عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الارض في القرآن

الارض في القرآن



يقول الله جل شأنه في فرقانه المجيد: (وكأيّن من آية في السماوات والارض يمرّون عليها وهم عنها معرضون)(1).
حقاً إن من أعظم تلك الايات التي نمرّ عليها في كل وقت وعلى كل حال هي هذه الارض التي نعيش عليها ونعيش منها ونعيش بها، منها بِدؤنا وإليها معادنا. (منها خلقناكم وفيها نعيدكم)(2).
لا نزال نمشي على الارض، ونثير ترابها في الحرث والنسل، ونقلبها للغرس والزرع، ونتقلب عليها للضرع والمرع، ونزاولها في عامة شؤون الحياة. ولا تزال تدر علينا بخيراتها وبركاتها، ونحن ساهون لاهون، وعن آياتها معرضون، غافلون عما فيها من عظيم القدرة وباهر الصنعة ودلائل العظمة والقوة، هذا التراب الذي قد نعدّه من أحقر الاشياء وأهونها، والذي هو في رأي العين شيء واحد وعنصر فرد، كم يحتوي على عناصر لا تحصى وخواص لا تتناهى، تنثر فيه حب القمح مثلاً فيعطيك أضعافاً من نوعه، وتنثر فيه الفول والعدس وأمثالهما من القطانيات المختلفة في الطعوم والخواص فتعيدها إليك مضاعفة مترادفة، وتغرس في نفس ذلك التراب نواة النخل وبذرة الكرم وأقلام التين والتفاح وأمثالها من الفواكه فتثمر تلك الثمار الشهية المختلفة الاذواق المتغايرة الخواص.
التراب يخرج لك البطيخ بأنواعه:
أصفره وأحمره وأبيضه بتلك الروائح الطبيعية العطرة وكلّه حلو منعش، ويخرج لك الحنظل وكلّه مر مهلك، كل هذا والشكل متشابه والخضرة متماثلة والماء واحد والتربة واحدة، كما في القرآن (يسقى بماء واحد) والماء ماء، ولما يستوي الشجر، التراب واحد والمستقى واحد والثمرات والنتائج مختلفة; فمن أين جاء هذا الاختلاف العظيم؟
 أليست كلها عناصر في الارض يأخذ كل واحد من تلك البذور ما يلائمه من تلك العناصر الكامنة في التراب المكونة لتلك الثمرة والانواع المختلفة لا يختلط واحد بالاخر ولا يشتبه نوع بنوع؟ كل ذلك على نظام متسق، ووزن متفق، وعيار معين، كل فاكهة في فصلها وموسمها، فربيعية لا تدرك في الخريف، وخريفية لا تنضج في الصيف، وصيفية لا توجد في الشتاء. وأعظم من هذا أثراً وعبراً ما تخرجه الارض من المعادن. انظر إلى هذه المعادن الثمينة والاحجار الكريمة من الذهب والفضة والياقوت والفيروزج ونظائرها، هل هي إلا من التراب ومن ثمرات الارض؟
 بل ذكر لي بعض المولعين بالصنعة القديمة «علم الكيمياء» ان الاكسير الاعظم الذي يتطلبه أهل هذا الفن وبه يحولون الفلزات من واحد لاخر حتى ينتهي إلى الذهب هو أيضاً من التراب، ولقد أبدع العارف الرباني الشيخ محمود الشبستري في رسالته المنظومة الموسوعة (كلشن راز) حيث يقول فيها:
شعاع آفتاب أزجرم أفلاك*** نگردد منعكس جزبر سرخاك
 توبودى عكس معبود ملائك ***از آن گشته تومسجود ملائك
 وملخص ترجمته: ان الشمس وهي في الفلك الرابع (على الهيئة القديمة) لا ينعكس شعاعها إلا على التراب، ولو لا التراب لما كان لاشعة الشمس فائدة وأثر. ثم يقول: انعكست فيك صفات معبود الملائك أيها الانسان، لهذا صرت محل سجود الملائكة. نعم نعود إلى الارض فنقول: والارض هي أم المواليد الثلاثة: الجماد، والنبات، والحيوان، وتحوطها العناية بالروافد الثلاثة: الماء، والهواء، والشمس، فهي الحياة وهي الممات وفيها الداء ومنها الدواء، وقد تحصى نجوم السماء أما نجوم الارض فلا تحصى.
نعم لا تحصى نجوم الارض ولا معادن الارض ولا عناصر الارض، ولا تزال الشريعة الاسلامية قرآنها وحديثها يعظم شأن الارض وينوِّه عنها صراحة وتلميحاً فيقول: (ألمْ نجعل الارضَ كفاتاً * أحياءً وأمواتاً)(3).
 (والارضَ بعدَ ذلِكَ دحاها * أخرج منها ماءَها ومرعاها)(4).
 (فلينظرِ الانسانُ إلى طعامِه * أنا صببْنا الماءَ صبّاً * ثم شققْنا الارضَ شقّاً * فأنبتْنا فيها حبّاً وعِنباً وقَضباً * وزيتوناً ونخلاً * وحدائق غلباً * وفاكهةً وأبّاً)(5).
دع عنك ما تخرجه الارض من نبات وأشجار وحبوب وثمار ومعادن وأحجار، ولكن هلمّ إلى هذا الانسان ذي العقل الجبار، الذي سخر الاثير والبخار والكهرباء والذرة، فهل يكون إلا من التراب؟ وهل عناصره وأجزاؤه التي التام جسمه منها إلا من التراب؟ وهل يتلاشى ويعود إلا إلى التراب؟
 ولعلّ من أجل شرف التراب وقداسته وعظيم خيراته وبركاته كنّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وصيه وأحب الخلق اليه علياً(عليه السلام) بأبي تراب، وكانت أحب الكنى إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)(6)
ومنها قد استخرج عبد الباقي العمري معنى شعرياً عرفانياً حيث قال: خلق الله آدماً من تراب فهو ابن له وأنت أبوه(7)ولعلّ من هنا أيضاً ينكشف سرّ تقبيل الارض بين يدي الملوك تعظيماً لهم، يعني قدس الارض التي أنشأتك ومنها تكوّنت. وقال الحكيم العارف (الخيّام) في بعض رباعياته:
أى خاك أگر سينه تو بشكافند*** بس گوهر قيمتى است در سينه تو
 وترجمته: أيها التراب لو يشقون عن قلبك وينظرون إلى باطنك لوجدوا فيه الكثير من الجواهر الكريمة ذوات القيمة العظيمة، وأبدع من هذا قول بعض أكابر العرفان الشامخين في (ترجيع بند) له فيه بدائع الاسرار والحكم يقول فيه:
دل هل ذره كه بشكافى ***افتابيش در ميان بينى
 وترجمته: قلب كل ذرة إذا شققته ونظرت فيه تجد شمسا منيرة فيه. وقد حاول بعض الرجال البارزين من المصريين ممن له إلمام بالادب الفارسي أن يجعل هذا النظم إشارة إلى الذرة التي هي من مخترعات هذه العصور. أما هذا العاجز فلا شك أنه أراد هذه الذرة التي ملات الاجزاء ومنها تكونت الاشياء، وأراد بالشمس تلك الشمس التي أشرقت منها الشموس والاقمار فعميت عن إدراكها البصائر والابصار.
نعم فهذه الارض المباركة ذات الايات الباهرة ألا تستحق التكريم والتعظيم والتعزيز والتقديس؟ وفي الاحاديث النبوية أيضاً إشارة إلى ذلك حيث يقول(صلى الله عليه وآله): «تمسحوا بالارض فإنها بكم برّة»(8).
وفي آخر: «تحفّظوا من الارض فانها أمّكم»(9). و«اكرموا النخلة فإنها عمتكم»(10).
و«خلق الله عزوجل النخلة من فضلة طينة آدم(عليه السلام)»(11).
وهذه كلها رموز وإشارات لا تخفى مغازيها على اللبيب، إذاً فلا يتبين من هذا سر أمر الباري جل شأنه للملائكة جميعاً أن يسجدوا لادم الذي خلقه من تراب وأنشأه من الارض، وأودع فيه جميع خواصها وعناصرها، وفيه انطوى العالم الاكبر.
وقد حدثتنا الكتب السماوية عن السجود لادم بأساليبها المختلفة، فليسجدوا لادم عبادة لله وتقديساً وتكريماً للارض ذات الخيرات والبركات والمحيا والممات. ومنه تعرف أيضاً سر امتناع إبليس المخلوق من النار عن السجود للارض، والعداء والنفرة طبيعي بين النار والارض.
الارض مجمعة والنار مفرقة، والجمع قوة والفرقة ضعف، الارض باردة معتدلة والنار محرقة مشتعلة، الارض نمو وزيادة والنار إفناء وإبادة، الارض يعيش بها كل حي والنار يهلك بها كل حي، إذاً فليسجد الملائكة لادم وليسجد أبناؤه لله على الارض فإنها أمهم البرّة الحنون.
ومن سموّ الارض على النار وشرفها الذي أشرنا إلى طرف منه ومن بعض نواحيه يتضح لك أيضاً اندفاع مغالطة الشاعر القديم بشار بن برد في انتصاره لابليس في تفضيل النار على الارض بقوله من أبيات:
الارض مظلمة والنار مشرقة *** والنار معبودة مذ كانت النار
 وهذه الحجّة الواهية تستند إلى دعامتين ساقطتين، الاُولى: أن الارض مظلمة. ومما تلوناه عليك من منافع الارض وبركاتها تعرف أن الارض هي المشرقة والنار هي المظلمة، الارض حياة والحياة هي النور، والنار لا حياة فيها بل تنعدم بها الحياة وعدم الحياة ظلمة، الارض أم الحياة والنار أم الموت، وأين الحياة من الموت؟ وكفى بالنار أن الله جعلها عقاباً ومآباً للعاصين، وكفى بالارض أن جعلها جنّة عدن للمتقين.
الثانية: ان النار معبودة مذ كانت النار. وهذه اسقط من سابقتها، فأن النار لم يعبدها من الامم إلاّ المجوس حتى قيل:
مثل المجوسي في ظلالته*** تحرقه النار وهو يعبدها
 وأما الارض فلم تزل معبودة على أوليات الدهر بأصنامها وأوثانها وهياكلها ونواديها، والجميع من الارض، ولا تزال أكثر الامم وثنية إلى اليوم. وحيث تجلّى شرف الارض وقداستها، إذن فليسجد الملائكة الذين ليسوا هم من الارض لادم وليد الارض، ولا يجوز السجود في شريعة الاسلام ـ سجود عبادة ـ إلا لله وإلا على الارض أو نبات الارض، ومن أجل ما في الارض من المواد المعقمة والعناصر المنقية، جعلها الشارع في الاسلام مطهرة من الحدث تارة، أي القذارة المعنوية التي لا يزيلها إلا الماء، فإذا لم يوجد الماء أو لم يمكن استعماله (فلمْ تجدوا ماءً فتيمَّموا صعيداً طيّباً)(12)
اقصدوا تراباً خالصاً نظيفاً طيباً فامسحوا فيه الجبين، الذي هو واليدان أحوج الاعضاء إلى النظافة وإماطة الغبار والاكدار عنهما، لمزاولة اليد للاعمال ومباشرتها للاجسام المختلفة في الاسناخ والاوساخ فالتراب يقوم مقام الماء، التراب أخو الماء والارض أخته، ومطهرة من الخبث أخرى، حتى مع التمكّن من الماء، فتطهر باطن الحذاء والقدم، وكثيراً من أمثالها، كأسفل العصا ونحوها. فلو تنجّس باطن القدم أو الحذاء ومشيت على الارض خطوات وزالت العين طهرت القدم، ولا حاجة إلى تطهيرها بالماء(13).
فالارض مسجد والارض طهور، وإليه قصد الحديث النبوي المشهور «جعلت لي الارض مسجداً وطهوراً»(14)
أي أينما أدركتني الصلوة سجدت وصلّيت، ومتى أعوزني الماء بها تطهرت فهي طاهرة ومطهرة. نعم وهي مطهرة بما هو أوسع وأدق وأعمق معاني التطهير، فإنّ فيها المواد المعقمة والعناصر المهلكة لجميع جراثيم الاوبئة والامراض. ومن أجل هذه الصفة والخصوصية في الارض أوجبت الشرائع السماوية وبالاخص شريعة الاسلام دفن الاموات فيها.
ولا يجوز دفن الميت في غيرها، وأن يوضع خده على الارض، ولا يجوز حتى إلقاؤه في البحر مع التمكّن من دفنه بالارض بل ولا إحراقه بالنار، مع أن المتبادر بادئ النظر إنه أبلغ في قمع جراثيم الاموات المضرّة بالاحياء، كما يصنعه البراهمة الذين يحرقون أمواتهم، ولكن أليس من الجائز القريب أن يكون جثمان الانسان يحمل أو تحمل فيه عند مفارقته الحياة مواد من ناشرات الاوبئة التي لو أحست بحرارة النار تطايرت في الفضاء قبل أن تحترق، فتأخذ مفعولها في نشر الامراض وتلويث الهواء؟ وكذا لو ألقيت في البحار أو الانهار تنمو وتشتد، بخلاف ما لو دفنت في التراب.
ولعل فيه مواد من خاصيتها تلف تلك الجراثيم المختلفة الانواع التي لو انتشرت لاهلكت كل حي حتى النبات. وقد أيّد العلم الحديث هذه النظرية، حيث اكتشف بعض علماء الغرب ـ حسبما نقل ـ أن في التراب مادة تقتل مكروب كل مرض من الامراض كالسل والتيفوئيد والملاريا وغيرهما، ولو لا تلك المادة المعقمة في التراب لا نتشر من جسد كل ميت أنواع من الامراض تقضي بالفناء على كل الاحياء، أو لعل إليه الاشارة بقوله تعالى: (ألم نجعل الارض كفاتاً * أحياءً وأمواتاً).
فقد ذكر اللغويون أن معاني «الكفت»: الجمع والضم والاماتة(15).
يقال كفته الله أي أماته، فيكون المعنى المشار إليه في الاية أن الارض تجمع وتضم الاحياء، ثم تجمع جراثيمها بعد الموت وتميتها، فإن تمت هذه الاستفادة فهي إحدى معجزات القرآن، وهل ترى أن قدماء الفلاسفة ومتأخّريهم من اليونان والهند والفرس وغيرهم فيما استخرجوه من خواص الارض ومعادنها وحيوانها قد أحصوا كل ما أودعه الصانع الحكيم فيها من الكنوز والرموز والخزائن والدفائن؟ كلا ولا عشر معاشر منها، ولعل نسبة ما وصلوا إليه مما تمنّع عليهم نسبة الذرة من الفضاء والقطرة من الدماء، ولا يزال العلم والبحث يأتي بالعجائب ولا تنتهي حتى تنتهي الدنيا ولن تنتهي.
وإنما الغرض الاشارة إلى أنّ هذه الارض هي من أعظم آيات الله الباهرة، نمرّ عليها ليلاً ونهاراً ونحن عنها معرضون، ولو عرفنا اليسير من منافعها وطبائعها لتجلّى لنا أنها الام الحنون البارّة بنا، التي ولدتنا وأرضعتنا من أخلاف نعمها وخيراتها. وما هذا البشر إلا غرس من غرسها وشجرة نامية من أشجارها، أولدتنا على ظهرها، وغذتنا من منتوجاتها، وتردنا إلى أحشائها. وفي الحديث النبوي «إن الارض بكم برّة تتيمّمون منها، وتصلّون عليها في الحياة الدنيا، وهي لكم كفات في الممات، وذلك من نعمة الله له الحمد، وأفضل ما يسجد عليه المصلّي الارض النقية»(16).
وقد نوّه عن بعض تلك المزايا الشاعر الحكيم العربي القديم الذي أدرك أول بزوغ شمس الاسلام ولم يسلم، لانه كان قد رشّح نفسه للنبوة ولم تساعده العناية، وتخطّته إلى من هو أحق بها وأجدر، ذلك أمية بن أبي الصلت، وكان ينظم المطولات الرنانة في السماء والعالم، والمبدأ والمعاد، والقبر والبرزخ، والحشر والنشر، والافلاك والاملاك. ففي بعض مطوّلاته يقول عن الارض:
الارض معقلنا وكانت أمنا *** فيها مقابرنا ومنها نولد
 وفي أخرى:
هي القرار فما نبغي بها بدلاً *** ما أرحم الارض إلا أننا كفر
 منها خُلقنا وكانت أمنا خلقت *** ونحن أبناؤها لو أننا شكر
 ومن الايام الزكية في شريعة الاسلام هو يوم (دحو الارض)، وهو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام، وهو من الايام التي يستحب فيها الصيام، وفيه دحا الله الارض من تحت الكعبة (أي بسطها ومدها).
وفيه دعاء جليل أوله: «اللهم داحي الكعبة، وفالق الحبة، وصارف اللَّزْبة، وكاشف كل كربة، أسألك في هذا اليوم من أيامك، التي أعظمت حقها، وأقدمت سبقها، وجعلتها عند المؤمنين وديعة وإليك ذريعة»(17) إلى آخر الدعاء. وإليه الاشارة بقوله تعالى: (والارض بعد ذلك دحاها).
نعود فنقول أليست هذه الارض حرية إذاً بالتقديس والكرامة والاجلال والعظمة؟ وأن نسجد عبودية لله على النظيف منها تكريماً لها، وشكراً لعظيم نعمته تعالى علينا بها، وتنشيطاً للحركة الفكرية للانتقال من عظمتها إلى عظمة خالقها، والتفاتاً إلى أنها مع عجز العقول والافكار والايدي العاملة في تحليل جميع عناصرها واستخراج كل جواهرها، ليست هي بالنسبة إلى سائر الكرات والكواكب والانظمة الشمسية التي أحصي منها الملايين، وما أحصي إلا اليسير منها، ما هي إلا ذرة تسبح في بحر هذا الفضاء غير المتناهي. فما أعظم الخالق؟ وما أدهش قدرته وعظمته وأبدع صنائعه وخليقته؟
 وكل ما ذكرنا من فضل هذه الكرة السابحة في بحر هذا الكون الذي لا ساحل له وهي الارض معلوم واضح، كما أن من المعلوم الواضح أن هذه الارض مع وحدتها وتساوي بقاعها وأجزائها ظاهراً ولكنها في الامتحان وفي ظاهر العيان أيضاً مختلفة أشد الاختلاف في البقاع والطباع والاوضاع، ففيها الطيبة والخبيثة، والحلوة والمالحة، والسبخة والمرة، وإليه الاشارة بقوله تعالى: (وفي الارض قطع متجاورات)(18).
وهذا الاختلاف شيء محسوس، فقد يلقي الحارث في أرض قبضة قمح فيعود عليه ريعها بأضعاف البذر سبعين مرة، وقد يلقيه في أخرى فيخيس ويحترق ولا يحصل حتى على البذر. ولا شك أن الطيب النافع هو الحري بالكرامة والتقديس، ولا يبعد أن تكون تربة العراق على الاجمال من أطيب بقاع الارض في دماثة طينتها وسعة سهولها، وكثرة أشجارها ونخيلها، وجريان الرافدين عليها، وما يجلبان من الابليز وهو الذهب الابريز، واللجين الجاري والياقوت والذهب الاسود. ثم لو تحرّينا هذه السهول العراقية وجدنا من القريب إلى السداد القول إن أسمى تلك البقاع، أنقاها تربة، واطيبها طينة، وأذكاها نفحة هي تربة كربلاء تلك التربة الحمراء الزكية(19).
وكانت قبل الاسلام قد اتخذت نواويس ومعابد ومدافن للامم الغابرة(20).
كما يشعر به كلام الحسين سلام الله عليه في إحدى خطبه المشهورة حيث يقول:
«كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء»(21).
وهذه التربة هي التي يسميها أبو ريحان البيروني في كتابه الجليل (الاثار الباقية) التربة المسعودة في كربلاء(22).
نعم، وإنما يعرف طيب كلّ شيء بطيب آثاره، وكثرة منافعه، وغزارة فوائده. ويدل على طيب الارض وامتيازها على غيرها طيب ثمارها، ورواء أشجارها، وقوة ينعها وريعها. وقد امتازت تربة كربلاء من حيث المادة والمنفعة بكثرة الفواكه وتنوعها وجودتها وغزارتها، حتى أنها في الغالب هي التي تمون أكثر حواضر العراق وبواديه بكثير من الثمار اليانعة التي تختصها ولا توجد في غيرها.
إذاً أفليس من صميم الحق والحق الصميم أن تكون أطيب بقعة في الارض مرقداً وضريحاً لاكرم شخصية في الدهر؟ نعم لم تزل الدنيا تمخض لتلد أكمل فرد في الانسانية وأجمع ذات لاحسن ما يمكن من مزايا العبقرية في الطبيعة البشرية وأسمى روح ملكوتية في اصقاع الملكوت وجوامع الجبروت فولدت نوراً واحداً شطرته نصفين سيد الانبياء محمداً(صلى الله عليه وآله)، وسيد الاوصياء علياً(عليه السلام) ثم جمعتهما ثانياً فكان الحسين(عليه السلام) مجمع النورين وخلاصة الجوهرين كما قال(صلى الله عليه وآله): «حسين مني وأنا من حسين»(23)
ثم عقمت أن تلد لهم الانداد أبد الاباد، وإذا كان من حق الارض السجود عليها وعدم السجود على غيرها، أفليس من الافضل والاحرى أن يكون السجود على أفضل وأطهر تربة من الارض؟ وهي التربة الحسينية، وما ذلك إلا لانها أكرم مادة وأطهر عنصراً وأصفى جوهراً من سائر البقاع. فكيف وقد انضم شرفها الجوهري إلى طيبها العنصري؟ ولما تسامت الروح والمادة وتساوت الحقيقة والصورة صارت هي أشرف بقاع الارض بالضرورة، كما صرح بذلك بعض الافاضل من كتاب هذا العصر(24).
وشهد به الكثير من الاخبار والاثار، وإليه أشار السيد(قدس سره) في منظومة الفقه الشهيرة بالبيت المشهور:
ومن حديث كربلا والكعبة *** لكربلا بان علوّ الرتبة
 وقد تلاقفت ذلك الشعراء من زمن الشهادة إلى اليوم، وتفننوا في بيان فضل هذه التربة وقداستها وشرفها واستطالتها على جميع بقاع الارض بالفضل والشرف، ولو جمع كل ما قيل فيها لجاء مجلداً ضخماً. وفي زيارة الشهداء مع الحسين سلام الله عليه وعليهم «اشهد لقد طبتم وطابت الارض التي فيها دفنتم»(25).
وقد اتفقت كلمات فقهائنا في مؤلفاتهم ـ مختصرة ومطولة ـ على أن السجود لا يجوز إلا على الارض أو ما ينبت منها، غير المأكول والملبوس، وأفضله السجود على التربة الحسينية. ومن تلك المؤلفات الجليلة (سفينة النجاة) لاخينا المرجع الاعظم في عصره الشيخ أحمد كاشف الغطاء(قدس سره) وقد طبعنا في العام الماضي جزأه الاول مع تعليقاتنا عليه، وأكملنا بتوفيقه تعالى تعاليق الجزء الثاني وهو جاهز للطبع. وقد علقنا على تلك الفقرة من الكتاب قبل أن يردنا هذا السؤال ونتصدى لتحرير هذا الجواب بما نصه بحرفه:
 (ولعل السر في التزام الشيعة الامامية السجود على التربة الحسينية مضافاً إلى ما ورد في فضلها من الاخبار، ومضافاً إلى أنها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الاراضي، وما يطرح عليها من الفرش والبواري والحصر الملوثة والمملوءة غالباً بالغبار والمكروبات الكامنة فيها، مضافاً إلى كل ذلك لعل من جملة الاغراض العالية والمقاصد السامية أن يتذكر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الامام بنفسه وآل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ، وتحطّم هياكل الجور والفساد والظلم والاستبداد; ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد»(26).
مناسب أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أولئك الذين وضعوا أجسامهم عليها ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملا الاعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة. ولعل هذا المقصود من أن السجود عليها يخرق الحجب السبع ـ كما في الخبر الاتي ذكره ـ فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى رب الارباب، إلى غير ذلك من لطائف الحكم ودقائق الاسرار).
المصادر :
(1) سورة يوسف: 105.
 (2) سورة طه: 55.
 (3) المرسلات: 25 ـ 26.
 (4) النازعات: 30 ـ 31.
 (5) عبس: 24 ـ 31.
 (6) صحيح مسلم، ج: 15، كتاب الفضائل، باب فضائل علي(عليه السلام)، ص: 182.
 (7) الاميني، الغدير، ج: 6، ص: 338.
 (8) المجلسي، بحار الانوار، ج: 82، كتاب الصلاة، باب ما يصح السجود عليه، ح: 6، ص: 158، عن المجازات البنوية.
 (9) المصدر السابق، ج: 7، كتاب العدل والمعاد، باب صفة المحشر، ص: 97.
 (10) المصدر السابق، ج: 63، كتاب السماء والعالم، باب التمر، ح: 61، ص: 142.
 (11) الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج: 4، ح: 5702، ص: 327.
 (12) سورة النساء: 43.
 (13) راجع: الوسائل للحر العاملي، ج: 1، كتاب طهارة، باب طهارة باطن القدم والنعل والخف، ص: 457 ـ 459.
 (14) الكليني، الكافي، ج: 2، كتاب الايمان، باب الشرائع، ح: 1، ص: 17، وابن رشد في بداية المجتهد، ص: 65.
 (15) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج: 1، مادة (كفت)، ص: 156.
 (16) النعمان المغربي، دعائم الاسلام، ج: 1، ص: 178، والبحار للمجلسي، ج: 82، كتاب الصلاة، باب ما يصح السجود عليه، ج: 20،ص: 156 عنه.
 (17) الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص: 669.
 (18) سورة الرعد: 4.
 (19) راجع: كامل الزيارات لابن قولويه، باب (88) فضل كربلاء وزيارة الحسين(عليه السلام)، ص: 259 ـ 271، والبحار للمجلسي، ج: 28، كتاب الفتن والملاحم، باب (2)، ح: 23، ص: 58 عنه.
 (20) راجع: تهذيب الاحكام للشيخ الطوسي، ج: 6، كتاب المزار، باب 22، ح: 138، ص: 73، والبحار للمجلسي، ج: 98، ح: 42، ص: 116 عنه.
 (21) الاربلي، كشف الغمة، ج: 2، ص: 241، والبحار للمجلسي، ج: 44، تأريخ الحسين(عليه السلام)، ص: 367 عنه.
 (22) البيروني، الاثار الباقية، ص: 329.
 (23) ابن قولويه، كامل الزيارات، باب (14) حب رسول الله(صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين(عليهما السلام)، ح: 11، ص: 52، والبحار للمجلسي، ج: 43، تأريخ الحسن والحسين(عليهما السلام)، ح: 35، ص: 271 عنه، وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ج: 3، فضائل الحسين(عليه السلام)، ص: 177، وقال حديث صحيح ولم يخرجاه.
 (24) هو عبدالله العلايلي في كتابه (الامام الحسين)، والعقاد في (أبو الشهداء) في صفحة: 154 جاء فيه ما نصه: فهي (أي كربلاء) اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقها من التنويه والتخليد لحق لها أن تصبح مزاراً لكل آدمّـي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظاً من الفضيلة; لاننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الارض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوم الانسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين فيها.
 (25) الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص: 722، والبحار للمجلسي، ج: 98، كتاب المزار، باب 35، ص: 201 عنه.
 (26) الشيخ الصدوق، ثواب الاعمال، ص: 60، والبحار للمجلسي، ج: 82، كتاب الصلاة، باب فضل السجود، ص: 163 عنه.
 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)
ما هو الدليل على أحقية الامام علي(علیه السلام) ...
الموالي في عصر الأمويين
ما هي ليلة الجهني، و لماذا سُمِّيت بالجهني؟

 
user comment