عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

کيف نستوعب فکرة المهدي

کيف نستوعب فکرة المهدي
هَبْ أنّ فرضيّة القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمرٍ طويل وإمامةٍ مبكّرة وغيبةٍ صامتة ، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً ، فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي ؟ وهل تكفي بضع رواياتٍ تُنقَل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم ممّا في هذا الافتراض من غرابةٍ وخروجٍ عن المألوف ؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي وجوداً تاريخياً حقّاً ، وليس مجرّد افتراضٍ توفّرت ظروف نفسيّة لتثبيته في نفوس عددٍ كبيرٍ من الناس ؟
تضافر الروايات على فكرة المهدي :
والجواب : أنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل‌ قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموماً ، وفي روايات أئمّة أهل‌ البيت خصوصاً ، وأكّدت في نصوصٍ كثيرةٍ بدرجةٍ لا يمكن أن يرقى إليها الشكّ . وقد اُحصي أربعمائة حديثٍ عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من طريق إخواننا أهل‌ السنّة(1) .
كما اُحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستّة آلاف رواية(2) ، وهذا رقم إحصائيّ كبير لا يتوفّر نظيره في كثيرٍ من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشكّ فيها مسلم عادةً .
الدليل على تجسيد الفكرة في الإمام الثاني عشر :
وأمّا تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر ( عليه الصلاة والسلام ) فهذا ما توجد مبرّرات كافية وواضحة للاقتناع به .
ويمكن تلخيص هذه المبرّرات في دليلين : أحدهما إسلامي ، والآخر علمي .
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر . وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهدي ليس مجرّد اُسطورةٍ وافتراض ، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية .
أمّا الدليل الإسلامي :
فيتمثّل في مئات الروايات الواردة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة من أهل‌ البيت عليهم السلام والتي تدلّ على تعيين المهديّ وكونه من أهل البيت‌(3) ، ومن ولد فاطمة(4) ، ومن ذرّية الحسين‌(5) ، وأ نّه التاسع من ولد الحسين‌(6) ، وأنّ الخلفاء اثنا عشر(7) .
فإنّ هذه الروايات تحدِّد تلك الفكرة العامة وتشخّصها في الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت ، وهي روايات بلغت درجةً كبيرةً من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفّظ الأئمّة عليهم السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته .
وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها ، بل هناك - إضافةً إلى ذلك - مزايا وقرائن تبرهن على صحّتها ، فالحديث النبويّ الشريف عن الأئمّة أو الخلفاء أو الاُمراء بعده وأ نّهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً - على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصى بعض المؤلّفين رواياته ؛ فبلغت أكثر من مائتين وسبعين روايةً(8) مأخوذةً من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة ، بما في ذلك : البخاري‌(9) ومسلم‌(10) والترمذي‌(11) وأبي داود(12) ومسند أحمد(13) ومستدرك الحاكم على الصحيحين‌(14) .
ويلاحظ هنا : أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري ،وفي ذلك مغزىً كبير ؛ لأنّه يبرهن على أنّ‌ هذا الحديث قد سُجِّل عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يتحقّق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمّة الاثني عشر فعلاً ، وهذا يعني أ نّه لا يوجد أيّ مجالٍ للشكّ في أن يكون نقل الحديث متأثّراً بالواقع الإماميّ الاثني عشري وانعكاساً له ؛ لأنّ الأحاديث المزيّفة التي تنسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - وهي انعكاسات أو تبريرات لواقعٍ متأخّرٍ زمنيّاً - لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكّل انعكاساً له ، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادّي على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التأريخي للأئمّة الاثني عشر ، وضُبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري أمكننا أن نتأكّد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع ، وإنّما هو تعبير عن حقيقةٍ ربّانيةٍ نطق بها مَن لا ينطق عن هوى‌(15) ، فقال : « إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر » . وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءاً من الإمام عليّ وانتهاءاً بالمهدي ؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبويّ الشريف .
وأمّا الدليل العلمي :
فهو يتكوّن من تجربةٍ عاشتها اُمّة من الناس فترةً امتدّت سبعين سنةً تقريباً ، وهي فترة الغَيبة الصغرى ؛ ولتوضيح ذلك نمهِّد بإعطاء فكرةٍ موجزةٍ عن الغَيبة الصغرى .
إنّ الغَيبة الصغرى تُعبِّر عن المرحلة الاُولى‌ََ من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام ، فقد قُدِّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام ، ويظلَّ بعيداً باسمه عن الأحداث وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله ، وقد لوحِظ أنّ هذه الغَيبة إذا جاءت مفاجئةً حقّقت صدمةً كبيرةً للقواعد الشعبية للإمامة في الاُمّة الإسلامية ؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادةً على الاتّصال بالإمام في كلّ عصر ، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة ، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأةً وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية ، سبّبت هذه الغيبة المفاجئة الإحساس بفراغٍ دفعيّ هائلٍ قد يعصف بالكيان كلّه ويشتِّت شمله ، فكان لابدّ من تمهيدٍ لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج ، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها ، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى‌ََ فيها الإمام المهدي عن المسرح العام ، غير أ نّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوّابه والثقات من أصحابه الذين يشكِّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه الإمامي .
وقد شَغَلَ مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممّن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها ، وهم كما يلي :
1 - عثمان بن سعيد العمري توفّي سنة 287 هـ
2 - محمد بن عثمان بن سعيد العمري‌ توفّي سنة 305 هـ
3 - أبو القاسم الحسين بن روح‌ توفّي سنة 326 هـ
4 - أبو الحسن عليّ بن محمد السَمَري‌ توفّي سنة 329 هـ
وقد مارس هؤلاء الأربعة مهامّ النيابة بالترتيب المذكور ، وكلّما مات أحدهم خلّفه الآخر الذي يليه بتعيينٍ من الإمام المهدي عليه السلام .
وكان النائب يتّصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام ، ويعرض مشاكلهم عليه ،ويحمل إليهم أجوبته شفهيةً أحياناً ، وتحريريةً في كثيرٍ من الأحيان ، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتّصالات غير المباشرة . ولاحظت أنّ كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي عليه السلام بخطّ واحدٍ وسليقةٍ واحدةٍ طيلة نيابة النوّاب الأربعة التي استمرّت حوالي سبعين عاماً ، وكان السَمَري هو آخر النوّاب ، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميّز بنوّابٍ معيّنين ، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة ، وقد عبَّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمّتها ؛ لأنّها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام ، واستطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة ، وتعدّهم بالتدريج لتقبّل فكرة النيابة العامة عن الإمام ، وبهذا تحوّلت النيابة من أفرادٍ منصوصين إلى خطٍّ عام ، وهو خط المجتهد العادل البصير باُمور الدنيا والدين ؛ تبعاً لتحوّل الغيبة الصغرى إلى غيبةٍ كبرى .
والآن بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدم لكي تدرك بوضوحٍ أنّ المهديّ حقيقة عاشتها اُمّة من الناس ، وعبَّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين ، ولم يَلْحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدّة تلاعباً في الكلام ، أو تحايلاً في التصرّف ، أو تهافتاً في النقل .
فهل تتصوّر - بربِّك - أنّ بإمكان اُكذوبةٍ أن تعيش سبعين عاماً ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلّهم يتّفقون عليها ، ويظلّون يتعاملون على أساسها وكأ نّها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أيّ شي‌ءٍ يثير الشكّ ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصّة متميّزة تُتيح لهم نحواً من ـ التواطؤ ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعيةٍ ثقة الجميع ، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أ نّهم يحسّونها ويعيشون معها ؟
لقد قيل قديماً : إنّ حبل الكذب قصير ، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ مِن‌ المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش اُكذوبة بهذا الشكل ، وكلّ هذه المدّة ، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء ، ثمّ تكسب ثقة جميع مَن حولها .
وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربةٍ علميةٍ لإثبات ما لها من واقعٍ موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته ، وإعلانه العامّ عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم‌ يكشف نفسه لأحد .
لماذا لم يظهر القائد إذن ؟
لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدّة ؟ وإذا كان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى ، أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبةٍ كبرى ، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذٍ أبسطَ وأيسر ، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تُتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بدايةً قوية ، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطوّر العلمي والصناعي ؟
الظروف الموضوعيّة وأثرها في عمليّات التغيير الاجتماعي :
والجواب : أنّ كلّ عملية تغييرٍ اجتماعيّ يرتبط نجاحها بشروطٍ وظروفٍ موضوعيةٍ لا يتأتّى‌ََ لها أن تحقّق هدفها إلّاعندما تتوفّر تلك الشروط والظروف .
وتتميّز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجّرها السماء على الأرض بأ نّها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية ؛ لأنّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربّانية ومن صنع السماء ، لا من صنع الظروف الموضوعية ، ولكنّها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف . ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرونٍ من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيّ محمدٍ صلى الله عليه و آله و سلم ؛ لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخّرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترةٍ طويلة قبل ذلك .
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير منها ما يشكِّل المُناخ المناسب والجوّ العام للتغيير المستهدف ،ومنها ما يشكِّل بعض التفاصيل التي تتطلّبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية .
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها مثلاً ( لينين ) في روسيا بنجاحٍ كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الاُولى وتضعضع القيصرية ، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير ، وكانت ترتبط بعوامل اُخرى جزئيةٍ ومحدودة ، من قبيل سلامة ( لينين ) مثلاً في سفره الذي تسلّل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة ؛ إذ لو كان قد اتّفق له أيّ حادثٍ يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح .
وقد جرت سنّة اللََّه تعالى - التي لا تجد لها تحويلاً - في عمليات التغيير الربّاني على التقيّد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقّق المُناخ المناسب والجوّ العام لإنجاح عملية التغيير ،ومن هنا لم يأتِ الإسلام إلّابعد فترةٍ من الرُسُل وفراغٍ مريرٍ استمرّ قروناً من الزمن .
فعلى الرغم من قدرة اللََّه سبحانه وتعالى على تذليل كلّ العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربّانية وخلق المُناخ المناسب لها سلفاً بالإعجاز لم يشأ أن يستعمل هذا الاُسلوب ؛ لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الربّاني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية ، وهذا لا يمنع من تدخل اللََّه سبحانه وتعالى أحياناً في ما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تكوّن المناخ المناسب ،وإنّما قد يتطلّبها أحياناً التحرّك ضمن ذلك المناخ المناسب .
ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبيّة التي يمنحها اللََّه تعالى لأوليائه في لحظاتٍ حرجةٍ فيحمي بها الرسالة ، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم‌(16) ، وإذا بيد اليهوديّ الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تُشَلُّ وتفقد قدرتها على الحركة(17) ، وإذا بعاصفةٍ قويةٍ تجتاح مخيّمات الكفّار والمشركين الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب‌(18) ، إلّا أنّ هذا كلّه لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظاتٍ حاسمةٍ بعد أن كان الجوّ المناسب والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكوّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية .
موقف الإمام المهدي عليه السلام من الظروف الموضوعيّة :
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهديّ عليه السلام لنجد أنّ عملية التغيير التي اُعِدَّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية - كأيّ عملية تغييرٍ اجتماعيّ اُخرى - بظروفٍ موضوعيةٍ تساهم في توفير المُناخ الملائم لها ، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقّت وفقاً لذلك. ومن المعلوم أنّ المهدي لم يكن قد أعدّ نفسه لعملٍ اجتماعيّ‌ محدود ، ولا لعملية تغييرٍ تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك ؛ لأنّ رسالته التي ادُّخِر لها من قبل اللَّه سبحانه وتعالى هي تغيير العالم تغييراً شاملاً ، وإخراج البشرية كلّ البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل ، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرّد وصول الرسالة والقائد الصالح ، وإلّا لتمّت شروطها في عصر النبوّة بالذات ، وإنّما تتطلّب مُناخاً عالمياً مناسباً ، وجوّاً عامّاً مساعداً يحقِّق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية .
فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل الجديدة ، وهذا الشعور بالنفاد يتكوّن ويترسّخ من خلال التجارب الحضارية المتنوّعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى ، مُدركاً حاجته إلى العون ، مُتلفّتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول .
ومن الناحية المادّية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدرَ من شروط الحياة القديمة في عصرٍ كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كلّه ، وذلك بما تحقِّقه من تقريب المسافات ، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض ، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزيّ لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة .
وأمّا ما اُشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي يُواجهها القائد في اليوم الموعود كلّما اُجِّل ظهوره ، فهذا صحيح ، ولكن ماذا ينفع نموّ الشكل المادّي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل ، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كلّ تلك القوى والأدوات ؟ وكم من مرّةٍ في التأريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأول لمسةٍ غازية ؛ لأنّه كان منهاراً قبل ذلك ، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه .
هل للفرد كلّ هذا الدور ؟
ونأتي إلى سؤالٍ في تسلسل الأسئلة المتقدمة ، وهو السؤال الذي يقول : هل للفرد مهما كان عظيماً القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم ؟ وهل الفرد العظيم إلّا ذلك الإنسان الذي ترشّحه الظروف ليكون واجهةً لها في تحقيق حركتها ؟
والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظرٍ معيّنة للتأريخ تفسّره على أساس أنّ الإنسان عامل ثانوي فيه ، والقوى الموضوعية المحيطة به هي العامل الأساسي ، وفي إطار ذلك لن يكون الفرد في أفضل الأحوال إلّاالتعبير الذكي عن اتّجاه هذا العامل الأساسي .
ونحن قد أوضحنا في مواضع اُخرى من كتبنا المطبوعة أنّ التأريخ يحتوي على قطبين : أحدهما الإنسان ، والآخر القوى‌ََ المادّية المحيطة به . وكما تؤثّر القوى المادّية وظروف الإنتاج والطبيعة في الإنسان ، يؤثّر الإنسان أيضاً في ما حوله من قوىً وظروف ، ولا يوجد مبرّر لافتراض أنّ الحركة تبتدئ من المادّة وتنتهي بالإنسان إلّابقدر ما يوجد مبرّر لافتراض العكس ، فالإنسان والمادّة يتفاعلان على مرّ الزمن ، وفي هذا الإطار بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببغاء في‌ تيّار التأريخ ، وبخاصّةٍ حين نُدخل في الحساب عامل الصلة بين هذا الفرد والسماء . فإنّ هذه الصلة تدخل حينئذٍ كقوةٍ موجّهةٍ لحركة التأريخ .
وهذا ما تحقّق في تأريخ النبوّات ، وفي تأريخ النبوّة الخاتمة بوجهٍ خاصّ ، فإنّ النبيّ محمداً صلى الله عليه و آله و سلم بحكم صلته الرسالية بالسماء تسلّم بنفسه زمام الحركة التأريخية ، وأنشأ مدّاً حضارياً لم يكن بإمكان الظروف الموضوعية التي كانت تحيط به أن تتمخّض عنه بحالٍ من الأحوال ، كما أوضحنا ذلك في المقدمة الثانية للفتاوى‌ََ الواضحة(19) .
وما أمكن أن يقع على يد الرسول الأعظم يمكن أن يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته الذي بشَّر به ونوَّه عن دوره العظيم .
ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود ؟
ونصل في النهاية إلى السؤال الأخير من الأسئلة التي عرضناها ، وهو السؤال عن الطريقة التي يمكن أن نتصوّر من خلالها ما سيتمّ على يد ذلك الفرد من انتصارٍ حاسمٍ للعدل ، وقضاءٍ على كيانات الظلم المواجهة له .
والجواب المحدَّد على هذا السؤال يرتبط بمعرفة الوقت والمرحلة التي يُقدَّر للإمام المهديّ عليه السلام أن يظهر فيها على المسرح ، وإمكان افتراض ما تتميّز به تلك المرحلة من خصائص وملابساتٍ لكي تُرسم في ضوء ذلك الصورة التي قد تتخّذها عملية التغيير والمسار الذي قد تتحرّك ضمنه ، وما دمنا نجهل المرحلة ولا نعرف شيئاً عن ملابساتها وظروفها فلا يمكن التنبّؤ العلمي بما سيقع في اليوم الموعود ،وإن أمكنت الافتراضات والتصورات التي تقوم في الغالب على أساسٍ ذهنيّ لا على اُسسٍ واقعيةٍ عينية .
وهناك افتراض أساسيّ واحد بالإمكان قبوله على ضوء الأحاديث التي تحدّثت عنه والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التأريخ ، وهو افتراض ظهور المهديّ عليه السلام في أعقاب فراغٍ كبيرٍ يحدث نتيجةَ نكسةٍ وأزمةٍ حضاريةٍ خانقة . وذلك الفراغ يُتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتدّ ، وهذه النكسة تهيّئ الجوّ النفسيّ لقبولها ، وليست هذه النكسة مجرّد حادثةٍ تقع صدفةً في تأريخ الحضارة الإنسانية ، وإنّما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التأريخ المنقطع عن اللَّه سبحانه وتعالى التي لا تجد لها في نهاية المطاف حلّاً حاسماً ، فتشتعل النار التي لا تُبقي ولاتذر ، ويبرز النور في تلك اللحظة ؛ ليطفئ النار ويقيم على الأرض عدل السماء .
المصادر:
1- يلاحظ كتاب « المهدي » للسيد محمد باقر الصدر قدس اللَّه روحه الزكية .
2- يلاحظ كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف اللَّه الصافي .
3- منتخب الأثر : 58 - 136
4- منتخب الأثر : 191 - 194
5- منتخب الأثر : 198 - 202
6- منتخب الأثر : 204 - 207
7- منتخب الأثر : 10 - 45
8- الشيخ لطف اللََّه الصافي في منتخب الأثر : 10 - 45 ذكر فيه ( 271 ) حديثاً
9- صحيح البخاري 4 : 75
10- صحيح مسلم 2 : 191
11- صحيح الترمذي 2 : 45
12- صحيح أبي داود 2 : 207
13- مسند أحمد 5 : 106
14- المستدرك على الصحيحين 3 : 618
15- اُنظر قوله تعالى : «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلَّاوَحْيٌ يُوحَى‌ََ ». النجم : 3 و 4
16- اُنظر قوله تعالى : «قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ». الأنبياء : 68 - 70
17- تفسير ابن كثير 2 : 33 ، والبحار للمجلسي 18 : 47 و 52 و 60 و 75 باب معجزات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم
18- تأريخ الطبري 2 : 244 حوادث السنة الخامسة من الهجرة
19- راجع البحث عن الرسول وكيفيّة إثبات نبوّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في مقدّمة الفتاوى الواضحة للسيد محمد باقر الصدر قدس سره .

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الفرق بين علوم القرآن والتفسير
وتسلّط‌ ارباب‌ السوء
اليقين والقناعة والصبر والشکر
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)
أقوال أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment