عربي
Tuesday 23rd of April 2024
0
نفر 0

ولاية العهد

ذكر المؤرخون أسبابا مختلفة وكثيرة في دوافع المأمون من ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام)، وسنعرض فيما يلي بعض هذه الأسباب كما ذكرها المحدثون والمؤرخون، ونبين فيما بعد تحليلا لهذه الأسباب، والدوافع السياسية الحقيقية الكامنة وراء هذا الأمر.
ولاية العهد

ذكر المؤرخون أسبابا مختلفة وكثيرة في دوافع المأمون من ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام)، وسنعرض فيما يلي بعض هذه الأسباب كما ذكرها المحدثون والمؤرخون، ونبين فيما بعد تحليلا لهذه الأسباب، والدوافع السياسية الحقيقية الكامنة وراء هذا الأمر.
السبب الأول:
1 - قيل: إن السبب في ذلك هو الرشيد
كان قد بايع لابنه محمد الأمين بن زبيدة، وبعده لأخيه المأمون، وبعدهما لأخيهما القاسم المؤتمن، وجعل أمر عزله وإبقائه بيد المأمون، وكتب بذلك صحيفة وأودعها في جوف الكعبة، وقسم البلاد بين الأمين والمأمون، فجعل شرقيها للمأمون، وأمره بسكنى مرو، وغربيها للأمين، وأمره بسكنى بغداد. فكان المأمون في حياة أبيه في مرو، ثم إن الأمين بعد موت أبيه في خراسان خلع أخاه المأمون من ولاية العهد، وبايع لولد له صغير، فوقعت الحرب بينهما، فنذر المأمون حين ضاق به الأمر إن أظفره الله بالأمين أن يجعل الخلافة في أفضل آل أبي طالب (هذا ما ادعاه المأمون لتبرير موقفه). فلما قتل أخاه الأمين، واستقل بالسلطنة، وجرى حكمه في شرق الأرض وغربها، كتب إلى الامام الرضا (عليه السلام) يستقدمه إلى خراسان ليفي بنذره.
وهذا الوجه اختاره الصدوق في (عيون الأخبار) فروى بسنده عن الريان ابن الصلت: أن الناس أكثروا في بيعة الرضا من القواد والعامة، ومن لا يحب ذلك، وقالوا: هذا من تدبير الفضل بن سهل، فأرسل إلي المأمون فقال: بلغني أن الناس يقولون: إن بيعة الرضا كانت من تدبير الفضل بن سهل؟ قلت: نعم. قال: ويحك يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة قد استقامت له الرعية، فيقول له: ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك! أيجوز هذا في العقل؟ قلت: لا والله. قال: سأخبرك بسبب ذلك، إنه لما كتب إلي محمد أخي، يأمرني بالقدوم عليه، فأبيت عليه، عقد لعلي بن عيسى بن ماهان، وأمره أن يقيدني بقيد، ويجعل الجامعة في عنقي، وبعثت هرثمة بن أعين إلى سجستان وكرمان، فانهزم، وخرج صاحب السرير، وغلب على كور خراسان من ناحيته.
فورد علي هذا كله في أسبوع، ولم يكن لي قوة بذلك، ولا مال أتقوى به، ورأيت من قوادي ورجالي الفشل والجبن، فأردت أن ألحق بملك كابل، فقلت في نفسي: رجل كافر، ويبذل محمد له الأموال، فيدفعني إلى يده، فلم أجد وجها أفضل من أن أتوب إلى الله من ذنوبي، وأستعين به على هذه الأمور، وأستجير بالله عز وجل. فأمرت ببيت فكنس، وصببت علي الماء، ولبست ثوبين أبيضين، وصليت أربع ركعات، ودعوت الله، واستجرت به، وعاهدته عهدا وثيقا بنية صادقة إن أفضى الله بهذا الأمر إلي، وكفاني عاديته، أن أضع هذا الأمر في موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، فلم يزل أمري يقوى حتى كان من أمر محمد ما كان، وأفضى الله إلي بهذا الأمر، فأحببت أن أفي بما عاهدته، فلم أر أحدا أحق بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا، فوضعتها فيه فلم يقبلها إلا على ما قد علمت، فهذا كان سببها (1).
2 - في حديث للشيخ المفيد:
أن الحسن بن سهل لما جعل يعظم على المأمون إخراج الأمر من أهله، ويعرفه ما في ذلك عليه، قال له المأمون: إني عاهدت الله على أني إن ظفرت بالمخلوع أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل على وجه الأرض.
السبب الثاني:
وقيل: إن السبب في ذلك أن الفضل بن سهل هو الذي أشار على المأمون بهذا، فاتبع المأمون رأيه.
1- روى الصدوق في (العيون) عن البيهقي، عن الصولي، عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: أشار الفضل بن سهل على المأمون أن يتقرب إلى الله عز وجل وإلى رسوله (صلى الله عليه وآله) بصلة رحمه، بالبيعة لعلي بن موسى (عليه السلام) ليمحو بذلك ما كان من أمر الرشيد فيهم، وما كان يقدر على خلافه في شيء. إلى أن قال: وما كان يحب أن يتم العهد للرضا (عليه السلام) بعده. قال الصولي: وقد صح عندي ما حدثني به عبيد الله من جهات: منها أن عون بن محمد حدثني عن الفضل بن سهل النوبختي، أو عن أخ له، قال: لما عزم المأمون على العقد للرضا (عليه السلام) بالعهد، قلت: والله لأعتبرن ما في نفس المأمون من هذا الأمر، أيحب إتمامه، أو يتصنع به، فكتبت إليه على يد خادم كان يكاتبني بأسراره على يده: قد عزم ذو الرياستين على عقد العهد، والطالع السرطان، وفيه المشتري والسرطان، وإن كان شرف المشتري، فهو برج منقلب لا يتم أمر يعقد فيه، ومع هذا فإن المريخ في الميزان في بيت العاقبة، وهذا يدل على نكبة المعقود له، وعرفت أمير المؤمنين ذلك، لئلا يعتب علي إذا وقف على هذا من غيري. فكتب إلي: إذا قرأت جوابي إليك، فاردده إلي مع الخادم ونفسك (احذر على نفسك) أن يقف أحد على ما عرفتنيه، وأن يرجع ذو الرياستين عن عزمه، لأنه إن فعل ذلك ألحقت الذنب بك، وعلمت أنك سببه.
فضاقت علي الدنيا، وتمنيت أني ما كنت كتبت إليه، ثم بلغني أن الفضل ابن سهل قد تنبه على الأمر، ورجع عن عزمه، وكان حسن العلم بالنجوم، فخفت والله على نفسي، وركبت إليه، فقلت: أتعلم في السماء نجما أسعد من المشتري؟ قال: لا. قلت: أفتعلم أن في الكواكب نجما يكون في حال أسعد منها في شرفها؟ قال: لا. قلت: فامض العزم على رأيك إذ كنت تعقده، وسعد الفلك في أسعد حالاته، فأمضى الأمر على ذلك، فما علمت أني من أهل الدنيا حتى وقع العقد فزعا من المأمون (2).
وحاصل الخبر أن النوبختي وكان منجما، أراد اختبار ما في نفس المأمون، فكتب إليه: أن أحكام النجوم تدل على أن عقد البيعة للرضا في هذا الوقت لا يتم، وأنها تدل على نكبة المعقود له، فإن كان باطن المأمون كظاهره، ترك عقد البيعة في ذلك الوقت، وأخره إلى وقت يكون أوفق منه، فأجابه المأمون وحذره من أن يرجع ذو الرياستين عن عزمه على إيقاع عقد البيعة في ذلك الوقت، وأنه إذا رجع علم أن ذلك من النوبختي، وأمره بإرجاع الكتاب إليه لئلا يطلع عليه أحد.
ثم بلغه أن الفضل بن سهل تنبه أن الوقت غير صالح لعقد البيعة، لأنه كان عالما بالنجوم، فخاف النوبختي أن ينسب رجوع الفضل بن سهل عن عزمه إليه، فيقتله المأمون، فركب إليه، وأقنعه من طريق النجوم أن الوقت صالح على خلاف الحقيقة، لأنه كان أعرف منه بالنجوم، فلبس الأمر عليه حتى أقنعه.
وقال الصدوق في (عيون أخبار الرضا عليه السلام): قد ذكر قوم أن الفضل بن سهل أشار على المأمون بأن يجعل علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولي عهده، منهم: أبو علي الحسين بن أحمد السلامي، ذكر ذلك في كتابه الذي صنفه في (أخبار خراسان)، قال: فكان الفضل بن سهل ذو الرياستين وزير المأمون ومدبر أموره، وكان مجوسيا فأسلم على يدي يحيى بن خالد البرمكي وصحبه، وقيل: بل أسلم سهل والد الفضل على يدي المهدي، وأن الفضل اختاره يحيى بن خالد البرمكي لخدمة المأمون، وضمه إليه، فتغلب عليه، واستبد بالأمر دونه، وإنما لقب بذي الرياستين لأنه تقلد الوزارة ورياسة الجند. فقال الفضل حين استخلف المأمون يوما لبعض من كان يعاشره: أين يقع علي فيما أتيته من فعل أبي مسلم فيما أتاه؟ فقال: إن أبا مسلم حولها من قبيلة إلى قبيلة، وأنت حولتها من أخ إلى أخ وبين الحالين ما تعلمه. قال الفضل: فإني أحولها من قبيلة إلى قبيلة.
ثم أشار على المأمون بأن يجعل علي بن موسى الرضا ولي عهده، فبايعه وأسقط بيعة المؤتمن أخيه. فلما بلغ خبره العباسيين ببغداد، ساءهم ذلك، فأخرجوا إبراهيم بن المهدي وبايعوه بالخلافة، فلما بلغ المأمون خبر إبراهيم، علم أن الفضل بن سهل أخطأ عليه، وأشار بغير الصواب، فخرج من مرو منصرفا إلى العراق، واحتال على الفضل بن سهل حتى قتله، واحتال على علي بن موسى حتى سم في علة كانت أصابته فمات. ثم قال الصدوق: هذا ما حكاه أبو علي الحسين بن أحمد السلامي في كتابه، والصحيح عندي أن المأمون إنما ولاه العهد وبايع له للنذر الذي قد تقدم ذكره، وأن الفضل بن سهل لم يزل معاديا ومبغضا له، وكارها لأمره، لأنه كان من صنائع آل برمك (3).
السبب الثالث:
وقيل: إنما بايعه لأنه نظر في الهاشميين فلم يجد أحدا أفضل ولا أحق بالخلافة منه. قال اليافعي في (مرآة الجنان): إن سبب طلب المأمون الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وجعله ولي عهده، أنه استحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء وهو بمدينة مرو من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفا بين كبير وصغير، واستدعى عليا المذكور، فأنزله أحسن منزل، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس وأولاد علي بن أبي طالب، فلم يجد أحدا في وقته أفضل ولا أحق بالخلافة من علي الرضا فبايعه (4). وقال الطبري في (تأريخه): إنه ورد كتاب من الحسن بن سهل إلى بغداد: أن أمير المؤمنين المأمون جعل علي بن موسى بن جعفر بن محمد ولي عهده من بعده، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحدا هو أفضل ولا أورع ولا أعلم منه (5).
السبب الرابع:
وقيل: إن الذي دفع المأمون على استدعاء الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وجعله وليا لعهده هو تشيعه لأهل البيت، فقد قيل: إن المأمون كان متشيعا لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، مجاهرا بذلك، محتجا عليه، مكرما لآل أبي طالب، متجاوزا عنهم، على عكس أبيه الرشيد، واستدلوا على تشيعه بأمور كثيرة، نذكر هنا جملة منها:
1 - إحتجاجه على العلماء في تفضيل علي (عليه السلام) بالحجج البالغة كما رواه ابن عبد ربه في (العقد الفريد)، ورواه الصدوق في (العيون).
2 - جعله الرضا (عليه السلام) ولي عهده، وتزويجه ابنته، وإحسانه إلى العلويين.
3 - تزويجه الجواد ابنته وإكرامه وإجلاله.
4 - قوله: أتدرون من علمني التشيع، وحكايته خبر الكاظم (عليه السلام) مع الرشيد.
الرواية التي جاء فيها: إن المأمون كان يقول: لقد علمني التشيع أبي هارون الرشيد، ووصفه لدخول الإمام الكاظم (عليه السلام) على الرشيد وحفاوته البالغة به، وإكرامه له بشكل لم يسبق من الرشيد أن أكرم أحدا بمثله. وجاء في الرواية أنه لما انصرف الإمام وخلا المجلس، قال المأمون لأبيه: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل الذي عظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست بين يديه، وأمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني ومن الخلق أجمعين.
فقال له المأمون: إذا كنت تعرف ذلك فتنح عن الملك، وسلمه لأصحابه. فقال: يا بني، إن الملك عقيم، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك (6).
5 - إفتاؤه بتحليل المتعة، وقوله: ومن أنت يا جعل حتى تحرم ما أحل الله، في الخبر المشهور.
6 - قوله بخلق القرآن، وفقا لقول الشيعة، حتى عد ذلك من مساوئه.
7 - ما ذكره البيهقي في (المحاسن والمساوي)، قال: قال المأمون: أنصف شاعر الشيعة حيث يقول: إنا وإياكم نموت فلا * أفلح بعد الممات من ندما قال: وقال المأمون: ومن غـاو يعض علي غيـظا * إذا أدنيـت أولاد الوصي
يحـاول أن نـور الله يطــفى * ونـور الله في حصـن أبي
فقلت: أليس قد أوتيت علما * وبان لك الرشيد من الغوي
وعرفت احتجاجي بالمثاني * وبالمــعقول والأثر القوي
بأيــة خطة وبــأي معــنى * تفضــل ملحـدين على علـي
علي أعظــم الثقليــن حقـا * وأفضلهم ســوى حــق النبي
8 - ما ذكره الصدوق في (عيون أخبار الرضا عليه السلام)، قال: دخل عبد الله بن مطرف بن ماهان على المأمون يوما، وعنده علي بن موسى الرضا، فقال له المأمون: ما تقول في أهل هذا البيت؟ فقال عبد الله: ما أقول في طينة عجنت بماء الرسالة، وغرست بماء الوحي، هل ينفح منها إلا مسك الهدى، وعنبر التقى، فدعا المأمون بحقة فيها لؤلؤ فحشا فاه (7).
9 - ما ذكره سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص)، قال: قال أبو بكر الصولي في كتاب (الأوراق) وغيره: كان المأمون يحب عليا (عليه السلام)، وكتب إلى الآفاق بأن علي بن أبي طالب أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن لا يذكر معاوية بخير، ومن ذكره بخير أبيح دمه وماله. قال الصولي: ومن أشعار المأمون في علي (عليه السلام):
ألام على حب الوصي أبي الحسن * وذلك عندي من عجائب ذا الزمن
خليفة خير الناس والأول الذي * أعان رسول الله في السر والعلن
ولولاه ما عدت لهاشـــــم إمرة * وكانت على الأيام تقصى وتمتهن
ولى بني العباس ما اختص غيرهم * ومن منه أولى بالتكرم والمنن
فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى * وفاض عبيد الله جودا على اليمن
وقسم أعمال الخلافة بينهم * فلا زال مربوطا بذا الشكر مرتهن
قال: ومن أشعار المأمون في علي (عليه السلام):
لا تقبـــل التـــوبة من تائب * إلا بحـــــب ابن أبــي طالب
أخو رسول الله حلف الهدى * والأخ فوق الخل والصــاحب
إن جمعا في الفضل يوما فقد * فـــاق أخـــوه رغبة الراغب
فقدم الهـــادي في فضــــــله * تســـلم من اللائـم والعـــائب
إن مال ذو النصب إلى جانب * ملت مع الشيعي في جانب
أكون فـــي آل نبـــي الهــــدى * خيــــر نبي من بني غالب
حبــــهم فـــــرض نـــؤدي بــه * كمثــــل حــج لازم واجب
قال: وذكر الصولي في كتاب (الأوراق) قال: كان مكتوبا على سارية من سواري جامع البصرة: رحم الله عليا * إنه كان تقيا
وكان يجلس إلى تلك السارية أبو عمر الخطابي، واسمه حفص، وكان أعور، فأمر به فمحي، فكتب إلى المأمون بذلك، فشق عليه، وأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال: لم محوت اسم أمير المؤمنين على السارية؟ فقال: وما كان عليها؟ فقال: رحم الله عليا * إنه كان تقيا فقال: بلغني أنه كان نبيا. فقال: كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقا لأدبتك، ثم أمر بإخراجه (8).
تحليل دوافع ولاية العهد
فيما يلي نذكر تحليلا للدوافع التي ذكرها المؤرخون في ولاية العهد للإمام (عليه السلام)، ونخلص بعدها إلى النتائج المتوخاة من هذا الأمر، وذلك ببيان الدوافع الحقيقية التي تدور في ذهن رأس السلطة العباسية.
1 - في أن الفضل هو صاحب الفكرة:
أما ما قيل من أن الفضل بن سهل هو الذي أشار على المأمون بهذا الأمر، وأن المأمون اتبع رأيه، فهو أمر في غاية البعد والغرابة من رجل مثل المأمون الذي يعتز برأيه، وحسمه للأمور، وتدبيره الخطط وإحكامها، فهو الذي يقول: معاوية ابن أبي سفيان بعمره، وعبد الملك بن مروان بحجاجه، وأنا بنفسي (9).
ولذلك يبدو لنا من خلال عدة قرائن أن المأمون هو المدبر الأساسي لهذا الأمر. ففي رواية الريان بن الصلت المتقدمة آنفا في السبب الأول، قال المأمون: يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة قد استقامت له الرعية، فيقول له: ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك، أيجوز هذا في العقل؟ وبهذا يكون قد نفى أن يكون ذلك من تدابير الفضل بن سهل أو غيره، بل هو من بنات أفكاره. وتقدم في حديث ولاية العهد أن الفضل بن سهل وأخاه الحسن لم يكونا مشيرين على المأمون في هذه المسألة، بل كانا محذرين له من مغبة هذا الأمر، معظمين عليه إخراج هذا الأمر من أهله، فلما رأيا عزيمة المأمون على إمضائه وإصراره على عقده أمسكا عن معارضته. وقد قيل أيضا - كما تقدم في الحديث الثاني من السبب الثاني - أن الفضل بن سهل كان من صنائع آل برمك، حيث قيل: إن الفضل وأخاه قد أسلما على يد يحيى ابن خالد البرمكي (وقيل في إسلامه غير ذلك، كما تقدم.)، وأن يحيى اختار الفضل لخدمة المأمون، فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة ويثني عليهم، بل وكان من أتباعهم، وقد عرف البرامكة بانحرافهم البارز عن أهل البيت (عليهم السلام). وقد حاول الفضل بن سهل الوقيعة بين الإمام (عليه السلام) والمأمون، لكن الإمام (عليه السلام) فوت الفرصة عليه، فقد روي أنه قصد الفضل بن سهل مع هشام بن إبراهيم الرضا (عليه السلام)، فقال له الفضل: يا بن رسول الله، جئتك في سر، فأخل لي المجلس.
فأخرج الفضل يمينا مكتوبة بالعتق والطلاق، وما لا كفارة له، وقالا له: إنما جئناك لنقول كلمة حق وصدق، وقد علمنا أن الإمرة إمرتكم، والحق حقكم يا بن رسول الله، والذي نقول بألسنتنا عليه ضمائرنا، وإلا نعتق ما نملك، والنساء طوالق، وعلي ثلاثون حجة راجلا أنا، على أن نقتل المأمون، ونخلص لك الأمر حتى يرجع الحق إليك. فلم يسمع منهما، وشتمهما ولعنهما، وقال لهما: كفرتما النعمة، فلا تكون لكما سلامة، ولا لي إن رضيت بما قلتما، فلما سمع الفضل ذلك منه مع هشام، علما أنهما أخطئا، فقصدا المأمون بعد أن قالا للرضا (عليه السلام): أردنا بما فعلنا أن نجربك. فقال لهما الرضا (عليه السلام): كذبتما، فإن قلوبكما على ما أخبرتماني به، إلا أنكما لم تجداني نحو ما أردتما، فلما دخلا على المأمون قالا: يا أمير المؤمنين، إنا قصدنا الرضا وجربناه، وأردنا أن نقف على ما يضمره لك، فقلنا وقال. فقال المأمون: وفقتما. فلما خرجا من عند المأمون قصده الرضا (عليه السلام)، وأخليا المجلس، وأعلمه بما قالا، وأمره أن يحفظ نفسه منهما، فلما سمع ذلك من الرضا (عليه السلام) علم أن الرضا (عليه السلام) هو الصادق (10).
فلو كان الفضل جادا في طرحه على الإمام، فإنه أراد أن يشرك الإمام (عليه السلام) في حبك خيوط المؤامرة على المأمون واغتياله، ليجعل من ذلك ورقة تهديد يرفعها فيما لو حاول الإمام (عليه السلام) الحد من نفوذه، وذلك عندما يتمكن الفضل من امتلاك زمام الحكم، وفرض سيطرته على جهاز الدولة، أو إنه أراد بعد قضائه على المأمون أن يجعل الخلافة في رجل معاد للإمام ولأهل البيت (عليهم السلام)، لأنه كان يعلم أن الإمام (عليه السلام) راغب عنها. ولو كان الفضل صادقا فعلا في عرضه بنقل الخلافة إلى البيت العلوي والقضاء على المأمون، ومقتنعا بواقعية الفكرة، فلا ضرورة تدعوه لاستشارة الإمام، لأنه بعد القضاء على المأمون ستنتقل الخلافة إلى الإمام (عليه السلام) باعتباره وليا للعهد. وإن كان الفضل متصنعا في فكرته، كما أكد هو للمأمون، فالهدف المقصود هو تعكير صفو العلاقات القائمة بين الإمام (عليه السلام) والمأمون، وليثبت إخلاصه وحرصه على سلامة الحكم العباسي. ولقد كان سلوك الإمام (عليه السلام) مع الفضل يؤكد أن الفضل لم يكن صاحب الفكرة في ولاية العهد، ولم يكن صادقا في ولائه المزعوم لأهل البيت (عليهم السلام) الذي قال به بعض المؤرخين، فقد حذر الإمام (عليه السلام) المأمون من تسليم قيادة الحكم إلى الفضل، حيث قال (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، اتق الله في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وما ولاك الله من هذا الأمر وخصك به، فإنك قد ضيعت أمور المسلمين، وفوضت ذلك إلى غيرك، يحكم فيهم بغير حكم الله تعالى... (11).
كما أن الإمام (عليه السلام) نجح في إزالة الغشاوة عن عيني المأمون من ناحية الفضل ابن سهل وأخيه الحسن، وتبصيره بما كان يحاول الفضل إخفاؤه عنه من أحوال البلاد المضطربة، حتى إنهم بايعوا عمه إبراهيم بن المهدي المغني خليفة بدله، وبدا المأمون وكأنه يسمع ذلك لأول مرة، حتى رد على الإمام الرضا (عليه السلام) قائلا: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم. بل وأخبره الإمام الرضا (عليه السلام) عن الحرب التي تدور رحاها بين إبراهيم بن المهدي والحسن بن سهل، وأن الناس تكره مقام الفضل وأخيه من المأمون، وما كان أحد يجرؤ على أن يقول الحق للمأمون.
إذن لم يكن الفضل هو صاحب الفكرة في ولاية العهد، لأنه لم يكن من السذاجة بحيث يورط نفسه ونفوذه القوي في أجهزة الحكم في مواجهة غير متكافئة مع نفوذ أقوى منه، لكن الظاهر أن شهرة الفضل وإخضاعه المأمون في جميع تصرفاته وفرض سيطرته على أجهزة الدولة، هو الذي جعل الناس يعزون هذا الأمر إلى أقوى شخصية في الدولة، وقد عزوا الأمر بلبس الخضرة والبيعة للإمام الرضا (عليه السلام) للفضل بن سهل، ففي حوادث سنة 201 من (تأريخ الطبري) وغيره أنه عندما ورد كتاب الحسن بن سهل على عيسى بن محمد يعلمه فيه بأن المأمون بايع للرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وأمره بطرح السواد ولبس الخضرة، ويأمر من قبله من الجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذ أهل بغداد بذلك جميعا، قال بعضهم: نبايع، ونلبس الخضرة؟ وقال بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس، وإنما هو دسيس من الفضل بن سهل (12).
كما قد يكون ذلك إشاعة من عند الفضل نفسه، ليحفظ مركزه عند الرأي العام، باعتباره صاحب الكلمة والسلطة على تصرفات المأمون، وأن الأخير لا يستطيع خلافه في شيء، وأنه قادر على نقل السلطة من قبيلة إلى قبيلة كما فعل أبو مسلم الخراساني حيث نقلها من الأمويين إلى العباسيين.
2 - في نذر المأمون:
الواضح من خلال الأحاديث التي تعزو السبب إلى نذر المأمون، أن المدبر الأساس وصاحب الفكرة في تولية العهد للإمام (عليه السلام) هو المأمون وليس ثمة أحد سواه، وذلك لأجل أهداف سياسية تعود في مصلحة حكمه بشكل خاص والسلطة العباسية بشكل عام، ولو صح ما قيل من حديث النذر، فقد وضع المأمون حججا واهية لتبرير هذا العمل، كان من ضمنها حكاية النذر، في أن يجعل الخلافة في أفضل آل أبي طالب، لو أظفره الله بأخيه الأمين، فكانت ولاية عهده للإمام (عليه السلام) وفاء لهذا النذر! وهذا الأمر في منتهى الغرابة أيضا، لأن المأمون لم يكن ملتزما ومتحرزا لدينه إلى حد الوفاء بالنذر، فقد روي أنه كان يشرب النبيذ، وقيل: بل كان يشرب الخمر (13).
وقال الصولي: اقترح المأمون في الشطرنج أشياء، وكان يحب اللعب بها، ويكره أن يقول: نلعب بها، بل يقول: نتناقل بها (14).
نعم، لم يكن متحرزا لدينه إلى حد التنازل عن الحكم العباسي لخصومهم العلويين لنذر ألزم نفسه به، كيف ذلك وهو الذي ضحى بعشرات الألوف من العباسيين وغيرهم من الأبرياء لأجل الحكم، ونصب رأس أخيه في صحن الدار على خشبة، وأمر بلعنه، كما تقدم بيانه! وعندما اطلع المأمون على مؤامرة ابن عائشة الرامية إلى إعادة إبراهيم بن المهدي للخلافة سنة 210 ه‍، انتقم المأمون من ابن عائشة انتقاما شديدا، فقد أمر أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه بالسياط، ثم أمر بحبسه في المطبق، وفعل قريبا من ذلك بمن كانوا معه... ثم أمر المأمون بعد ذلك بابن عائشة فقتل وصلب، وهو أول مصلوب في الإسلام من بني العباس، وقتل معه ثلاثة من رؤوس المتآمرين (15).
هذا هو تعامل المأمون مع منافسيه على الحكم، فكيف يسلم السلطة إلى خصومه لأجل الوفاء بالنذر، ولو صح ذلك فإنما هو تبرير وذريعة قدمها المأمون لتضليل الرأي العام، وتعمية الأمر عليهم، بسلامة قصده في إكراه الإمام (عليه السلام) على قبول ولاية العهد.
3 - في تشيع المأمون:
أما ما قيل من أن تشيع المأمون هو السبب الذي دفعه لتولية العهد للإمام (عليه السلام)، حتى بالغ السيوطي في ذلك فقال: في سنة إحدى ومائتين خلع المأمون أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه (16).
فالظاهر من الأدلة المذكورة على تشيعه أن المأمون كان يتشيع تصنعا وتكلفا لا طبعا وفطرة. فأما مسألة إفتائه بتحليل متعة النساء وقوله: ومن أنت يا جعل حتى تحرم ما أحل الله، فقد رجع إلى القول بتحريمها، وأمر بالنداء بذلك في سائر أطراف الدولة (17).
وأما مسألة طرح السواد ولبس الخضرة، فقد ذكر جميع المؤرخين أنه قد تراجع عن هذا الأمر وألغاه، وعاد إلى شعار الآباء وهو السواد، فقد وصل المأمون سنة 204 ه‍إلى بغداد، فتلقاه إلى النهروان بنو العباس، وعتبوا عليه في لبس الخضرة، فتوقف ثم أعاد السواد (18). وفي (مختصر تأريخ ابن عساكر): قدم المأمون بغداد سنة 204 ه‍في صفر، وطرح الخضرة وعاد إلى السواد (19).
وهكذا كانت شعارات المأمون مرحلية ومؤقتة لم تلبث أن تزول بمجرد اصطياد المكاسب السياسية المتوخاة. أما أشعاره في مدح أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فليست دليلا كافيا على تشيعه، ولو كانت كذلك لكانت الأشعار دليلا على تشيع الشافعي وابن أبي الحديد وغيرهما ممن مدحوا أمير المؤمنين (عليه السلام) بعيون الشعر العربي، وهو ما لا يقول به أحد. أما القول بخلق القرآن، فيمكن أن يكون متأثرا بأفكار المعتزلة المحيطين به، ففي (دائرة المعارف الإسلامية) في ترجمة أحمد بن حنبل، قال: في عهد الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق أقرت الدولة عقائد المعتزلة، وأنزلتها المنزلة الأولى، وأخذت بالشدة كل الفقهاء الذين لم يقولوا بمذهب خلق القرآن (20).
وقال أبو حنيفة الدينوري: عقد المأمون المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل العلاف (21). وكان أبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة، وكان يقول بخلق القرآن. وبلغ من تأثر المأمون بأبي الهذيل أن قال فيه:
أطل أبو الهذيل على الكلام * كإطلال الغمام على الأنام (22)
وكان النظام وهو أحد رؤوس المعتزلة المشهورين مقربا للمأمون أيضا، قال محمد بن علي العبدي الخراساني الأخباري في وصف المأمون للخليفة العباسي القاهر بالله: جالس المتكلمين، وقرب إليه كثيرا من الجدليين المبرزين والمناظرين، كأبي الهذيل، وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام وغيرهم (23). وقال الخضري: أدت المناقشات الكثيرة التي بين يدي المأمون إلى أنه كان يرى بعض آراء المعتزلة لا كلها (24).
فالقول بخلق القرآن كان من تأثير المعتزلة المقربين إلى المأمون، وليس بسبب تشيعه لأهل البيت (عليهم السلام)، كما استدل به بعض المؤرخين. وعندما حقق المأمون بعض أهدافه السياسية البعيدة المدى، عاد إلى مذهب الآباء معتبرا الروافض والمعتزلة والخوارج من أعلام جهنم، فقد روي في (تأريخ بغداد) وأغلب الكتب التي ترجمت للمأمون بالإسناد عن أبي سعيد علي بن الحسن القصري، قال: قال المأمون لحاجبه يوما: انظر من بالباب من أصحاب الكلام؟ فخرج وعاد إليه، فقال: بالباب أبو الهذيل العلاف، وهو معتزلي، وعبد الله بن أباض الإباضي، وهشام بن الكلبي الرافضي. فقال المأمون: ما بقي من أعلام جهنم أحد إلا وقد حضر (25).
وهو ما يدل على أنه كان يتدين بمذهب أسلافه غير متأثر بأحد. ولو فرضنا حجة ما ينقل من أدلة تشيعه، فإنه لا يصلح أن يكون سببا لمحاولاته الرامية إلى تنازله عن الخلافة للإمام (عليه السلام)، أو جعله وليا للعهد، إذ لم يبلغ تشيعه المزعوم حدا من الزهد في الدنيا ليتنازل عن ملك مترامي الأطراف لأصحابها الشرعيين، وينقلها من البيت العباسي إلى البيت العلوي، وهو الذي ظل طيلة حياته يردد كلمة أبيه: الملك عقيم، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك ، وانطلق على هذا الأساس لقتل أخيه لأجل الملك. وقد عرف محمد الأمين شخصية أخيه جيدا حينما سأل أحمد بن سلام - عندما ألقى القبض عليه - أيقتلني المأمون؟ فقال أحمد: إنه لا يقتلك، وإن الرحم ستعطفه عليك. فقال الأمين: هيهات، الملك عقيم، لا رحم له (26)
4 - في الكشف عن واقع الأئمة (عليهم السلام):
أما ما قيل من أن المأمون أراد من ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) أن يكشف عن واقع الأئمة (عليهم السلام) للناس الذين كانوا يجلونهم ويقدسونهم، لزهدهم في الدنيا، ولتنديدهم بالحكام، فأراد أن يدخله في الحكم ليكشف للناس أنه لم يزهد في الدنيا، وأنه قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة ورغبة في الدنيا (27).
وهذا الأمر بعيد عن المأمون، لأنه كان عارفا بواقع الأئمة (عليهم السلام) وحقيقتهم، وأن ذلك لم ولن يؤثر على مكانتهم في نفوس الناس، ذلك لأن تولي السلطة لا يتنافى مع الزهد في الدنيا، سيما إذا كان الهدف من الحكم إقامة العدل، وإحقاق الحق، وإنصاف المظلوم، وبناء مجتمع سليم عادل وفقا لما جاءت به الرسالة المحمدية السمحاء. ولو كانت ثمة منافاة بين الزهد وتولي مهام الحكم، لكان ذلك قادحا في زهد أمير المؤمنين (عليه السلام) والخلفاء الذين عرفوا بهذه الصفة، وقد تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) مهام الحكم وكانت خيرات الدنيا كلها تجبى إليه إلا الشام، ومع ذلك لم يشبع من خبز الشعير، ولم يكن أحد أزهد منه في زمانه ولا بعده. كما لم يكن امتناع الإمام الرضا (عليه السلام) عن قبول الخلافة زهدا فيها، وابتعادا عن مسؤوليتها، كيف ذلك وهو الذي يرى نفسه الأحق بهذا المنصب من سواه، وأنه الأقدر على إدارته بالحق وسياسة العدل من غيره، وأنه الأولى بسياسة الرعية، وفقا لتعاليم الإسلام وآدابه وتشريعاته من المأمون وغير المأمون.
بل كان الإمام (عليه السلام) كارها لها لأن المأمون لم يكن جادا في كل ما كان يتظاهر به من الحب والولاء والعطف على العلويين، بل كان يعمل على تنفيذ لعبته البارعة على أكتاف الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان يتزلف إلى العلويين ليحصل على مكاسب سياسية توفر له الأمن والاستقرار، ولأسرته الديمومة في الحكم والاستمرار. ولو كان المأمون جادا في عرضه الخلافة أو تقليده ولاية العهد، فلماذا يأمر رسوله إلى المدينة أن يأتيه بالإمام مخفورا، ويحدد له طريق البصرة أهواز فارس فمرو؟ وكان بإمكانه أن يخطب باسمه ويدعو له بالخلافة دون أن يجشمه مشقة السفر وعناءه، إذا كان معتقدا بأحقيته بالخلافة.
ولو كان جادا أيضا فلماذا أرجع الإمام (عليه السلام) من صلاة العيد بعد أن دعاه بإصرار ولم يمهله لأدائها بمعناها الروحي السامي بعيدا عن مظاهر الترف والزيف التي التصقت بها من قبل الخلفاء الحاكمين الذين كانوا يستغلونها لعرض قوتهم التي يتمتعون بها، ولتركيز حس الهيبة والعظمة لهم في نفوس الناس. ولو كان جادا لترك البيعة في اليوم الذي اختاره لعقدها، بسبب قول المنجم: إن عقد البيعة للرضا (عليه السلام) في هذا الوقت لا يتم، وإنها تدل على نكبة المعقود له، فإن كان باطنه كظاهره لترك عقد البيعة، ولأخره إلى وقت مناسب آخر، لأنه كان يعمل بالنجوم، فقد جاء في وصف محمد بن علي العبدي الأخباري للمأمون بمحضر القاهر بالله العباسي: ثم أفضى الأمر إلى المأمون، فكان في بدء أمره لما غلب عليه الفضل بن سهل وغيره يستعمل النظر في أحكام النجوم وقضاياها، وينقاد إلى موجباتها (28).
لكنه لم ينقاد إلى موجباتها في مسألة عقد البيعة بولاية العهد للإمام (عليه السلام)، فأصر المأمون على عقدها، لأنه يعتقد أن ولاية العهد ما هي إلا مجرد إجراء موقت للحصول على بعض المكاسب السياسية التي توفر عليه وعلى أسرته العباسية الكثير من المتاعب، ودور مرحلي عليه أن ينفذه بإتقان ليخلص إلى النتائج المطلوبة سواء كان الوقت مناسبا أو لا.
ولو كان المأمون جادا ومحبا لأهل البيت (عليهم السلام) كما يقال، لما كتب إلى السري عامله على مصر رسالة يخبره فيها بوفاة الرضا (عليه السلام)، ويأمره بأن تغسل المنابر التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت (29). ومهما كانت الدوافع على هذا الأمر، فلم يجد الإمام بدا من الاستجابة لطلبه بعد أن هدده بالقتل كما قدمنا آنفا، ولا شك أن ثمة أسبابا في نفس المأمون كان يدركها الإمام (عليه السلام) بحسه المرهف وتوسمه وعلمه بالخبر المسبق، وهي التي تبرز لنا بوضوح الوجه الآخر للمأمون الذي يكشف عن الخلفية الواقعية لسياسته ذات البعد الغامض في تركيبة ولاية العهد.
الدوافع السياسية لولاية العهد:
لقد كان المأمون يتمتع بشخصية لعلها من أقوى الشخصيات العلمية والإدارية التي وصلت إلى الحكم من بني العباس، وكان أخوه الأمين منافسه الأول في الحكم لا يملك شيئا من المؤهلات، ومع أن الرشيد يعرف عنهما ذلك فقد قدمه على المأمون، لا لسبب إلا لأنه الولد المدلل لسيدة القصر المفضلة زبيدة بنت جعفر ابن المنصور الدوانيقي. فقد روي عن الرشيد أنه قال: وقد قدمت محمدا – يعني الأمين - على المأمون، وإني لأعلم أنه منقاد إلى هواه، مبذر لما حوته يداه، يشارك في رأيه الإماء، ولولا أم جعفر وميل الهاشميين إليه، لقدمت عليه عبد الله - يعني المأمون (30). وبدأت بوادر الخلاف بين الأخوين والرشيد لا يزال حيا، وظلت الأجواء تتأزم والأمور تتعقد بينهما، حتى انفجر الموقف وانتهى الصراع الدامي الذي ذهب ضحيته عشرات الألوف بقتل الأمين، وانتقال السلطة بكاملها إلى المأمون كما ذكرنا. وأحس المأمون بعد ذلك بالتذمر في أوساط بغداد، وبنقمة عارمة من أكثر العباسيين الذين ناصروا الأمين عليه.
وكان العلويون يخرجون على الحكام بين الحين والآخر، وشيعة الكوفة يرحبون بكل ثائر، كما كان الشيعة في كل مكان ينكرون على العباسيين سوء صنيعهم مع العلويين، ويباركون جميع الانتفاضات المعادية لهم، وبخاصة شيعة خراسان، الذين كان لهم الفضل الأكبر في إرساء حكم المأمون وانتصاره على أخيه، وفي السنة التي استولى فيها المأمون على السلطة كانت الأخطار تهدد دولته، من جميع الجهات، فقد خرج السري بن منصور الشيباني المعروف بأبي السرايا في الكوفة وجهاتها، يقود لدعوة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام)، وبايعه عامة الناس، ووثب بالمدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن، وبالبصرة علي بن محمد بن جعفر بن علي بن الحسين، وزيد بن موسى بن جعفر الملقب بزيد النار، وغلبا عليها وعلى جهاتها، واشتد أمرهما، كما ظهر في اليمن إبراهيم بن موسى، وفي المدينة الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين المعروف بالأفطس، ودعا إلى ابن طباطبا، فلما مات ابن طباطبا دعا إلى نفسه، وسار منها إلى مكة في الموسم، وعلى الحاج داود بن عيسى الهاشمي، فخرج من مكة هاربا من الأفطس، فصلى الحسن بن الحسين بالناس، وحج بهم ذلك العام.
واشتعلت الثورات في أكثر أنحاء الدولة، ومع كل ثائر عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة الذين أقاموا عروشهم على جماجم الأبرياء الصلحاء، وسخروا لها جميع موارد الدولة وخيرات البلاد. وجاء في (مقاتل الطالبيين) بعد معارك أبي السرايا داعية العلويين وغيره: نظروا في الدواوين فوجدوا أن القتلى في تلك المعارك تزيد على مائتي ألف رجل (31).
وسواء صح هذا الرقم أم لم يصح، فلا شك في أن دولة المأمون كانت مهددة بالأخطار من جميع الجهات، وأن حركات التمرد كلها كانت بقيادة العلويين. لقد أدرك المأمون في تلك الفترة التي افتتح بها خلافته حراجة الموقف وأخطاره، فلم يجد وسيله أجدى وأنفع من تظاهره للرأي العام الشيعي والعلوي برغبته في التنازل عن الخلافة إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو يعلم أن الإمام سيرفض ذلك رفضا قاطعا، وكان الأمر كذلك، وأخيرا أكرهه على ولاية عهده والإقامة معه في بلد واحد، وتظاهر دجلا ونفاقا بالولاء له ولآبائه، وأمر ولاته في المقاطعات بالدعوة للرضا (عليه السلام) على المنابر وفي جميع المناسبات.
وكل ما يهمه من هذا التضليل أن يتلافى مشكلة الصدام مع العلويين الذين كانوا يهددون الدولة العباسية بانتفاضاتهم وتمردهم هنا وهناك بين الحين والآخر، وأن يطمئن على موقف الشيعة من خلافته في تلك الفترة من تأريخ حكمه التي هو فيها أحوج ما يكون إليهم، ولم يعد في الساحة سوى المؤيدين لأخيه من العباسيين وأنصارهم، وهؤلاء لا يشكلون عليه خطرا ما دامت بقية القوى التي كانت تستنزف القسم الأكبر من قوة الدولة إلى جانبه. وبالفعل فلقد نجح المأمون في هذا التدبير، فلم يحدث التأريخ بأن أحدا من العلويين خرج على المأمون أو تحرك ضده خلال السنتين اللتين عاشهما الإمام (عليه السلام) بعد ولاية العهد مراعاة لجانب الإمام، كما وأن عامة الشيعة كانوا يعتبرون الإمام شريكا في الحكم، وقد حقق لهم المأمون ما عجزت ثورة أبي مسلم الخراساني التي كانت باسم العلويين وسائر الانتفاضات التي حصلت بعدها.
وقد تقدم في أول هذا الفصل بعض الأحاديث التي تدل على محاولة المأمون في إقحام الإمام (عليه السلام) في المعترك السياسي في الكتابة إلى بعض من يطيعه (عليه السلام) في الأطراف التي فسدت على الخلافة العباسية، وبذلك يكون المأمون قد أعلن عن بعض أهدافه التي يضمرها في نفسه، فقد جاء في حديث الشيخ الكليني بالإسناد عن عمر بن خلاد قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام)، قال لي المأمون: يا أبا الحسن، لو كتبت إلى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي قد فسدت علينا... وفي حديث الشيخ الصدوق بنفس الإسناد، قال: يا أبا الحسن، انظر بعض من تثق به توليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا (32). وما كان من الإمام (عليه السلام) إلا أن يذكره بالشروط التي اشترطها لقبول ولاية العهد، وبذلك يكون الإمام (عليه السلام) قد فوت الفرصة على المأمون في بعض أهدافه المتوخاة من هذا الأمر.
نوايا السوء:
ومما يؤيد أن المأمون كان يضمر السوء للإمام (عليه السلام) ويحاول بمواقفه هذه أن يجعل من الإمام واجهة يتستر بها لأهدافه ومصالحه السياسية، ما جاء في بعض الروايات التي تنص أنه وضع عليه رقابة تحصي عليه أنفاسه، فقد روى الريان بن الصلت: أن هشام بن إبراهيم الراشدي كان من أخص الناس عند الرضا (عليه السلام) من قبل أن يحمل، وكان عالما أديبا لبيبا، وكانت أمور الرضا (عليه السلام) تجري من عنده وعلى يده، وتصير الأموال من النواحي كلها إليه قبل حمل أبي الحسن (عليه السلام).
فلما حمل أبو الحسن (عليه السلام) اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، فقربه ذو الرئاستين وأدناه، فكان ينقل أخبار الرضا (عليه السلام) إلى ذي الرئاستين والمأمون، فحظي بذلك عندهما، وكان لا يخفي عليهما من أخباره (عليه السلام) شيئا، فولاه المأمون حجابة الرضا (عليه السلام)، وكان لا يصل إلى الرضا (عليه السلام) إلا من أحب، وضيق على الرضا (عليه السلام)، فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه، وكان لا يتكلم الرضا (عليه السلام) في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون وذي الرئاستين (33).
وعن أبي الصلت الهروي، قال: رفع إلى المأمون أن أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يعقد مجالس الكلام، والناس يفتتنون بعلمه، فأمر محمد بن عمرو الطوسي حاجب المأمون، فطرد الناس من مجلسه وأحضره... الحديث (34). وعندما أحس عمه محمد بن جعفر بما يضمره المأمون من سوء للإمام (عليه السلام) أشار إلى بعض أصحابه بأن يمسك عن المناظرة بحضرة المأمون، فبعد مناظراته (عليه السلام) لأصحاب الديانات وأهل المقالات في مجلس المأمون وإسلام عمران الصابئ على يده (عليه السلام)، قال محمد بن جعفر للحسن بن محمد النوفلي: يا أبا محمد، إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمه، أو يفعل به بلية، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء... (35). وفي حديث للحسن بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام، وذكر أسئلة القوم والمأمون له (عليه السلام) وجواباته عنها، وساق الحديث إلى أن قال: فلما قام الرضا (عليه السلام) تبعته فانصرف إلى منزله. فدخلت عليه وقلت له: يا ابن رسول الله، الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك. فقال (عليه السلام): يا ابن الجهم، لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني، فإنه سيقتلني بالسم وهو ظالم لي، أعرف ذلك بعهد معهود إلي من آبائي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاكتم هذا ما دمت حيا (36).
وهكذا فإن الإمام (عليه السلام) كان يدرك ما يضمره المأمون في نفسه من نوايا سيئة تجاهه، ويبصر بعلم مسبق أنه لا قاتل له سوى المأمون، ففي حديث إسحاق بن حماد، قال: كان المأمون يعقد مجالس النظر، ويجمع المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام) ويكلمهم في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتفضيله على جميع الصحابة، تقربا إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وكان الرضا (عليه السلام) يقول لأصحابه الذين يثق بهم: لا تغتروا بقوله، فما يقتلني والله غيره، ولكنه لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله (37).
ولم تقف نوايا السوء في نفس المأمون عند هذه الحدود، بل امتدت إلى محاولة قتل الإمام (عليه السلام) عدة مرات، منها ما رواه أبو الصلت الهروي، قال: كان مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ذات يوم جالسا في منزله، إذ دخل عليه رسول المأمون. فقال: أجب أمير المؤمنين. فقام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقال لي: يا أبا الصلت، إنه لا يدعوني في هذا الوقت إلا لداهية، والله لا يمكنه أن يعمل بي شيئا أكرهه، لكلمات وقعت إلي من جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال: فخرجت معه حتى دخلنا على المأمون. فلما نظر به الرضا (عليه السلام) قرأ دعاء ، فلما وقف بين يديه نظر إليه المأمون وقال: يا أبا الحسن، قد أمرنا لك بمائة ألف درهم، واكتب حوائج أهلك، فلما ولى عنه علي بن موسى بن جعفر (عليهم السلام) والمأمون ينظر إليه في قفاه ويقول: أردت وأراد الله، وما أراد الله خير (38).
وعن أحمد بن علي أنه قال: سألت أبا الصلت الهروي، فقلت: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (عليه السلام) مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟ فقال: إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا، فيسقط محله من نفوسهم، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلا ما ازداد به فضلا عندهم ومحلا في نفوسهم، جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعا في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة. فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له، إلا قطعه وألزمه الحجة.
وكان الناس يقولون: والله إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه، فيغتاظ من ذلك، ويشتد حسده له. وكان الرضا (عليه السلام) لا يحابي المأمون من حق، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله، فيغيظه ذلك، ويحقده عليه، ولا يظهره له، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسم (39).
المأمون يفصح عما في نفسه:
ومما يكشف لنا عن المغزى البعيد لولاية العهد، ما جاء في جواب المأمون لبني العباس ردا على اعتراضهم في البيعة بولاية العهد للإمام (عليه السلام)، حيث قال: وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى (عليه السلام) بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم، وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيئ، بيسير ما يصيبهم منه. وإن تزعموا أني أردت أن تؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم، وأنتم ساهون لاهون تائهون، في غمرة تعمهون، لا تعلمون ما يراد بكم (40).
فالمدلول الضمني لكلامه هذا أنه لم يكن يريد أن ينقل الخلافة من بيت إلى بيت، كما يتصور العباسيون، بل أراد أن يطوق ما كان منتظرا في ذلك الظرف من المضاعفات التي قد تسبب له ولخلافتهم الكثير من المتاعب وتعرضها لأسوأ الاحتمالات... وأخيرا لقد أفصح المأمون عن بعض أهدافه السياسية في جوابه لأحد المعترضين عليه في هذا الأمر، فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستترا عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذا قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنا نحتاج أن نضع منه (وضع منه: أي حط من قدره ومنزلته) قليلا قليلا، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه (41). وفي حديث وفاة الإمام (عليه السلام) برواية هرثمة بن أعين (لعله غير هرثمة القائد العباسي المشهور، بل الظاهر أنه من خواص الإمام عليه السلام وخدامه)، قال المأمون: يا هرثمة، هل أسر إليك [أبو الحسن] شيئا غير هذا؟ قلت: نعم. قال: ما هو؟ قلت: خبر العنب والرمان. قال: فأقبل المأمون يتلون ألوانا، يصفر مرة، ويحمر اخرى، ويسود اخرى، ثم تمدد مغشيا عليه، فسمعته في غشيته وهو يهجر ويقول: ويل للمأمون من الله، ويل له من رسوله، ويل له من علي، ويل للمأمون من فاطمة، ويل للمأمون من الحسن والحسين، ويل للمأمون من علي بن الحسين، ويل له من محمد بن علي، ويل للمأمون من جعفر بن محمد، ويل له من موسى بن جعفر، ويل له من علي بن موسى الرضا، هذا والله هو الخسران المبين، يقول هذا ويكرره (42).
والخلاصة أن الإمام (عليه السلام) كان متوجعا متألما من أفعال المأمون، مبديا ما يعتمل في أعماقه من المرارة والألم الذي يعاني منه، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئا إزاء إصرار الحكم العنيد عليه بالقبول لولاية العهد دون أن يملك لنفسه حرية الاختيار والحركة، فضاق صدره حتى كان يرجو من الله تعجيل وفاته، كما قال ياسر الخادم: كان الرضا (عليه السلام) إذا رجع يوم الجمعة من الجامع وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه وقال: اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت، فعجل لي الساعة . ولم يزل مغموما مكروبا إلى أن قبض (عليه السلام) (43).
المصادر :
1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 151 / 22، بحار الأنوار 49: 137 / 12، حلية الأبرار 2: 348
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 147 / 19، العوالم 22: 243 / 1، إعلام الورى: 335 - 336
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 165 / 28، بحار الأنوار 49: 142 / 19، العوالم 22: 277 / 2
4- مرآة الجنان 2: 10
5- تأريخ الطبري 8: 554.
6- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 91.
7- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 144 / آخر الحديث 10، العوالم 22: 428.
8- أعيان الشيعة 2: 15 و16.
9- سير أعلام النبلاء 10: 274، مختصر تأريخ دمشق 14: 108، الوافي بالوفيات 17: 656
10- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 167 / 3، بحار الأنوار 49: 163 / 3.
11- العوالم 22: 359 / 1، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 159 / 24، بحار الأنوار 49: 164 / 5.
12- تأريخ الطبري 8: 554.
13- الوافي بالوفيات 17: 661، سير أعلام النبلاء 10: 276
14- سير أعلام النبلاء 10: 278.
15- الدولة العباسية للخضري: 185.
16- تأريخ الخلفاء: 246
17- سير أعلام النبلاء 10: 283، الوافي بالوفيات 17: 659
18- سير أعلام النبلاء 10: 285.
19- مختصر تأريخ دمشق لابن منظور 14: 93.
20- دائرة المعارف الإسلامية 1: 492.
21- الأخبار الطوال: 401.
22- الأعلام للزركلي 7: 131.
23- مروج الذهب 4: 227.
24- الدولة العباسية: 200.
25- تأريخ بغداد 3: 369.
26- مروج الذهب 3: 413.
27- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 139 / 3، و339 / 3، علل الشرائع 2: 237 / 1،العوالم 22: 182 / 1، و485 / 2.
28- مروج الذهب 4: 227.
29- الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 250، عن الولاة والقضاة للكندي: 170.
30- سير أعلام النبلاء 10: 279.
31- مقاتل الطالبيين: 366.
32- الكافي 8: 151 / 134، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 164 / 29، بحار الأنوار 49: 124 / 20، و155 / 27.
33- العوالم 22: 276، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 151 / 22، بحار الأنوار 49: 137 / 12.
34- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 72 / 1، بحار الأنوار 49: 82 / 2، العوالم 22: 163 / 4.
35- التوحيد: 440، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 178.
36- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 200 / 1، بحار الأنوار 49: 284 / 4، العوالم 22: 466 / 3.
37- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 184 / 1، بحار الأنوار 49: 189 / 1، العوالم 22: 307 / 1.
38- مهج الدعوات: 33 - 34.
39- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 239 / 3، بحار الأنوار 49: 290 / 2، العوالم 22: 485 / 2.
40- العوالم 22: 335، عن الطرائف: 275، بحار الأنوار 49: 208 / 3.
41- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 170، العوالم 22: 344.
42- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 249، بحار الأنوار 49: 298.
43- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 15 / 34، بحار الأنوار 49: 140 / 13، العوالم 22: 34 / 1.


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مع الثورة الحسينية
وصاياالامام علي بن الحسين زين العابدين عليه ...
استهداف نبي الرحمة (ص) من الراهب بحيرى حتى براءة ...
كرامات السيدة المعصومة (عليها السلام)
من هو نفس الرسول
بناء الأمّة الصالحة
في كربلاء أفكار تنبض بالحياة
البدعة الحسنة والسيئة
الإمام الباقرعليه السلام وإصلاح الأمّة
عناصِرُ جَيش الامام ألإمام الحسن عليه السلام

 
user comment