عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

و العاقبة للمتقین

و العاقبة للمتقین

و العاقبة للمتقین

 


تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
التّفسير
نتيجة حبّ التسلط و الفساد في الأرض:
بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر و متسلط، و هو قارون، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع و هذا الحدث، إذ تقول الآية تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً.
أجل، فهم غير مستكبرين و لا مفسدين في الأرض و ليس هذا فحسب، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل، و أرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك و لا يرغبون فيه.
و في الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة، هو هذان الأمران: «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» و هما    

                    الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‌12، ص: 309

 

 الذنوب .. لأنّ كل ما نهى اللّه عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان و تكامل وجوده حتما، فارتكاب ما نهى اللّه عنه يدمر نظام حياة الإنسان، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء- بنفسها- هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.
و قد رأينا في قصّة «قارون» و شرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته و هلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».
و نجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ
حديثا عن الإمام أمير المؤمنين على عليه السّلام يقول: «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها» «1».
 (و هذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).
و من الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول: بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، «2» و الفساد لقارون بمقتضى قوله: تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، «3» و يدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون و قارون فهو من أهل الجنّة و الدار الآخرة، و على هذا فهم يبعدون فرعون و قارون و أمثالهما من الجنّة فحسب، و يرون الباقين من أهل الجنّة، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بدقة- كما لاحظها الإمام علي عليه السّلام «4».
و ما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون و فرعون .. لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض و كان من المفسدين‌
__________________________________________________
 (1)- تفسير جوامع الجامع، ذيل الآية محل البحث.
 (2)- سورة القصص، الآية 4.
 (3)- سورة القصص، الآية 77.
 (4)- تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية محل البحث.

 


                        الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‌12، ص: 310

 

إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، «1» و قارون أيضا كان مفسدا و كان عاليا بمقتضى قوله: فَخَرَجَ عَلى‌ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ. «2»
و نقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية، فيرشد التائهين إلى الطريق و يساعد الضعفاء، و كان يمرّ على الباعة و الكسبة و يتلوا الآية الكريمة تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً. ثمّ يضيف سلام اللّه عليه:
 «نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من الناس» «3».
و معنى هذا الكلام، أنّه كما لم يجعل الخلافة و الحكومة وسيلة للاستعلاء، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم و قدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و كما يقول القرآن في نهاية الآية وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة، و هي الانتصار في هذه الدنيا، و الجنّة و نعيمها في الدار الأخرى ... و قد رأينا أنّ قارون و أتباعه إلى أين وصلوا و أيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين و لكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة و المصير!.
و نختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادق عليه السّلام و هو
أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء و قال: «ذهبت و اللّه الأماني عند هذه الآية» «4».
و بعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية، و هي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب‌
__________________________________________________
 (1)- سورة القصص، الآية 4.
 (2)- سورة القصص، الآية 79.
 (3)- نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».
 (4)- تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.


                        الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‌12، ص: 311

السلطة و المستكبرين، بل هي للمتقين المتواضعين و طلبة الحق، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا و هو مزيج بين العدالة و التفضل، و لتذكر ثواب الإحسان فتقول: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.
و هذه هي مرحلة التفضل، أي أنّ اللّه سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله، إلّا أنّ اللّه قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها و قد يضاعفها بمئات الأمثال و ربّما بالآلاف، إلّا أن أقلّ ما يتفضل اللّه به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته، حيث يقول القرآن في الآية (160) من سورة الأنعام:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.
أمّا الحدّ الأكثر من ثواب اللّه و جزائه فلا يعلمه إلّا اللّه، و قد جاءت الإشارة إلى جانب منه- و هو الإنفاق في سبيل اللّه- في الآية 261 من سورة البقرة ... إذ يقول سبحانه في هذا الصدد ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
و بالطبع فإنّ مضاعفة الأجر و الثواب ليس أمرا اعتباطيا، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل و ميزان الإخلاص و حسن النيّة و صفاء القلب، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.
ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
و هذه هي مرحلة العدل الإلهي، لأنّ المسي‌ء لا يجازى إلّا بقدر إساءته، و لا تضاف على إساءته أية عقوبة!.
الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

                        الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‌12، ص: 312
 عالم الوجود، تبقى و لا تتغير، و تبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل، و هذا الجزاء يرافق المسيئين و يعذبهم!.
ملاحظات‌
1- لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟
من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية، لأن اللّه يريد أن يؤكّد على هذه المسألة، و هي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.
2- هل تشمل الحسنة الإيمان و التوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها؟! و هل هناك خير من الإيمان و التوحيد؟! و في الإجابة على هذا السؤال نقول- بدون شك و ترددّ- إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية و الأقوال و الأعمال الخارجية، و ما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد اللّه فهو رضا اللّه سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين، فنحن نقرأ في الآية (72) من سورة التوبة قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ! 3- لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد، و عن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين و قلة المحسنين «1».
كما و يحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد، و أنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد و هو توحيد اللّه، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت و التعدد و الكثرة.
__________________________________________________
 (1)- روح المعاني، الآلوسي ذيل الآية.


                        الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‌12، ص:

313


source : دارالعرفان/الامثل للعلامة ناصر مکارم شیرازی
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

شبهات حول المتشابه في القرآن، وتفنيدها
الإستراتيجية العسكرية في معارك الإمام علي (عليه ...
النجاة في العقل
السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين(عليه ...
دعاء في آخر ليلة من شعبان
أسند عنه
الجنة لمن زارها
لـمـــاذا كــــتـم جـمـــاعـــــة مــن ...
غزة
من وصايا الإمام الباقر (عليه السلام)

 
user comment