عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

لماذا لم يظهر القائد

هب أنّ فرضية القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل ، وإمامة مبكرة ، وغيبة صامتة ، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً .
لماذا لم يظهر القائد

هب أنّ فرضية القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل ، وإمامة مبكرة ، وغيبة صامتة ، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً .
فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي ؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للاقتناع الكامل بالامام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المالوف ؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي وجوداً تاريخياً حقّاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس ؟
(هذه التساؤلات يطرحها السيد الشهيد محمد باقر الصدر رضي الله عنه بصفتها من الإشكالات التي أثيرت وتثار عادةً حول الامام المهدي عليه السلام ، وهي أقصى ما يثار في هذا الصدد ، حتّى إنّ بعض الكتّاب المعاصرين قد أثاروها أخيراً مدفوعين بدوافع غير علمية ، مصحوبة تلك الإثارة بضجيج مكثفٍ ، ومحاولات بائسة من الوهابية لترويجها وتبنيها ، ولا تخفى الدوافع بعد ذلك على أحد . وقد أجاب الإمام الشهيد بجواب علمي لمن يريد الحقيقة . راجع ما كتبناه في المقدمة أيضاً .)
والجواب : إنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الاعظم عموماً ، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً ، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك . وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق إخواننا أهل السنّة ، كما أُحصي مجموع الأخار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنّة فكان أكثر من ستة آلاف رواية ، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة .
وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به .
ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين :
أحدهما إسلامي .
والآخر علمي .
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائم المنتظر .
وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض ، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية .
أما الدليل الاسلامي :
فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل البيت عليهم السلام والتي تدلّ على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت (1) ..
ومن ولد فاطمة (2) ..
ومن ذرية الحسين (3) ..
وأنه التاسع من ولد الحسين (4) ..
وانّ الخلفاء اثنا عشر (5) . فإنّ هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة اهل البيت ، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفّظ الأئمة عليهم السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام ، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته (6) .
وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها ، فالحديث النبوي الشريف عن الائمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وأنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً ـ على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة ـ قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية (7) مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين (8) .
ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري ، وفي ذلك مغزىً كبير ؛ لأنه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سجّل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الاثني عشر فعلاً ، وهذا يعني أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له ، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الاثني عشر ، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري ، أمكننا ان نتأكد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى ، فقال : «إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر» . وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام عليٍّ وانتهاءً بالمهدي ؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف .
وأما الدليل العلمي :
هو يتكون من تجربة عاشتها أمّة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى . لتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى.
إنّ الغيبة الصغرى تُعبّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام فقد قُدّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة ان يستتر عن المسرح العام ويظلُّ بعيداً باسمه عن الأحداث وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله ، وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئة حققت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمة الاسلامية ؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كلّ عصر ، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوعة ، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية الفكرية ، سبّبت هذه الغيبة المفاجئة الإحساس بفراغٍ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله ، فكان لابدّ من تمهيد لهذه الغيبة ؛ لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج ، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها ، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام ، غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طرق وكلائه ونوابه والثقات من أصحابه الذين يشكلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي (9) .
وقد شغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم كما يلي :
1 ـ عثمان بن سعيد العمري .
2 ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري .
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح .
4 ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري .
وقد مارس هؤلاء الأربعة مهام النيابة بالترتيب المذكور ، وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهدي عليه السلام . وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام ، ويعرض مشاكلهم عليه ، ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية في كثير من الأحيان(10) .
وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة . ولاحظت أنّ كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي عليه السلام بخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً ، وكان السمري هو آخر النواب ، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنُواب معينين ، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات لوساطة بين الإمام القائد والشيعة ، وقد عبّر التحول من الغيبة الصغرى الى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافا وانتهاء مهمتها ؛ لأنها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام ، واستطاعت ان تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة ، وتعدّهم بالتدريج لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام ، وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين إلى خط عام ، وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين تبعاً لتحول الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى .
والآن بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدم ، لكي تدرك بوضوح أنّ المهدي حقيقة عاشتها أمة من الناس ، وعبّر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين ، ولم يلحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدة تلاعباً في الكلام ، أو تحايلاً في التصرف ، أو تهافتاً في النقل . فهل تتصور ـ بربك ـ أنّ بإمكان أكذوبة ان تعيش سبعين عاماً ، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها ، ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون ان يبدر منهم أي شيء يثير الشك ، ودون ان يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطئ ، ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع ، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنهم يحسونها ويعيشون معها ؟!
لقد قيل قديماً : إنّ حبل الكذب قصير ، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل ، وكلّ هذه المدة ، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء ، ثمّ تكسب ثقة جميع من حولها .
وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن ان تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته ، وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد (11) .
لماذا لم يظهر القائد إذن ؟
لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة ؟ وإذا كان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي ، فما الذي منعه من الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى او في اعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى ، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذٍ أبسط وأيسر ، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قوية ، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطور العلمي والصناعي ؟
والجواب : أنّ كلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف .
على الرغم من الأهمية التي يعطها الشهيد الصدر رضي الله عنه هنا للظروف الموضوعية ، ودور نضوجها أو إنضاجها في نجاح الثورات ـ وهذا فهم عميق لأثر العامل الاجتماعي والنفسي ـ إلاّ أنّ الشهيد الصدر رضي الله عنه يعرض نظرية جديدة في فهم عملية التغيير الاجتماعي الذي تحدثه السماء من خلال الرسالات السماوية ، فهي في جانبها الرسالي ترتبط بقانونها الخاص ، ولكن في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية وترتبط بها توقيتاً ونجاحاً ، وأعني بالظروف الموضوعية : الحالة السياسية والحالة الاجتماعية للأمة والواقع الدولي المعاصر ، ومدى قدرة الأمة في إمكاناتها الذاتية واستعدادها النفسي .
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية ؛ لانّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية ، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية ، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف . ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك .
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير ، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجوّ العام للتغيير المستهدف ، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية .
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها ـ مثلاً ـ لينين في روسيا بنجاح ، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الأولى وتضعضع القيصرية ، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير ، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة ، إذ لو كان قد اتفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح .
وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير ، ومن هنا لم يأت الاسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن .
فعلى الرغم من قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربانية وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز ، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب ؛ لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الانسان يفرض على العمل التغييري الرباني ان يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية ، وهذا لا يمنع من تدخل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أحياناً فيما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تكوّن المناخ المناسب وإنما قد يتطلبها أحياناً التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب ، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة ، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهم ، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم تُشلّ وتفقد قدرتها على الحركة ، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيمات الكفار والمشركين الذين احدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب (12) .
إلاّ أنّ هذا كله لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب ، والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكوّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية .
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي عليه السلام لنجد انّ عملية التغيير التي أُعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تُساهم في توفير المناخ الملائم لها ، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقّت وفقاً لذلك . ومن المعلوم أنّ المهدي لم يكن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود ، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك ؛ لأنّ رسالته التي اُدّخر لها من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي تغيير العالم تغييراً شاملاً ، وإخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل ، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح وإلاّ لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات ، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً ، وجوّاً عاماً مساعداً ، ويحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية .
فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل اجديدة ، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى ، مدركاً حاجته إلى العون ن متلفّتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول .
ومن الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كله ، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات ، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض ، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة .
وأما ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي واجهها القائد في اليوم الموعود كلّا أجّل ظهوره ، فهذا صحيح ، ولكن ماذا ينفح نمو الشكل المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل ، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كلّ تلك القوى والأدوات ؟ وكم من مرّة في التاريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأول لمسة غازية ؛ لأنه كان منهاراً قبل ذلك ، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه .
لقد شاهدنا في بداية التسعينات المصداق لهذه المقولة التي أطلقها الشهيد الصدر رضي الله عنه استناداً إلى خبرته العميقة بالمجتمع البشري ، فقد انهار الاتحاد السوفيتي وهو أحد القطبين اللذين كانا يهيمنان على العالم انهياراً سريعاً جداً ، وبصورة أذهلت الجميع .
وهل للفرد كلّ هذا الدور ؟!
هل للفرد مهما كان عظيماً القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم ؟ وهل الفرد العظيم إلاّ ذلك الإنسان الذي ترشحه الظروف ليكون واجهةً لها في تحقيق حركتها ؟
والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظر معينة للتاريخ تفسره على أساس أنّ الإنسان عامل ثانوي فيه ، والقوى الموضوعية المحيطة به هي العامل الأساسي ، وفي إطار ذلك لن يكون الفرد في أفضل الأحوال إلاّ التعبير الذكي عن اتجاه هذا العامل الأساسي . (13)
ونحن قد أوضحنا في مواضع أخر من كتبنا المطبوعة أنّ التاريخ يحتوي على قطبين : أحدهما الإنسان ، والآخر القوى المادية المحيطة به . وكما تؤثر القوى المادية وظروف الإنتاج والطبيعية في الإنسان ، يؤثر الإنسان ايضاً فيما حوله من قوى وظروف ، ولا يوجد مبرر لافتراض العكس ، فالإنسان والمادة يتفاعلان على مرّ الزمن ، وفي هذا الإطار بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببغاء في تيار التاريخ ، وبخاصة حين ندخل في الحساب عامل الصلة بين هذا الفرد والسماء
. فإن هذه الصلة تدخل حنيئذٍ كقوة موجّهة لحركة التاريخ . وهذا ما تحقق في تاريخ النبوّات ، وفي تاريخ النبوّة الخاتمة بوجه خاص ، فإنّ النبيّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بحكم صلته الرسالية بالسماء تسلّم بنفسه زمام الحركة التاريخية ، وأنشأ مدّاً حضارياً لم يكن بإمكان الظروف الموضوعية التي كانت تحيط به أن تتمخض عنه بحال من الأحوال (14)
وما أمكن أن يقع على يد الرسول الاعظم يمكن ان يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته الذي بشّر به ونوّه عن دوره العظيم (15).
ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود ؟
والجواب المحدد عن هذا السؤال يرتبط بمعرفة الوقت والمرحلة التي يقدّر للإمام المهدي عليه السلام ان يظهر فيها على المسرح ، وإمكان افتراض ما تتميز به تلك المرحلة من خصائص وملابسات لكي ترسم في ضوء ذلك الصورة التي قد تتخذها عملية التغيير ، والمسار الذي قد تتحرك ضمنه ، وما دمنا نجهل المرحلة ولا نعرف شيئاً عن ملابساتها وظروفها فلا يمكن التنبؤ العلمي بما سيقع في اليوم الموعود ، وإن امكنت الافتراضات والتصورات التي تقوم في الغالب على أساس ذهني لا على أسس واقعية عينية .
وهناك افتراض أساسي واحد بالإمكان قبوله على ضوء الأحاديث التي تحدثت عنه والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التاريخ ، وهو افتراض ظهور المهدي عليه السلام في أعقاب فراغ كبير يحدث نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتدّ ، وهذه النكسة تهيّء الجو النفسي لقبولها ، وليست هذه النكسة مجرد محادثة تقع صدفة في تاريخ الحضارة الإنسانية ، وإنما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ التي لا تجد لها في نهاية المطاف حلاًّ حاسماً فتشتعل النار التي لا تبقي ولا تذر ، ويبرز النور في تلك اللحظة ؛ ليطفئ النار ويقيم على الأرض عدل السماء .
المصادر :
1- الحاوي للفتاوي / السيوطي 2 : 213 و 215 صحيح سنن المصطفى 2 : 207 ، وسننن ابن ماجة 2 : 1367 / 4085 . معجم أحاديث المهدي 1 : 147 .
2- الحاوي للفتاوي / السيوطي جلال الدين 2 : 214 / صحيح سنن المصطفى لأبي داود 2 : 208 .
3- السيرة الحلبية 1 : 193 / (دفاع عن الكافي 1 : 296) .
4- ينابيع المودة لقندوزي الحنفي : ص 492 / مقتل الإمام الحسين للخوارزمي 1 : 196 ،/ فرائد السمطين للجويني الشافعي 2 : 310 ـ 315 الأحاديث من 561 ـ 569
5- صحيح البخاري 9 : 101 كتاب الأحكام / صحيح مسلم 2 : 119 كتاب الإمارة . مسند أحمد 5 : 90 ، 93 ، 97 .
6- الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر : ص 272 وما بعدها .
7- التاج الجامع للأصول 3 : 40 .
8- صحيح البخاري / المجلد الثالث / 9 : 101 /التاج الجامع لأصول 3 : 40 / سنن أبي داود 2 : 207 . ومسند الإمام أحمد 5 : 93 ، 100 . والمستدرك على الصحيحين 3 : 618
9- دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1 : 568 وما بعدها .
10- الاحتجاج / الطبرسي 2 : 523 وما بعدها .
11- الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر : ص 639 وما بعدها .
12- تاريخ الطبري 2 : 244 حوادث السنة الخامسة من الهجرة .
13- اقتصادنا 1 : 19 ، وفيه تحليل علمي ومناقشة فلسفية عميقة بقلم الإمام الشهيد الصدر رضي الله عنه .
14- المقدمة الثانية في الفتاوى الواضحة : ص 63 .
15- التاج الجامع للأصول 5 :


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

لمحة إجمالية في أدلة انقطاع النيابة الخاصة في ...
الملامح الشخصية للامام المهدي عليه السلام
عظمة الإمام المهدي (عج) عند الأئمة (ع) والصالحين
امام مہدی علیہ السلام اولادعلی (ع)سے ہیں
انعقاد مؤتمرالقضية المهدوية في مدينة قم
الإمام المهدي عجّل الله فَرَجه والعلم الحديث
المدينة الفاضلة
ماذا خسر المسلمون من إبعاد أهل البيت (عليهم ...
الإمام المهدي (عج) والخلاص العالمي
أسانید علامات الظهور

 
user comment