ، وحقوقها واجبة على كل مؤمن تجاه أخيه ، بيد أن الواجبات تتفاضل فبعضها أكبر من بعض.
هذه الأخوة العميقة الغالية هي أثمن ما تملك ، خاصة إذا اجتمعت أنت ومن تحب في الله في الدعوة لدين الله ونصرة الإسلام وأهله ، إن هذا العقد من أقوى الوسائل لمواجهة التحديات ، وحل المشكلات التي تعترض الطريق ، وبهذا يشعر المسلم أنه ليس وحده ، فهناك من يشد أزره ، ويضع يده على يده.
هذه هي الأخوة ، إنني أستشعر سعادة غامرة ، لعل كثيراً منكم لا يشعر بها ، حين أشعر أن أخاً سأل عنى ، فليس بيني وبينكم عقد شخصي ، ولكننا إخوة في الله ، نسأل الله أنْ يرزقنا حباً خالصاً لوجهه.
هذه هي الأخوة التي لا يفرط المرء فيها ، فهي أغلى ما تملك في هذه الدنيا ، لكن هذه الأخوة قد تعكر صفوها هنات وهفوات وقد تعتريها اضطرابات وهزات ، قد تكون صغيرة ولكنها تكبر مع الأيام ، ويكبر أثرها فتنفر القلوب وتقع الوحشة ، وهذا منزلق خطير يجب على كل مسلم تجنبه ، فخسارة أخ لا يعوضها شيء ، فاللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين ونعوذ بك ربنا أن يحضرون.
إياكم والوشاة ، فقد ترتبط بأخٍ مدة من الزمن تحبه وتعتقد فيه الخير ، وتظن أنه من أهل الصلاح ، وتثق به ، فيأتيك أحد الوشاة يقول : إنَّ صاحبك هذا يقول عنك كذا وكذا ، فسرعان ما تقطع الصلة وتنهي الأخوة وتكون حينئذٍ قد أزلت يقينك بشك.
ينصحك الإمام الشافعي أن تواجه أخاك فتقول له : بلغني عنك كذا وكذا ، وإياك أن تُسمِّى الناقل ، فإن أنكر فقل : أنت أصدق وأبر ولا تزيدن على ذلك.
هذه - لعمر الله - أخلاق المؤمنين ، أخلاق هي أخلاق السلف ، بل إنه ينصحك نصيحة عظيمة فيقول : فإن اعترف بذلك فرأيت له وجهاً من العذر فاقبل منه ، وإن لم تر لذلك وجهاً فقل له : ماذا أردت بما بلغني عنك ؟ فإن ذكر لك وجهاً من العذر فاقبل منه ، وإن لم تر فضاق عليك المسلك حينئذٍ أثبتها عليه سيئة ، ثم أنت في ذلك بالخيار ، إن شئت كافأته بمثلها من غير زيادة ، وإن شئت عفوت عنه ، والعفو أقرب للتقوى وأبلغ في الكرم.
قال تعالى : " وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " [الشورى/40]
فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فتفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فلا تبخس إحسانه السالف بهذه السيئة فإنَّ ذلك الظلم بعينه ، وعامله بالسيئة إحساناً.
هذه يمكن تسميتها بالوصية الذهبية في الأخوة الإيمانية ، إن اتخاذ الصديق صعب ، ومفارقته سهل ، فإن كان لك صديق فشد يداك به.
فمن اليسير أن تغضب من أخيك وتتركه وتنتهي العلاقة ، إنَّ إحساسك بأنَّ لك أخاً في الله يحبك لإيمانك لا لمصلحة ولا لأي شيء نعيم للقلب - والله -
أسأل الله أن يرزقنا نعيم الجنة في الدنيا والآخرة ، فنعيش لذة الإيمان حين نحب المرء لا نحبه إلا لله.
أخوك لك بمنزلة السمع والبصر ، فالأخوة الإيمانية لا يقوم مقامها شيء ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام ومودته "(17) ، فأخوة الإسلام ومودته أبقى وأنقى وأعمق وأدوم فلا تفرط فيها سريعاً.
إياكم والخلاف ، فإنه داء يورث من الضغائن والأحقاد ما يُفسد القلوب ، نعم حين نقول : " إعدام الخلاف " لا نقصد أنَّه لن يكون ، فالخلاف سيظل ما دامت السماوات والأرض ، فإنهاؤه محال ، قال تعالى " وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ " [هود 118 - 119] فالاختلاف قائم ، ولكن المقصود معرفة أسباب الاختلاف فنتحاشاها ، فإن لم يكن بدٌ فوقع الخلاف فعلينا أن نتعامل بآداب الخلاف ، حينها لا تنتج هذه الآثار الوخيمة التي شاعت في حياة المسلمين الآن.
يقول بعض السلف : " ما رأيت أعقل من الشافعي اختلفنا أنا وهو في مسألة ، فلقيني بعد مدة فأخذ بيدي ، فقال لي : إذا كنا قد اختلفنا في مسألة ألا يسعنا أن نبقى أخوين متحابين " والكلام ليس على عمومه ، فإنَّ الخلاف العقدي يُفرق ، ولا بد هنا من المفارقة لأنَّ الله لا يرضى أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ، فالكلام هنا على أصحاب المعتقد الواحد ، وقد مَرَّ الحديث عن أسباب الاختلاف وبقى أن نتكلم عن آداب الاختلاف.
المصادر :
1- العنكبوت/46
2- أخرجه أبو داود (4800) والطبرانى في الكبير (8/117) ، وصحيح الجامع (1464).
3- التوبة 65
4- أخرجه البخاري (6477ومسلم (2988) ك الزهد والرقائق ، باب التكلم بالكلمة يهوى بها في النار.
5- الترمذي (2315) ، وأبو داود (4990) وحسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبى داود (4175) ، وصحيح الترمذي (1885)
6- النساء /140
7- الترمذي (3253) وابن ماجه (48) في المقدمة ، والإمام أحمد في مسنده (5/252 ، 256) والحاكم في المستدرك (2/486) صحيح الترمذي (2593) ، وصحيح ابن ماجه (45)
8- أخرجه مسلم (91) ك الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه.
9- أخرجه مسلم (2865) ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها .
10- أخرجه البخاري (3275) ك بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده.
11- أخرجه البخاري (4119) ومسلم (1770) ك الجهاد والسير .
12- أخرجه البخاري (1947) ، ومسلم (1118) ك الصيام ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر.
13- الموافقات (4/160) .
14- أخرجه البخاري (2442) ومسلم (2580) ك البر والصلة والآداب ، باب تحريم الظلم.
15- أخرجه البخاري (5142) ومسلم (1412) .
16- أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) .
17- أخرجه البخاري (226) ومسلم (2382) ك فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبى بكر الصديق.

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

من معاجز أمير المؤمنين عليه السّلام
ولادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام
الأسرة وأهمية دورها التربوي في إعداد الأجيال
خطبة شعبان وفضائل شهر رمضان
إبراز الحب‏
قول أهل الذكر بخصوص أهل البيت
ليلة القدر فاطمة الزهراء (عليها السلام)
الإمام الحسين (عليه السلام) مع أشلاء الشهيد
المستقبل والاقتصاد في الدراسات المستقبلية
ماهية الصلاة البتراء والأحاديث الناهية عنها عند ...

 
user comment